ماهر منصور*
يبدأ المسلسل الإماراتي “القياضة” من حيث انتهى جدل توظيف التراث في النص المسرحي العربي، فيما يتقدم خطوة واحدة نحو ترسيخ هوية للمسلسل التراثي في الدراما الخليجية، فهو يأخذ من تجربة المسرح آليات استلهام التراث في النص المسرحي لناحية إحيائه القيم والعادات النبيلة، وإبراز عوامل هويتنا المميزة والوحدة الاجتماعية، ويقوم بدمجها بشروط الفرجة الدرامية بكل ما تنطوي عليه من عوامل تشويق وتسلية ورسالة إنسانية.
وفق تلك الرؤية يأتي مسلسل “القياضة2” حصيلة خبرة كاتب قصته ومنتجه محمد سعيد الضنحاني كمؤلف مسرحي أنجز عدة نصوص مسرحية تستلهم تفاصيل تراثية وتاريخية، أبرزها مسرحية “الغافة” التي قام بتحويلها لاحقاً إلى مسلسل تلفزيوني، وفي العملين قدم معالجة لحقبة الأربعينيات من القرن الماضي مستعرضاً الأنساق القيمية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك. انطلاقاً من حادثة شهيرة وقتها هي انتشار الجدري في المنطقة وما ترتب عليها. وعاد الضنحاني ليوثق من خلال مسلسله “وديمة” صوراً من حياة الإمارات في خمسينيات القرن الفائت، وصولاً إلى فترة السبعينات، وهي فترة تشكل فاصلة زمنية مهمة في حياة الإماراتيين، إذ ينتقل العمل من فترة ما قبل الاتحاد ومروراً بما بعده، مستعرضاً التغييرات التي طرأت على المجتمع الاماراتي بشكل عام، والمراحل التي انتقل فيها…وما بين المسرح والتلفزيون، بدت تلك الأعمال كما لو أنها تؤسس لملامح مشروع درامي تراثي، وجد تعبيره الأبلغ و الأنضج أيضاً في مسلسل “القياضة” الذي يعرض الجزء الثاني منه خلال شهر رمضان المبارك على قناة “سما دبي”، ويقدم في جزء من حكاياته أرشفة تاريخ المنطقة الشرقية وانتقال السكان من الساحل الشرقي الى الغربي وملامح البلاد في ستينيات القرن الفائت ومن أبرز تلك الملامح، ما يعرف بأيام المقيض، أو القياضة، حيث كانت تقوم القبائل القادمة من مختلف إمارات الدولة، بالتوافد، أثناء فترة الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة، إلى مدينة دبا الفجيرة المطلة على مياه الخليج العربي، لما تتمتع به من طقس معتدل، وإضافة إلى تقديمه نماذج عن الأنماط المعيشية السائدة في تلك المرحلة، والصعوبات الحياتية التي كانت تعصف بحياة الناس وقتها، ومنها صور الصراع الإنساني آنذاك مع الطبيعة، وهو ما قدمه العمل من خلال معادل درامي فني، بمشهد طويل لعاصفة ماطرة قوية تغرق بيوت القرية وشوارعها، وتسقط الأشجار وتحيل البحر إلى جحيماً يداهم السفن في عرض البحر، وتقتل الصيادين عليها.
كما يستعرض العمل عدد من المهن التراثية وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تنشأ من خلالها، مثل مهنة جمع العسل قديماً والقوانين التي تحكمها وما يترتب عليها من علاقات اجتماعية وسواها، ومهنة (الغبرة) وهي عملية صنع أعلاف الأبقار والثيران قديماً.
إنتقاء جملة التفاصيل والعادات والتقاليد التراثية السابقة، جاء ضمن مقترج درامي حكائي ينطلق منها في بنائه الدرامي، أو تشكل إطاراً وبيئة حاضنة له، فمن رحم العلاقات الاجتماعية التي تنشأ أيام المقيض ستولد قصة الحب التي تجمع سليمان ابن دبا الفجيرة بالصبية عليا، التي تأتي مع عائلتها أثناء فترة الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة إلى مدينة دبا الفجيرة، وهي القصة التي ستشكل العامود الفقري لحكاية العمل على مدار جزئيه، حيث نشهد في الجزء الأول من المسلسل تحولات في علاقة العاشقين ومحاولات للإيقاع بينهما، حيث يفترق العاشقان ليبدأ كل منهما رحلة عذاباته، قبل أن يعودا ليجتمعا في الجزء الثاني من العمل، ويلجأان عند الشخص المخول بعقد الزواج شرعاً “المليك”، ليعقد قرانهما بعيداً عن عيون من خرجوا للبحث عنهما، ولاسيما ابن عم سليمان مانع الذي يبحث عنهما أيضاً طمعاً بنيل مكافأة العثور عليهما والزواج بالفتاة عليا.
وبالمثل سيحاك الخط الدرامي الخاص بشخصية أبي ابراهيم، حيث تمتد النيران التي تعد عليها “الغبرة” (علف الحيوانات) لتشتعل بنخل أبي إبراهيم وتمتد إلى البيوت الأخرى..وفوق هشيم الحريق سيبني أبو ابراهيم كوخاً صغيراً وسط النخيل المحترق ليعيش فيه على حفنة ذكريات ستقضي عليه لاحقاً كورم سرطاني يتمدد فيه حزناً وكمداً.
حكايات القياضة الدرامية ستخوض عباب البحر مع حكايات النواخذة، وستصعد إلى الجبال، لتقدم طبيعة العلاقت الاجتماعية هناك على خلفية مهنة قديمة أخرى هي جمع العسل.. وفي كل ستخلط عناصر الفرجة البصرية بالطابع التراثي لتلك الفترة لتشكل بمجملها نسيجاً ملائماً للحكاية الدرامية.
توظيف التفاصيل السابقة في البناء الدرامي لحكاية “القياضة” سيعكس “فهماً للتراث”، كما تدعو الدكتورة نهاد صليحة عند التعامل مع التراث في كتابها “المسرح بين الفن والفكر” لا إحياء له، ففيه تمتزج البنية الدرامية للعمل مع ما هو تراثي فيها ليقدم عالماً من لحم ودم، له هويته المميزة ومقولاته التي تضرب جذورها في أعماق وجدان الناس.
ويبدي صناع مسلسل “القياضة” فهماً على صعيد الشكل الفني لمقولة الكاتب والناقد المسرحي الألماني غوتولد إفرايم ليسنغ في “إن الفن يجب أن يتغذى من جذور شعبية، ولكن هذا لا يعني حتمية العودة إلى الأشكال البدائية للإبداع الفني”، فسيتعين رغم خصوصية العمل الإماراتية شديدة المحلية، بمخرج درامي من خارج هذه البيئة، وفي هذا السياق، يقول منتج العمل محمد سعيد الضنحاني أننا “اخترنا أن ننحاز لمخرج يجيد إدارة أدواته الفنية بما يخدم الوثيقة، وينقلها إلى الناس، لكن هاجسه الأساسي يبقى حكايات العمل الدرامية، بكل ما فيها من تفاصيل الحياة ومفرداتها، فالجانب التوثيقي في مسلسل “القياضة”، يضمنه النص المكتوب، والمستند لمعايشة البيئة المطلوبة، واستشارات ذوي الاختصاص في الجوانب التراثية والتاريخ، أما الجانب الجمالي- الفني في العمل، فيتطلب عين فنان خبيرة لالتقاطه، يبقى على مسافة من التراث والعادات فلا يهملها ولا يقع أسيراً لها”.
التوزان بين ما هو تراثي وما هو درامي جمالي هو سمة خاصة بدراما “القياضة” بجزئيها، وبمقدار فهم طبيعة العلاقة بينهما بمقدار ما ترسخ الدراما التراثية ملامحها بوصفها تأصيلاً للموروث في حيواتنا، الآن وهنا، كأسلوب حياة، لا مجرد حكاية تشبه حكايات الجدات، نستحضرها استجابة لنوستولوجيا حنين إلى ماض جميل.
مسلسل “القياضة” إنتاج شركة “أرى الإمارات للإنتاج الإعلامي”، تأليف وأشعار محمد سعيد الضنحاني وسيناريو فيصل جواد، إخراج سلوم حداد، وبطولة نخبة من نجوم الإمارات والخليج العربي.
* ناقد فني من سوريا