فصل من رواية الصّدع


*عاصف الخالدي

خاص- ( ثقافات ) 

اعتادت ليلى الحلاج حين يراودها حلمٌ ما أن تجلس لدقائق مع نفسها، لِتَقُصَّ على نفسها ذاك الحلم. كانت تقص الحلم لتنتهي منه ليموت في تلك اللحظة. بعد مغادرة عبد الرحمن بائع الكتب، دخلت لغرفتها الكبيرة، حيث الشبابيك تمتد من الأرضية حتى السقف، مرآة واسعة في المنتصف، وعلى يمينها ساعة كبيرة وعلى اليسار لوحة لوجه ليلى قبل أعوام، ما إن تجلس ليلى على حافة سريرها من الجهة الأخرى حتى تقابل مرآتها وجهاً لوجه.
هل ثمة امرأة في هذه المدينة غيري؟ كنت قد رأيت في حلمي كيف التهمتُ كل النساء المنقوصات. كنَّ إما بلا وجه أو بلا أصابع، كنَّ بلا عقل ربما، أو كنَّ روتينيات يشبهن الإعلانات أو السلع اليومية المنتشرة. التهمتهنَّ حتى صرت ثقيلة جداً، مثل صرَّة ماس في يد شحاذ. لم يبق سواي. كم صرت مدهشة حين لم يبقَ سواي. بعدَ أن قصت ليلى حلمها على وجهها المنعكس بالمرآة. انتهى، نسيته. الغرفة الواسعة التي تكاد الشمس لا تعبرها، المنزل البارد، وليلى السيدة الوحيدة التي تدفن أحلامها، وأولاً بأول، هي بغنى عن الأحلام ربما. 
خلعت ليلى ملابسها كلها، بدأت تتخفف مما يعتمل بجسدها وعقلها، تبين لها أن الملابس التي خاضت بها حلم الليلة الماضية قد اتسخت بالفعل. تركتها تسقط على أرضية الغرفة، ارتدت ثوباً أزرق طويلاً وواسعاً. فتحت باب غرفتها على مصراعيه، تنفَّست بعمق ومشت بالممر مخلفة الغرف الثلاث الفارغة التي تفصلها عن غرفة زوجها، عندما فتحت باب غرفته مباشرة كما اعتادت، كان نادر الأسود جالساً في وسطها يحجب جسده كرسي خشبي ملون يتماهى مع ملابسه الملونة، لكنه كان متموضعاً رأساً على عقب، كان عقباه معلقين على الكرسي ورأسه على الأرض، النور الواهي الذي يظهر نادر الخفاش، هذا ما تراه ليلى الآن، بادرته قائلة: هل هكذا تفكر؟ 
قال: نعم هكذا أرى العالم. فقالت بسرعة: نعم تراه من هذه المسافة البعيدة، تعيش فيه لكنك لا تخرج لتراه حقاً، ألقت برزمة الكتب أمام وجهه، لم يكن ليرى وجهها إذ كانت ساقاها تكادان تلتصقان بصدغه. لم يستشعر السخرية في صوتها فقال: ألا يكفي أنني أرتدي ألوانه؟ 
هبطت على ركبتيها وقربت وجهها من وجهه قائلةً: أجل ومن قال لك بأنه ملونٌ أصلاً؟ أنت ممن لا يرون إلا ما بداخلهم يا حبيبي، داخلك الملون وعالمك المقلوب لا يساويان شيئاً دوني. عدل من وضعيته ثم وقف معتدلاً، تطلَّع إلى ساعة يده المطعمة بصدفات صغيرة، إنها الرابعة يا حبيبتي، إنه موعد الإبحار الآن عن إذنك، ولم ينتظر أن تتفوه بحرف، أمسك كتفيها بيديه الاثنتين وأزاحها من أمام الباب ومضى مخلفاً وراءه ليلى ورزمة الكتب الثلاثة، صاحت ليلى بصوت عالٍ: أنا أحضرت هذه الساعة لك، مستعجل أنت لتبحر الآن.. الآن يا طارق بن زياد! لعلي سأكسرها قريباً. أَطلَّ نادر هذه المرة برأسه من باب الغرفة المفتوح ناظراً إلى ليلى وقال: نعم أي كلمة يصلح أن تقوليها عدا كلمة أحبك، سأبحر في زمني الملون، إنها الرابعة، هذا الوقت الوحيد الذي أتطلع فيه إلى الوقت. لم يكن في تلك الغرفة أية مرآة أو حتى قطعة زجاج، لذا كانت ليلى تكره هذه الغرفة بالذات، أسرعت بإغلاق الباب ومغادرتها، هذا وقته الوحيد التافه الذي يخرج فيه من عالمي ليغوص بأعماقه قرب كتبه ويكتب تفاهاته الصغيرة، ليس هنالك فرق بين التفاهات التي يتفوه بها أو تلك التي تمشي على قدمين أو تلك المصنوعة من ورق، كلها تظل تافهة أيها النادر الأسود. توقفت عن محادثة نفسها، صمتت كلياً، حتى بدت في جلستها على كرسيها الكبير مثل تمثال. من الأفضل أن تؤجل غضبها لما ستفعل فيما سيأتي إذ إنها تحتاج إلى غضبٍ أكبر. عندما انساب الوقت الصامت في أطرافها ظلت على جلستها، باردةً، يبدوَ أن المنزل يستمد برودته منها هي. 
انحنى نادر، تقوَّس ظهره وانحنى تجاه معدته، ليقاوم الألم الرهيب الذي حلَّ به، لم يأكل شيئاً منذ الصباح، ما كان في معدته إلا شايه المر المفضل، لكنَ هذا الألم الذي يُلِم به كان يزوره من وقت إلى آخر،عندما تغضب عليه ابنة الحلاج عادة، أو عندما ينسى ويحاول تقبيلها فتدفعه بعيداً تجاه الباب، كان قلبه ينبض تلك الأشياء الصغيرة المؤلمة التي تتوزع بجسده حينَ يغرق في جوف كتبه وعقله، منذ زمن ما لم تعد المدينة الجافة تغريه، صار من النادر جداً أن يكون خارج عالمه الداخلي الممتقع بالبياض بفعل الشمس التي تغيب عنه بشكل شبه تام، لكنه دائماً كان مبللاً بفعل عالمه الخاص، ولطالما نبذ الجفاف في ساعاته الزرقاء التي كان يغرق فيها، ولم يكن طارق بن زياد ولا نادر الأسود حقاً كما هو في بطاقة هويته، لم يكن إلا نادر الغريق.
قالت ليلى فيما بعد: العالم يتدفق في الخارج، وأنت هنا تحدق بالحبر الجاف والورق الأصفر، تطلع نادر إلى منفضة السجائر الكبيرة قربه، ثم أخذ يُقَلِّبُ الأعقابَ بقلم يحمله بينَ أصابعه، فيما رائحة الرمادِ تمتصُ الهواء في الغرفة.
قال: إنني لا آخذُ إلا ما أحتاجه فقط، لماذا سأحتاج كل هذا العالم؟ ولا حاجة لي بالمدينة وغبارها، كل ما يخصني فيها هو أنا تحديداً. ضحكت ليلى بصوت مرتفع، توسعت ضحكتها حتى كادت تشمل أنحاء البيت كله، نعم أنت لا تحتاج إلا أنت، لا تحتاج البيت ولا الشارع ولا المدينة ولا الفواتير، ولا تحتاج حتى أن تنضم لقطيع من الخراف، لن تنجح أن تكون خروفاً ولا كلباً حتى، حتى أنك أنت بذاتك يجب تجريدك من ملابسك، ارتدِ نفسك وتجول في أنحاء عالمك. أليسَ هذا ما تعنيه. ردَّ بهدوء: نعم هذا ما يتوجب فعله حقاً، نظر الى وجهها وشعرها ملياً ثم قال: يتوجب أيضاً أن أحرق خصلات شعرك الفضية هنا في المنفضةَ أيضاً، لأنها زائدة عن حاجتك، إنني فقط سأتخَفَّفُ من كل ما يزيد عن حاجتي. تطلعت ليلى إلى عينيه الغامقتين، ثم تطلعت إلى سيجارتها، لو أن لك أحلاماً، لكنك لا تحلم، أنت فقط تنزفُ وقتك اللعين بين هذه الحوائط. تركته وغابت في الممر الطويل منسابةً في ظلمة الممر بثوبها العميق كأنها خيال. تطلع رائد إلى الكتاب بيده ورماه على المنضدة بقوة، أما أنت فتحرقين كل ما تلمسين حتى الأحلام في قربك غبار وبرد مدقع، ثم غفا على كرسيه الجلدي الكبير.
أنت حقاً خفاش أنت رجل مجنون بحق، أنت أول رجل يخرج من بيته ليعود إلى زوجته في الليل حاملاً جثة! تطلع إلى وجهها مستغرباً: كأنك تحبين الناس أصلاً، أنت لا تحبين شيئاً، أنت إما تشترين الأشياء أو تستهلكينها، بل وتبيعين الأشياء أيضاً في تجارتك، أنت امرأة عصرية حقاً، كل شيء فيك ميت، تغضبين لأنني جئتك بفتاة ميتة، اذهبي وانظري إلى وجهها إنها حقاً تشبهك. توقفت ليلى عن الدوران وقالت: أنت حقاً مجنون أنا لا آتي بالجثث إلى بيتي، أنا لا أقتل أحداً. قام نادر الأسود عن كرسيه الوحيد وارتمى على سريره مرةً واحدة ثم قال: يكفيك أنك قتلتني في ما مضى بقدر ما أحبك يا عزيزتي. تطلعت ليلى حولها ولم تجد سوى المنفضة الفضية الكبيرة على طاولة المكتب التي تستند إليها فحملتها ورمت بها تجاهه بكل عنف، ما كانت لتصيبه أبداً فهي عاجزة عن التركيز إنما أرادت أن تحطم أي شيء يستهويه أي شيء صغير تراه الآن، قبل أن تحاول التخلص من آثاره الكبيرة بكل ما يحب أو لا يحب ومن جثة الفتاة الهامدة التي قام بتوصيلها إلى بيت ليلى في سيارته، بل وكانت تجلس قربه طوال الطريق، خطر لها فجأة بأنه لم يقُد سيارة من سنوات طوال، فازداد حنقها، لطمت باب الغرفة ومشت في الممر مسرعة، وقع خطواتها ثقيل كل الثقل.
لم يفهم نادر الأسود جيداً، لماذا تشي ليلى بجثة هامدة لرجل آخر غريب كان يحمل له الكتب التي يريد فقط، لماذا تحول سر كهذا قد يؤدي به إلى السجن أو إلى فضيحة، هل قالت له اخرج للحياة كي تتخلص منه؟ ها هي تبتسم الآن لا مبالية، كأنها تعرف كل شيء، لماذا سيمتثلان لما تريد؟ تطلع عبد الرحمن لوجه نادر الأسود ولم يعد يتذكر أين رأى ملامح هذا الرجل الذي بدأ عقده الأربعين، عيناه فارغتان لا تشيان بشيء، يخبئ ما يعرف، صامت بالأغلب، تطلع عبد الرحمن إلى وجهه المكتظ بالشعر الملون، سنتبعها إلى حين، ولن أسأل، فكلانا على ما يبدو متعود على النهايات الجاهزة أو على الحبكات المسترسلة التي تفرغها فينا الكتب، ولم نعتد على صنع شيء ما من تراب أجسادنا، كأننا لا نريد إهدار الحياة. 
وقفت ليلى أمام الكيس المغلق بإهمال، أشارت بيدها، ها هي، ستحملها حتى السيارة، إنها تحت تصرفك الآن، جد بقعة ما وادفنها، هذه لن تقرأها، هذه ستعيشها وربما تكتبها، خذ ما تريد من النقود أيضاً، علك تتخفف من الكتب وتشتري أشياء تحيا بها! تركته وحيداً معها في الطابق السفلي البارد، توخى للحظة الصمت والبرودة، تركت ليلى الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحديقة موارباً، خذ جسدها واهرب الآن، هذا ما بدا عليه الأمر.
لم أطق حملها على كتفي، رفعتها بيدي الاثنتين محتضناً الكيس الخشن، ضممتها جيداً وبالكاد وازنت خطواتي الأولى، ومن ثم مشيت، تجاوزت فرجة الباب دافعاً إياه بجسدها الملفوف بالكيس. سرنا بالظلام للحظات. هكذا يا عبد الرحمن هكذا يا رجل، لو كنت تحمل حبيبتك لكانت خفيفة، لا ذنب لها الآن لتلومها على وزنها الذي ضاعفه الموت، ستدفنها بلا هوية، تكاد تترنح في مسافة قصيرة لا تزيد عن مئات من الأمتار، هكذا وبانقياد كأنك عضو مبجل في قطيع سعيد، تتحول من رعي الكتب وحملها إلى حمل جثة هذه الدنيا البائسة، لا ولا تعرف اسماً لها حتى، لكنك تقول لنفسك بأنك تحمل جثة الدنيا البائسة نفسها التي تعيشها، ولم يقل لك أحد ما ولن يقول لك أحد ما اسم هذه الفتاة ربما. أنت ستختار المكان الذي ستدفنها فيه وبشرط أن لا تسأل ليلى الحلاج ولا نادر الأسود عن ذلك المكان، هكذا لن تمنح البائسة أي شيء، لربما تراب عن تراب يختلف، لكنك ستمنح للمكان هوية. 
قفز نادر الأسود على سريره مثل طفل مرح تخفف من دَرَنِ اللعب طوال اليوم بحمام ساخن، بل وكان يرتدي ملابس خفيفة ملونة ومشرقة، وهذا يعد من الهول، لأن هذا الرجل غامق طوال حياته تقريباً، فمنذ وعي على الحياة اختار هو أو اختارت له هي أن يكون غامقاً، فاسم عائلته أسود، وهو يرتدي ما يكفي من سواد، يحب الذئاب السوداء التي لم يرها مرةً في حياته، لكنه يؤكد لليلى أنها تجري في دمه، وتطارد العزلة كأنها طريدة، هذا الرجل الممتقع دوماً بغبار الكتب والنور الشحيح الذي يفضله على أي نور آخر طبيعي أو صناعي، يبتسم فيبدو لليلى مثل أحمق، هو ساخر ولا مبالٍ، منعزل وعميق، لكنه قليلاً ما يبتسم، فلما ابتسم لها بدا مثل أحمق، ثم بعد ابتسامته العريضة أضاف لها: 
– سأنام الليلة في غرفتك، أرجو أن تعطيني قبلة؟! 
تنكرت ليلى له وقالت غير مبالية: 
• هل يشتهي حبيبي المجرم قبلة؟ 
• ربما، بعد أن تخلص من مغامرته، وربما لن يستمع لنصيحتك باقتراف حياة قذرة لا يتمخض عنها سوى الموت. شعرت ليلى بالحنق وبحرارته تتسرب لعنقها ثم رفعت يدها تجاهه مقاطعة: أنت: ماذا تفعل الآن، هل أنت ميت مثلاً، ألست تعيش في هذا القمقم الذي تفوح منه رائحة غبارك وغبار كتبك، تدعي لي بأنك هكذا تحيا، بينما الحياة هناك في الخارج، أيها المجرم، لن أعطيك قبلة لن أعطيك شيئاً آخر، تفضل واحصل بأصابعك على كل ما تشتهي لا بأصابعي. رفع نادر الساخر أصابعه مقابل عينيه وأخذ ينظر إليها، ثنى أصابعه مقرباً إياها لوجهه ثم تطلع إلى ليلى التي لم يخفها تصنُّعه المسرحي هذا. وقف واقترب منها حتى لفح وجهها بأنفاسه، رأسها تراجعت للخلف، وجهها ينسحب ببطء، لكنه ما انفك يقترب حتى قبلها قبلة سريعة، لم تلمس القبلة فيها أي عمق، كانت رغم قسوتها عليه تتمنى أن يرتكب شيئاً حياتياً يمسها ويمسه، ولو كانت هي من الحياة فهذا الرجل يفضل كتبه عليها ولم يكن ليلمسها حتى، منذ زمن مضى صارا مختلفين على كل شيء تقريباً، بدءاً من الحب الذي اتفقا أنه لن يفسد لصراعهما قضية صار وجودهما معاً يكفي كحجة دامغة لكي يؤذي كلاهما الآخر قدر ما يستطيعان.
• كان نادر رجلاً ساخراً ومجنوناً، يتطلع إلى زوجته التاجرة البارعة التي تستورد التفاح وتملك مصنعاً للأحذية النسائية على أنها تحولت من امرأة يحبها إلى امرأة عصرية، تخرج هي للحياة تجتر قوتها وترتدي ثيابها الفارهة، كانت طويلة بما يكفي كي لا تستطيع النظر إلى الأسفل، بينما كان هو يعتقد أنه يعيش داخل أسطورة، وأن الحياة العملية مجرد كابوس، ترى ليلى بأن كل ما كان حالماً في هذا الرجل لم يتحقق، إنه مثل سلحفاة في عصر السرعة، حتى أنه ليس سريعاً مثلها، يزدرد الكتب، هذه مبالغة لن تحتملها، بعد زمن لم تعد تعرف لماذا يهمها أمره، وهل يعقل أن يتفقا بأنهما عاشقان رغم هذه المساحة الشاسعة التي يختلقانها بينهما؟ ربما هو فقط ما يريدانه الآن، يريد كل منهما ابتلاع الآخر لأنه يحبه يريد كل أن يكون هو فقط، وفقط لا تعترضي طريقي يا حبيبتي فهكذا أعيش، فقط لا تعترض طريقي يا حبيبي لأنني هكذا أحيا. دفعها برفق إلى الخلف وقال: لقد غيرت رأيي لن أنام قربك، هذه كبيرة لم أقدم عليها منذ زمن. تجرني رائحتك يا حبيبتي، انعمي بنفسك وحدك، أنا رجل مجنون ومتألم، عدا أنني أسود. ضحكت ليلى باستهتار، أنت متشائم، أنت أبله يا حبيبي، عد للورق، عد من حيث أتيت، ربما يجب أن أمزقك وأنتهي منك، لكنني ربما أحبك! 
________
* كاتب من الأردن، الفصل المنشور من مخطوط رواية “الصدع”، الحقوق محفوظة للمؤلف عاصف الخالدي برقم إيداع: 4833/10/2014

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *