ربيع مفتاح
إذا كان عالم النص المفتوح قد استهوى روائيين أمثال يوسا وجونترجراس وآخرين، فراحوا يغترفون ما شاء لهم من بين دفتي التاريخ ووظفوا الوثيقة والمعلومة من أجل إبداع روائي مغاير ومختلف، والمقصود بالتاريخ هنا هو تاريخ الناس عامة، الناس وليس الأبطال المعروفين فقط، فهكذا فعل الروائي فتحي إمبابي في روايته “عتبات الجنة”، حيث أسطورة الاثني عشر ضابطًا.
تناولت الرواية الفترة التالية للثورة العرابية، حين صدر قرار بحل الجيش المصري، ثم قررت بعدها الحكومة إرسال اثنى عشر ضابطا مصرياً في مهمة بأعالي النيل.
حاول الكاتب تصوير حياة هؤلاء الضباط الذين كانوا من الثورة العرابية وعفي عنهم بعد الحكم الإعدام ليذهبوا إلى هذه المهمة العسكرية لبسط النفوذ المصري وقياس النيل والقضاء على الحركة المهدية. جاء في الرواية صفحة 207: في الخامس عشر من سبتمبر 1883 وصلت العاصمة لادو من الخرطوم أنباء جيدة جعلت أمين بك يعقد اجتماعاً لكبار رجال المديرية أعلن فيه كابتن كازاتي برصانة وتجهم أن الجيش المصري بقيادة الجنرال البريطاني العظيم هكس باشا الذي أوقع بجيش الإمام المهدي المزعوم هزيمة قاسية في موقعة كاوة.
تعامل الكاتب مع هذه الفترة التاريخية من خلال رواية طويلة تقع في 418 صفحة من القطع المتوسط ومكونة من سبع عتبات هي: سكرات الموت، البرزخ، المطهر، اليداءة، طقوس الدم، تباريح الهوى، طبول الحرب. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل توجد علاقة بين عتبات الجنة وهذه العتبات السبع؟ أم أن هذه عتبات وتلك عتبات أخرى؟
سكرات الموت والبرزخ تنتميان إلى عتبات الجنة؟ ربما وربما لا يتحقق ذلك في العتبات الأخرى أو أن الكاتب قصد أن يكتشف القارئ ذلك بنفسه وهذه أيضا تقنية روائية موظفة في الرواية.
بدأت الرواية بهذا الإهداء: إلى ضباطنا وجنودنا.. الذين يقاتلون دفاعاً عن الوطن في معركة الإرهاب الدرامي. نرعاكم ونقف أمامكم وبجانبكم وخلفكم. شهداؤكم في القلب أبداً.
بهذا الإهداء نعثر على القاسم المشترك بين ما هو تاريخي وما هو آني، وهو الجيش المصري الذي تعرض لمحاولات يصعب حصرها من أجل تقويضه والقضاء عليه أو إضعافه أو تحييده أو محاولة عزله عن شعبه، الذي هو جوهر تكوينه، ومن ثم يكتمل الإهداء بالآتي: على شرف أسطورة الاثني عشر ضابطاً في خط الاستواء. قاتلوا دفاعا عن وادي النيل العظيم، وقد حفلت الرواية بجماليات كثيرة. ولم يترك الروائي أية تقنية روائية إلا ووظفها داخل بنية العمل الروائي، وقد ساعده على ذلك قدرته الفائقة على التصوير، تصوير الأحداث والشخصيات والأماكن والطبيعة بكل ما فيها من حيوانات وطيور ووحوش وجبال ووديان من خلال سرد يطعمه البيان ويرفده الخيال. ورغم أن بعض الأعمال الروائية تقترب من روح التاريخ وتنأى عن روح النص الروائي، فإن الطريقة التي تعامل بها الروائي فتحي إمبابي مع المادة التاريخية كان الهدف منها إعادة اكتشاف. وكأن الفن بمثابة الروح التي تجعل الشخصيات التاريخية تنبض بالحركة والحياة.
حفلت الرواية بالشخصيات التاريخية وغير التاريخية والشخصيات المتخيلة خلال سياق روائي محوره البحث عن دواء مشاف للمحن التي تعرضت وتتعرض لها الأمة المصرية عبر تمثيل سردي مبدع للتاريخ.
احتشدت الرواية بالخرائط والصور والإشارات المرجعية واستخدام أشكال مختلفة وأنواع متعددة من الخطوط والاستشهاد بالآيات القرآنية والمأثورات والوثائق والأشعار والأساطير واللوحات وصور الشخصيات. كما ذكرت في البداية، فهو نص روائي مفتوح خرج على معظم الأطر التقليدية وانفتح على مفردات الحياة واشتمل على فنون الحرب والصراع والحب والجسد والطبيعة.
إنها كتابة عابرة للفن الروائي تحاول تحقيق أكبر قدر ممكن من الإشباع المعلوماتي والبصري المعنوي والحسي، الطبيعي والوجودي، الجمالي والمعرفي.
ومن خلال القراءة المتأنية لهذه الرواية نرى هذا التوازن بين عالم الواقع بكل أحداثه وشخصياته الحقيقية كما ورد في الوثائق وعالم الخيال بما فيه من دروب لغوية وأسلوبية وشاعرية وتقنيات روائية مستحدثة وأيضا محاولة أسطرة التاريخ “تحويله إلى أساطير”.
وليس من قبيل المجاز أن يصبح القائمقام حواش منتصر أسطورة خط الاستواء، يظهر السياق الأسطوري للرواية من خلال هذه السردية الصغيرة وهذا على سبيل المثال، وليس الحصر الآن تعلم أن عنب الجنة وحصرمها ليس سوى حلاوة الشفاة التي أطبق عليها مصرانيم بن نوح وهو يركع ذليلاً على عتباتها.
الآن تعلم أن العالم جوهرة لحم أنثى خلقه الله ليقهر رجال العالم بجاذبيته الآسرة، استوعبت الرواية كل ما هو كتابي من خلال معمار روائي يتفاعل داخله الحقيقي مع الأسطوري والتاريخي مع الخيالي.
بوابة الاهرام