ماريو إيريذيا
الجزء الأول
النشوة البنفسجية
منفى آخر الريح الغربية في الجبال
فرناندو بيسوا
فارس الصناعة، بحَّار الباسيفيك، سائس بغال، جامع برتقال في كاليفورنيا، حاوي ثعابين، فأرة فندق، ابن أخ أوسكار وايلد، حطَّاب غابات ضخمة، بطل ملاكمة فرنسي سابق، حفيد مستشار الملكة، سائق سيارة في برلين، سارق، إلخ. إلخ. إلخ.
آرثر كرافان
1
قريباً جدّاً من أصابعه المتشابكة، الغليظة المرنة الملتفَّة حول حبل المرساة. هو خطٌّ مرسومٌ بنبضه الضعيف، المدمن للكحول، الخائف. خطٌّ يفصل العنيف عن الأرجواني. إصرارُ الفنِّ والحياة. هذا كلُّ ما في الأمر، كما اعتبرَه دوماً: أمراً خالداً.
2
إنَّها تتأمَّله، أنت تعرف ذلك. قد تتمكَّن الريح الباردة القادمة من الغرب من منح إجابة عند رفع المرساة. من بعيدٍ، تبدو الطواحين المهجورة كخصوم صغيرة معتمة جدّاً. من بعيد، كلُّ شيءٍ متساوٍ، تجريدٌ تحاول فيه الفراشي أن تجد خيطاً أسود يمكن له أن يكون تحت ملابس أمَّهاتهم فقط. لهذا فلا قيمة للخياطة. الإجابة في المقابل، حلقةٌ عائمةٌ، موجةٌ عاتيةٌ.
3
الماء البارد والأجاج بجانب القوَّة المخلوقة من أجل ضرب العالم، دع ليديْكَ أن تكتسبا اللون البنفسجي والأحمر، تماماً كالسماء، كالبحر، لكن دون أفقٍ ودون حدود. تحوُّلٌ غامض.
4
وما كلُّ شيءٍ سوى تنوُّع لأمرٍ داخلي، فكّرنا فيه. أن نكون أنفسنا، أو ربما نقطة ماءٍ تلوِّثُ العدسة. ليس تنوُّعاً في اللون والشكل فقط، بل بحجم القلب والذكريات، بالنسيان وبالسلام بعد أن يلفظا أنفاسهما في الموت الصغير.
5
يبتسمُ ويلقي عينيه للأعماق، بعيداً عن السفن، حيث يختفي الظلُّ المحارب ويجد تلك السفينة التي لن تصل أبداً لميناءٍ جيِّدٍ.
6
فوراً، يصل الظلامُ وأول رعدٍ، كالجولة الأولى التي تجذب للقميص الأحمر الشخصَ الذي عرفتَهُ في عمر الخامسة عشرة أمام بيت لوفيك، في حي العاهرات، مقابل الأبد المطوَّق الذي لا يذكرُ سوى التنهدات. نوعٌ يخلط ما بين البرق الذي يحطِّمُ البنفسجة كي تصير خلطةً من لون رماديٍّ عاصفٍ ولا شيء أكثر.
7
ربما كنتُ أقصر منه بستِّين سنتيمتراً، لكنَّهُ كان يرفع قبضتيْهِ بفخرٍ. شَعرٌ أشقر، قسماتٌ خامَّةٌ وعينان زرقاوان، بحَّاران حقيقيَّان. وهذا في الحقيقة ما تعكسُهُ اللحظة. ليس لأن العينيْن تشبهان المحيط، بل لأنَّ ذكرى لون تلك النّظرة تختلط بذكرى لون القماش ذاته.
8
أنت تتبعه وهو يصعد الشارع، مستمتعاً بميكانيكيَّة أردافه، جزءٌ من دولاب مسنَّن يبتدئُ في الرقبة فَتَحْتَ الظهر وحتى القدمين. ما يفاجئك أكثر هو دقّة الضربة، الحسم والدقة. يُواصِلُ المشيَ، حتى لو تحوَّل وجهه لمراحل القمر.
9
من مقدِّمة السفينة تُرى الزاوية، وتتحدَّاك أن تُخرجَ الخنجرَ من جيبك. نعم، العيون تلمع كالبرق الهادر من بعيد. تَراك، والحافة اللامعة تقبِّلُ الأرض بعد أن تتلقَّى الضربة من شفاه لا خوف فيها ولا أمل، بعد الضغط على الظهر والتوهان تحت ضربةٍ قاسمة متنكِّرة في شكل مداعبة.
10
قبوٌ مظلمٌ نتن، صناديق نبيذ، سجّاد، فأرات بكروش متدلِّيةٍ جشعةٍ. ثمَّة متعةٌ في البحث والنبشِ فيكِ، حتى لو لم أجد شيئاً. حتى يحرق النور جوهرها. أنتَ لا تبحثُ عن الرجال؛ إذ لا يمكنهم أن يكونوا سوى مؤخرات أو شفاه أو خصوم أو رجال دين.
11
تفتنيهم حين يلمحونك في الميناء والأوشحة على رقبتك، بنهدك المخضرّ، حين يترهًّلُ على السرير، بحليٍّ مركَّبة خضراء، تعكسُ احتضارٍ المشي في خيط الفجر، ورائحة العوالق والبرافين.
12
الإبحار في عاصفة خطواتك الأولى. تبحثين عنها وأنت في السفينة، لكن لا وجود للبراءة: إنه وَهمُ الرجل الصَّارم اليائس.
13
النقطة الأولى تسقط على الرقبة، الثانيةُ على البارجة، الثالثة في البحر، الرابعة على أكتافها. معاً على حين غرَّة، تلك حقيقة. فقط علينا أن نبحر للجنوب، أن نجتاز الخط الاستوائي، نجتاز الحبال، أن نقفز على الأشرعة ونستمر بالهبوط على هذه القطعة من الخريطة التي يحتفظ بها شخصٌ ما تحت السرَّة.
14
البحر هو القرية التي توجد بها مُتعتا اللحم والأسنان. لا أحد يتعلَّم الأغاني من بيانو أو من كتاب. كلُّ لذّةٍ تعطي نفس النتيجة التي يعطيها نسغ الأغصان، وتقطر على الرؤوس الصلعاء، تثقبها وتلقِّحها. كم هو الأمر بسيط، لا يمل. أيُّ هدوءٍ، مينا، حبيبتي مينا، لتنتظريني تحت شجرة خاكارنذا، جالسة على كرسي، تضعين كوعك على الطاولة، بينما تملأ يدك المساحات التي يتركها عقلك فارغةُ. ترفعين رأسكِ كل دقيقة، وتصلني نظرتك، وتصلُ هذا الخط الذي يمكن لأصابعي أن تلمسه تماماً كمن تلمس حبل المرساة.
15
إنه وقت رفع الأشرعة. لنبدأ العربدة. لنتقاتل دون أن نعدَّ الجولات. هو توقُكَ لرؤيتها بصورةٍ خاليةٍ من الألوان، لشراء سيارة وإيقافها في منتصف الطريق، عند الزاوية الأكثر ازدحاماً، وتزيين النافذة الخلفيَّة الصغيرة بأصيص ورد.
16
العيش بدزينة من الزلَّات، خصورٌ وأنفاس. عاهرة صينيَّةٌ تضربه بقبضة من مرض الزهري والخوف؛ الأخرى يقدِّمها بيكاسو، والأخريات فقط يتأوَّهنَ تحت ظلِّهِ. باريس تعرف أن تأكلَ شيئاً فشيئاً. ثمَّة واجبٌ يقتضي إيجاد الرضى في صدر الحَمام.
17
نورسٌ يلطِّخُ السماء. إنه هو وأنت، الكائنان الوحيدان اللذان ما زالا على سطح القماش. الطائر يتوقَّف لحظةً على الصاري وينقلب، وجهه عنيد، ثم يطيرُ ويلفُّهُ الضباب. جناحاه يرسُمانِ المنفى بصوتٍ آخر.
18
من القطار لأرصفة الميناء تظهر الأشياءُ كلُّها، كلُّ شيءٍ غائمٌ حتى تظهر الشمس. لهذا، وشيئاً فشيئاً يفتحُ النطاق وينشأ أزرقٌ فاحشٌ وأمل. تتأمَّلُ القوارب بعناية. القشور، قمامةُ الفاكهة ذات الألوان المتعدِّدة تطفو قرب الحافَّة في ميناء على البحر الأبيض المتوسط. لا قشورَ كالقوراب ولا ميناء مرسيليا، بل فيراكروس، بقواربه المصفوفة باتقان تنتظرك كي تبدأي الخطوبة.
* Mario Heredia شاعر من المكسيك
* ترجمة عن الإسبانية غدير أبو سنينة
العربي الجديد