محمد تركي الربيعو
في واحدة من أجمل الحكايات الحافلة بالرؤى الرمزية للصوفي شهاب الدين يحيى السهروردي (1115-1191) وهي «رسالة الطير»، تروي قصة مجموعة من الطيور وقعت في الفخ، ولكن حينما أوشكت على الهروب والطيران بعيدا، انتبهت إلى أن بعض المواد من الفخ القديم ما زالت ملتصقة بأجنحتها وتمنعها من الطيران. وقد وصف السهروردي أدوات الفخ التي بقيت عالقة في الطيور عبر استعماله لكلمتين: «داهلها وبندها»، حيث تشير كلمة بندها تحديدا إلى صيغة الجمع لكلمة «طوق»، بينما تنطوي كلمة «داهلها» (أي فزاعة أو طعم) على مسألة مفارقة مزدوجة بخيال جامح ـ الأول يصطنع صورة إنسان ليخيف الحيوانات ويبعدها، والثاني يصطنع حيوانا يجتذب الحيوانات الحقيقية ـ الأهم من هذا المعنى أن هذه الحكاية الرمزية تساعدنا برأي حميد دباشي، أستاذ الدراسات الايرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية، على تجاوز العقبات الرئيسية في فهم الانتفاضات التي جرت في آسيا وأفريقيا (من الثورة الخضراء إلى الربيع العربي). ذلك أن الداهلون في هذه الحالة، هم المراقبون الذين يشوشون على الحقيقة، ممن نسميهم بدكاترة القص الذين لا يظهرون على هذا النحو لغرض إرباك المتابعين، بل لأنهم هم أنفسهم مشوشون يغطون أعينهم كي لا تبصر الحقيقة جيدا. فحينما هتف المصريون في القاهرة والسوريون في دمشق: «الشعب يريد إسقاط النظام»، فإن كلمة النظام هنا لم تكن تعني النظام الحاكم فحسب، وإنما نظام إنتاج المعرفة، الذي بقي ينصرف إلى تشويه الواقع عن طريق جعله قابلا للفهم في شكل كليشيهات بائدة قديمة، ونمط معرفة يفضي إلى الهيمنة، اي هيمنة «الغرب على الشرق» والنظام الحاكم على الشعب المتحدي. ولذلك يرى دباشي في كتابه الصادر حديثا بالعربية «الربيع العربي: نهاية حقبة ما بعد الاستعمار» دار نون للنشر، أنه لطالما كانت مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» في الولايات المتحدة، القلب الخيالي لـ»الامبراطورية»، هي المهتم الرئيسي في صناعة هذه القراءة الاثنوغرافية لثقافات الآخر المختلف وبيئاته، بيد أن هذه المعرفة بالآخر لم تقدم إلا القليل عن الثقافات والبيئات التي درستها، ولكنها قدمت الكثير عن هذا العزل الديموغرافي المنظم للعالم، وكثيرا ما صورت الشعب العربي والمسلم باستمرار، على أنه الآخر الذي يشكل خطرا على سكان أمريكا الشمالية. ولذلك لم تقم الـ»ناشيونال جيوغرافيك» في الواقع بـ»عرض» تلك الثقافات، وإنما قامت بتصنيعها. وفي نقد مجرد لهذا العرض، يمكن القول إن العروض كلها هي تحريفات، كما أن التحريفات كلها هي عروض، فما تفعله مجلات كـ»الناشيونال جيوغرافيك» والطيف الكامل لوسائل الإعلام العامة الذي تمثله في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، هو ليس عرض الواقع، وإنما تقديمه: أي تشكيله وتصنيعه وهندسته.
فمن خلال سرديات كهذه وتسجيلات بصرية وزاوية النظر واللون واللقطات في التصوير، وما إلى ذلك هم يصورون فضاء «لا غربيا» من أجل تأكيد وجود مركزية يمثلها الغرب، بحيث بقي التصنيع الإثنوغرافي لـ»غير الغربي» هو هندسة للمركزية المفاهيمية لـ»الغرب»، ومن هنا كانت «ناشيونال جيوغرافيك» هي مرآة الآخر، فعن طريق التحديق بها، سيؤمن «الغرب» بنفسه، وإذا فقد «الغرب» عدساته الإثنوغرافية، فإنه سيتوقف عن الوجود، لأنه عندها لن يكون لديه ما ينظر إليه ـ في مرآته- بوصفه صورته المعكوسة. ومن هنا يعتقد دباشي أن الربيع العربي هو زوال تلك المرآة، إنه نهاية زمن «الناشيونال جيوغرافيك» في العالم العربي والإسلامي.
إعادة رسم خريطة العالم: انتفاضات ضد الإمبراطورية أم ضد الإمبريالية
ويواصل دباشي رؤيته المثيرة للاهتمام، ليرى أنه إذا تركنا ضباط الدعاية الإمبريالية الأمريكية مثل فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ وصاموئيل هنتنغتون «صراع الحضارات» خارج الصورة، فإن أكثر الجهود بسالة لفهم عالمنا خلال العقد الفائت تمثلت في الأطروحات الجماعية المتبصرة لميشيل هارت وانطونيو نيغري، حيث يذهب الكاتبان إلى أن طبيعة الرأسمالية المعولمة والشبكة الهائلة لتكنولوجيا المعلومات والبيروقراطية المالية والسياسية التي ولدتها، قد تغلبت على إمكانية السيطرة الإمبريالية المنفردة لأي عاصمة كبرى، وهما يعتقدان أننا خرجنا من عصر الإمبريالية ودخلنا في حقبة الإبراطورية، التي لا تستند إلى مركز جغرافي للسلطة. لكن رغم أن هذه الطريقة في فهم عالمنا مثيرة ومحررة للذهن، لكن حين نتأملها عن قرب نجد أن مفهوم هارت ونيغري لـ»الامبراطورية» يظل قائما في تكوينه الأساسي على المركزية الأوروبية، بل على الاعتراف بهذا النصر والبحث عن طرق للمقاومة من داخله. الأكثر من ذلك- برأي دباشي أنه ثمة لاهوتية مسيحية تغوص عميقا وراء هذه المركزية الأوروبية وتشكل فهمهم لسياسات المقاومة في أبكر كتاباتهما (الإمبراطورية)، فثنائية التحايث (الاقتصار على نطاق محدد) والتجاوز التي يقترحها هارت ونيغري كطريقة للتمييز بين الإمبريالية والإمبراطورية هو تمييز يكشف عن مسيحانية شفافة، لكن كان علينا الانتظار حتى صدور كتابيهما «الكومنولث» الذي استخدما فيه المفهومين المتصادفين /حب وفقر/ ليتضج لنا أننا وبحق في حضور مفكرين مسيحيين بشدة، يحاولان تمسيح العالم من خلال علمانية (ماركسية) متنكرة، إنه استعمار مسيحي لقدراتنا النقدية، بالتأكيد ليس هنالك أي ضير في أن مسيحيين ماركسيين يريان العالم من خلال نظارتيهما المسيحيتين، ولكن المشكلة هي في مدى صلاحية ذلك المنظور بالنسبة للعالم غير المسيحي.
حروب السرديات ( الإسلام البروتستانتي):
في الوقت نفسه يشير دباشي إلى حالة الارتباك وحروب السرديات التي عاشتها وسائل الإعلام الأوروبية حيال قراءة الربيع العربي، وكيفية دمجه تحليليا في نظام المعرفة السائد. ففي مقال مثير سعت الإيكونومست إلى دمج الربيع العربي في إطار الصعود العالمي للطبقة الوسطى، انطلاقا من أن الرأسمالية القديمة الطيبة هي الحل بالنسبة لمعضلة المسلمين. وبرأي الصحيفة فإن الطبقة الوسطى (كناية عن اقتصاد السوق الحرة الليبرالي الجديد) تتجاوز الإسلاموية الآن، ويتولى المسلمون بأنفسهم دفة القيادة في هذا الاتجاه. ومن هنا فإن الانتفاضات هي من أجل المزيد (لا القليل) من تحرير الوحشية، والمزيد (لا القليل) من تحرير الوحشية الليبرالية الجديدة المسماة «اقتصاد السوق الحرة». كما أن ما تريده هذه الطبقة الوسطى، هو الحصول على نمط الديمقراطية الأمريكية والأوروبية: حيث تشير الجريدة إلى دراسة استقصائية لـ12 سوقا ناشئة ، قام بها «مشروع بيو لاستطلاع المواقف العالمية» في واشنطن العاصمة، تظهر من خلاله أن الطبقة الوسطى تعطي باستمرار وزنا أكبر لحرية التعبير والانتخابات النزيهة أكثر من الفقراء الذين يهتمون أكثر من الطبقة الوسطى بالتحرر من الفقر.
وهكذا، بالنتيجة، فإن الشعب إما أن يكون فقيرا وإسلاميا (وبالتالي عرضة للعنف الطائفي)، أو من الطبقة الوسطى وداعيا للديمقراطية على النمط الأمريكي. ولم يقتصر هذا الطرح على وسائل الإعلام، بل نجد بعض الأكاديميين من أمثال ولي نصر مؤلف كتاب «صعود قوى الثروة: نهضة الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي» يعتقد أنه لا يوجد أي تفسير لنشاط الطبقة الوسطى الجديد، فنظرا لارتفاع أعدادهم ربما كان ما حدث محتما، وكان لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، بالتأكيد دور في إحداث الفارق، ولذلك نجد بحسب دباشي – أن الخطوة الأولى لهذه الفرضيات هي عولمة الظاهرة وإخراج العناصر العربية والإسلامية من الموجة الثورية، وبالتالي يجري بناء متخيل جديد عبر تقديم الطبقة الوسطى ومواقع التواصل الاجتماعي على أنها التفسير لانتفاضة عابرة للحدود القومية، أطلقها بائع فاكهة متجول قام بإحراق نفسه بسبب يأسه من الأوضاع الاقتصادية.
وبذلك تغدو هذه هي الطريقة التي يريد بها الدكاترة تلفيق القصص. بيع الانتفاضات الثورية لأنفسهم ولأي شخص آخر قد يشتري قصتهم، وبالتالي يفرضها على الثورات الآخذة بالحدوث: «في هذه اللحظة، نشاط الطبقة الوسطى هو حركة احتجاجية، وليس قوة سياسية بالمعنى الأوسع «وهذا يعني، أنها حركة طبقة وسطى كشفت وقامت ضد فساد القادة، وفقر الفقراء المسلمين وهذه العلل المتصلة ببعضها، ستتم معالجتها بالرأسمالية المعولم.
نقطة الذوبان الأيديولوجي:
لكن رغم هذه السرديات الساعية لاستيعاب هذه الانتفاضات الثورية، وإدراجها في الأطر التي يفضلونها والتي تتناسب وغاياتهم الخاصة، يبقي دباشي مؤمنا بأن هذه الانتفاضات الثورية هي «ما بعد ايديولوجية»، أي بمعنى أنها لم تعد تناضل وفقا لشروط تمليها حالة استعمارية تسمى مجازا «ما بعد الاستعمارية». فنهوض الحركة الخضراء في إيران وانفجارها لاحقا في العالم العربي، إنما تدل على اكتشاف دنيوية جديدة واستعادة الثقة في أهمية الانتماء للعالم، كما تشير بشكل واضح لما يدعوه بـ»الحداثة المجتمعية» التي حلت محل المحاولات الفاشلة في الحداثة السياسية التي كانت تعبر عن مشروع مهزوم، لأنها قامت على سردية شاملة تحتوي على سرديات ايديولوجية كبرى وذات نزعة مطلقة، أنتجت ثلاث سرديات كبرى مختلفة ومنمطة: القومية المناهضة للاستعمار واشتراكية العالم الثالث والإسلاموية المحاربة.
في إيران مثلا تمكنت الإسلاموية المحاربة من التفوق على الآيديولوجيتين الأخريين وفككت واستهلكت قوتيهما ودمرت تنظيماتهما وقتلت قياداتهما ونجحت في إقامة جمهورية إسلامية، سلطة دينية قاسية اتقنت الاستبداد حتى بلغ شكلا فنيا، كان ذلك نجاحا متناقضا ظاهريا، لأن الإسلاموية المحاربة الإيرانية انتصرت على منافسيها، لكنها في الوقت ذاته استزفت نفسها معرفيا، إذ أن براعتها الايديولوجية قد تخطتها أحداث التاريخ وجعلتها متقادمة، ولم تقتصر النتيجة على نهاية الإسلاموية أو بداية ما بعد الإسلاموية، كما رأى بعض الباحثين كآصف بيات، بل نهاية الآيديولوجيات المتأثرة بالظرف الاستعماري، وبداية خاتمة صاعقة للآيديولوجيات ذات النزعة المطلقة جميعها التي تشكلت في ظل نزاع جدلي بين الامبرياليتين الأوروبية والأمريكية.
لكنه يؤكد هنا على أن نهاية الإسلاموية السياسية كما عرفناها، لا تعني أن الإسلام لن يؤدي دورا في السياسة الناشئة: بل سيكون له دور لأن المسلمين سيكونون جزءا لا يتجزا من تلك السياسة، وما يعنيه ذلك هو أن التناقض الآيديولوجي بين الإسلام والغرب قد استنفد نفسه معرفيا، وأن الإسلام كدين عالمي يسترجع سياقه الفطري العالمي، وفي ظل مظهره الجديد سيكون عليه أن يواجه القراءة الماهوية للإسلام بحد ذاته بشكله الذي اخترع من قبل جيوش من المرتزقة المستشرقين والمثقفين المحليين على حد سواء.
القدس العربي