*خليل قنديل
في زمننا المتوحش الذي نعيش فيه علينا الاعتراف بأننا فقدنا بوصلة رغباتنا ليس في القراءة وحدها، بل في العديد من الرغبات التي أسست لها الحضارة العربية والإسلامية بامتياز. وللكتاب العربي في رحلته وتحوله إلى منجز يستحق بالفعل إلى استحضار ذاكرة ورقية يدخل فيها الورّاق وكل العناصر المشاركة له في إنجاز الكتاب!
وإذا كان صاحب الكتاب يضمن تسويق إصداره قبل الانتهاء منه، خصوصاً كما كان يحدث في القرن الرابع الهجري، وهو ربيع الحضارة الإسلامية وثقافتها، إذ كان يدفع ثمن وزن الكتاب ذهباً في بعض الأحيان وهنا تستحق القراءة تعبير «زبونة علية القوم» بالفعل.
«علينا الاعتراف بأننا فقدنا ذاك الكتاب الذي يحدث الضجة القرائية قبل صدوره، مثلما كان يحدث في ستينات القرن الفائت وسبعيناته. وصارت القراءة يرافقها فعل التستر!».
«فقدنا المؤلف الذي كان يجوب العواصم وهو يمهد لحضور كتاباته، ويشاغب بالأمسيات، وبصراحة لم يعد عندنا نزار قباني، أو محمود درويش، وغيرهما ممن يزلزلون القاعات بحضورهم!».
وعلى الرغم من أن القراءة في العربية وصلت إلى هذا المستوى تاريخياً، إلا أنها بدأت بالتهاوي والتشرذم بحيث صار يقال عن القارئ الذي ستجده في بعض المناطق العربية النائية «إنه يفك الخط على اعتبار أن الخط كابوس يحتاج إلى تفكيك!».
من هذا البخل المعرفي ولدت القراءة العربية، فأنت الملاحق أصلاً في لقمتك ومستقبلك المعيشي لا يحق لك أصلاً أن تدخل المناخات القرائية التي قد تفتك العقد بأصحابها، وهذا على الأغلب ما كان يحدث. وعليه فإن هذا التمايز القرائي كان حينما يحدث يصيب صاحبه بالدوار المعرفي إن جاز التعبير!
وكثيراً ما كنَّا نلتقي بأناس افقدتهم القراءة عقولهم، وصاروا يشكلون حالة تستحق التهكم والإشارة إليها بنوع من الجنون المتفق عليه اجتماعياً!
ومع نشوء الدولة العربية الحديثة، وتقدم مصر في هذا المجال، إذ صارت الدولة تتبنى تغطية تكاليف دراسة طلابها من الصف الأول الابتدائي وحتى انتهاء السنوات الجامعية، دخلت القراءة في ما يمكن تسميته بأمية المتعلمين، وظلت القراءة المعرفية بشكلها النخبوي عصية على التمكن منها أو ترويضها.
لكن، ومع ذلك، علينا الاعتراف بأننا فقدنا ذاك الكتاب الذي يحدث الضجة القرائية قبل صدوره مثلما كان يحدث في ستينات القرن الفائت وسبعيناته. وصارت القراءة يرافقها فعل التستر!
كما فقدنا ذاك المؤلف الذي كان يجوب العواصم وهو يمهد لحضور كتاباته، ويشاغب بحضوره تلك العواصم بالندوات والأمسيات، وبصراحة أكثر لم يعد عندنا نزار قباني، أو محمود درويش، وغيرهما ممن يزلزلون القاعات بحضورهم المدوي!
والمشكلة أن التسارع في فقدان مثل هذه المناخات لم يحدث منذ سنوات طويلة، بل في سنوات يمكن عدها واحتسابها على أصابع اليد.
إن الحول القرائي العربي الذي اصيبت به اجيال كاملة في الوطن العربي قد حوّل القراءة الى هواية رثة لا تقدم ولا تؤخر وتلكم هي المأساة!! وصار لزاماً علينا أن نعترف بأننا فقدنا شهية القراءة!
_____
*الإمارات اليوم