موسى حوامده*
يعيش الشعر العربي اليوم، فترة زلزال كوني، لقد فتحت قصيدة النثر الباب واسعاً لكل من شاء الكتابة، ولعدم وجود قالب أو نمط معين لقصيدة النثر، صارت الكتابة سهلة، صحيح أن معيار الوزن والتفعلية لا يعدُّ نمطاً مثالياً، وأهمية قصيدة النثر تنبع من كسرها للنموذج والمثال، فليس بالضرورة أن يكون للشعر وصفة جاهزة، تطبق حرفياً، فتنتج قصيدة جميلة، وإلا لصارت كتابة القصيدة عملية رياضية، أو تطبيقا لفهم مؤطر، بينما الشعر خارج على النظريات والأرقام والنماذج، ولا يقاس الأدب عموماً، كما تقاس العمليات الحسابية والنظريات العلمية.
حالة عدم التعريف للقصيدة -وهي غير ضرورية بالمناسبة-، وحالة عدم وجود المثال، والرؤية المختلفة لكتابة قصيدة النثر، فهمها البعض باعتبارها رخصة للكتابة، فصار كل من يستطيع تجميع الكلام كاتباً، وصار كل من يقدر على مسك القلم، او استخدام لوحة مفاتيح الحاسوب، لا يريد التعبير عن نفسه فقط، بكتابة خاطرة أو فكرة ضمن تعبير ما، بل صار «شاعراً» يسعى لإيجاد موطئ شعر لما يظنه «قصيدة»، بشتى السبل، ومهما كان الثمن، وبشكل سريع ومرتجل، فلم تعد معرفة العروض شرطاً للكتابة، ومعرفة اللغة لم تعد ضرورية، فهناك من يحرر الكلمات، لو كانت خطأ، وليست مهمة الشاعر، أن يرفع المرفوع، وينصب المنصوب، فهذه مهمة المدققين، كما يتوهم الكثيرون.
وما زاد المتاهة تعقيداً وفوضى، كثرة مواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة الوصول إلى مواقع النشر الالكتروني المفتوحة، والتي تخلو من محررين ثقافيين، وتنشر كل ما يصل إليها، بلا تدقيق، وبلا تحرير. وصار كل من يجمع كميةً، ولا أقول عدداً، من هذه الكتابات يصدر كتاباً، مدفوعَ التكاليف، عن دور نشر معروفة، تتقاضى تكاليف طباعة الكتاب والربح سلفاً، وبات الاستعجال في النشر، سمة واضحة، بل صار ظهور الشعراء والشاعرات حدثاً يومياً.
بل تجد أن وزارات الثقافة، صارت تدعم هذه الأعمال، وفق سياسة توفيقية، تظن أن دعم الثقافة يأتي ضمن مفهوم الأقاليم، وترضية للمحافظات الأقل حظاً، وللكتاب الأقل موهبةً.
وهكذا صرنا في زمن الطوفان، وبات القارئ العادي يعجزُ عن متابعة كل هذه الأسماء والأصوات، في الوقت الذي كان فيه الشاعر قبل سنوات، ينتظر طويلاً حتى ينشر قصيدة في إحدى المجلات او الملاحق الثقافية العربية، وتمضي سنوات، حتى يتمكن البعض من تكريس اسمه، وطبع مجموعته الأولى.
وسط هذه الفوضى في الكتابة والنشر والطباعة، من البديهي أن يقل عدد القراء، أعني قراء الشعر، لكن قُراء الشعر بطبيعة الحال قليلون، وهذه ليست ظاهرة حديثة، كما أن التحولات التي تشهدها القصيدة العربية، خلقت حالات كثيرة من الاضطراب في المشهد الشعري العربي برمته، ونتيجة استسهال كتابة القصيدة، صار العبء مضاعفاً على النقاد، لدراسة حركة الشعر، وتقييم هذه الأصوات الشعرية، لكن سكوت النقد مريب على الكثير من التشوهات، والصمت أمام الكثير من النشاز، ولا بد أن يبادر النقد إلى تحمّل مهامه، وفرز التجارب، والتأشير على الفوضى والنقصان، والرداءة.
* شاعر وإعلامي من الأردن
( الدستور )