قبقاب زفزاف


*عبد الرحيم التوراني

خاص- ( ثقافات )



تحل، الاثنين، المصادف لـ 13 يوليو/ تموز 2015، ذكرى مرور 14 سنة على رحيل القاص والروائي المغربي محمد زفزاف.
وبهذه المناسبة تنفرد ( ثقافات ) بنشر مقتطف من الكتاب الذي أنجزه الأديب المغربي عبد الرحيم التوراني حول الكاتب الراحل ، بعنوان: “صديقي زفزاف.. الغيلم والطاووس”.
__
رأيته قادما من زنقة “ليستيريل”. زنقته التي كانت تضم مسكنه المتواضع٠ كان قادما يمشي بخيلاء واعتزاز بالنفس، تلك مشيته٠ لم يغيرها، لم أره قط يمشي باستعجال أو يجري٠ حتى أن فكرة زفزاف يركض أويجري تبدو لي فكرة حمقاء تماما٠ كان قادما، يتأبط حقيبة يد صغيرة٠ بحجم كتاب٠ كانت موضة تلك الأيام٠ رغم هبوط الظلام والإنارة الخافتة المهربة من مصابيح الزنقة عرفته٠ لا يمكن لمن يعرفه أن يخطئه٠ شعر كث ومنفوش، لحية ممسدة، كأنما أصابع يمناه خلقت بعد الكتابة لتمسد شعر لحيته. بعد أن احتضن يوسف الخال بعض قصائد زفزاف ونشرها في مجلة “شعر” البيروتية، صار زفزاف يمسد السرد من الدار البيضاء ويعتني بكتابة لحيته في حي المعاريف.
لما اقترب مني رآني، حياني بيسراه، ابتسم. كنت أقف عند ناصية شارع ابراهيم الروداني، منه تتفرع زنقة زفزاف، على بعد خطوات تقع حانات “سيمبا” و “ماجستيك” و”لابريس” و”أريناس” و”لونيفير” و’أبولو” و”فاندانكو”٠ حانات تصطف كحوانيت تتوزع عليها خلايا الشاربين لاقتناص المتعة المحرمة٠ وإحياء الروح المعنوية.
سلمنا على بعض٠ أشاد بصنع بذلتي الجديدة، سألني عن الخياط الذي فصلتها عنده٠ أخبرته٠ حذرني من خياط آخر يسكر في “ماجستيك” بتسبيقات زبنائه ويجرجرهم قبل أن يتشاجروا معه ويتركوه٠ قال لي زفزاف إنه شفار وفوق ذلك متبجح وعربيد٠ ختم كلامه معي عن الخياط بأن أوصاني بالعناية بأناقتي٠ كان هو يلبس قميصا صيفيا جميلا٠ قميصا فضفاضا رسمت عليه حيوانات، ربما هي رسوم فيلة صغيرة وأزهار وثعابين٠. 
دخلنا البار واتجهنا إلى زاوية على الكونطوار٠. لدى دخولنا انتبه الجميع إلى زفزاف٠ ليس بسبب شكله، ولكن بسبب وقع دقات قبقابه على أرضية البار٠ كان زفزاف ينتعل قبقابا خشبيا بجلد أسود٠ لا أذكر أني رأيت الكاتب الكبير يلبس حذاء في قدميه٠ ولم أر قط في بيته أحذية٠ كأن من اخترع القبقاب اخترعه لزفزاف وحده٠ يلبسه صيفا وشتاء٠ رأيت أغلب الهيبيين يلبسون القباقب والصنادل في أرجلهم٠ لماذا تقترن الأحذية بالعسكر والقمع؟ ألهذا اختار دعاة الحب والسلام من الهبيين القبقاب؟ وزفزاف لعلمكم كان ينتمي لقبائل الهيبيين٠ وهي “قبائل” كان أهلها يفضلون المشي حفاة ويرسلون شعورهم طويلة، لأنهم يعتبرون قص الشعر عقائدياً وليس أخلاقياً٠
كيف وصل هذا الهيبي إلى الأدب والقصة والرواية؟ ربما كان من الممكن أن ينجذب إلى عالم المسرح والموسيقى الجديدة في السبعينيات، فنراه في فرقة مسرح الناس مع الطيب الصديقي ثم عضوا في المجموعة الغنائية “ناس الغيوان”٠ لكن أي آلة ستليق بزفزاف ليعزف عليها؟ بنديرا أو دعدوعا أو هجهوجا، إلا آلة الطبيلات فهي مسجلة في اسم العربي باطما٠ لكن زفزاف لم ينشأ في الحي المحمدي٠ جاء إلى الدار البيضاء من مدينة سوق الأربعاء الغرب، عبر القنيطرة، فالرباط التي عرفته طالبا خجولا بكلية آدابها بشعبة الفلسفة، ثم محررا ثقافيا بيومية حزب الاستقلال “العلم”، هناك سينشر على الصفحة الأخيرة لجريدة “العلم” مذكرات يومية تحت اسم كمال الغرباوي مرفقة بصورته٠
لقب زفزاف ليس اسمه الحقيقي٠ جرب زفزاف أسماء غيره قبل أن يستقر عليه٠ رأيت مرة وأنا في بيته، إذ سكنت معه في شقته قرابة سنة ونصف، بطاقة قديمة عليها صورته مع اسم “لمفضل الخصال”، لما سألته رد علي: ( – هو زفزاف سابقا)٠ وغير الموضوع
٠
رافق زفزاف الهيبيين القادمين من أمريكا وأوروبا في رحلاتهم إلى جنوب اسبانيا الفرنكوية، وإلى جنوب المغرب، خاصة بقرية الديابات بضواحي مدينة الصويرة، ومن تلك الأجواء كتب لنا أول رواياته الجميلة تحت عنوان “المرأة والوردة”، وسيعود إلى بعض ملامح هذه الفترة في رواية “الثعلب الذي يظهر ويختفي”٠
كان زفزاف اتحاديا (الاتحاد الوطني/الاشتراكي للقوات الشعبية)٠ حضر معنا بعض الاجتماعات التنظيمية للحزب بدرب غلف، وكان منسق التنظيم هو الصحفي الأديب أحمد صبري، وكان من بين أعضاء خليتنا عمال، أذكر من بينهم المحجوب، عامل بناء، هو أب المناضل اليساري عمر الزغاري الذي سيعمل لاحقا صحفيا بهيأة يومية “بيان اليوم”٠ 
لما استشهد الزعيم اليساري والقائد الاتحادي عمر بنجلون ذهبت مع زفزاف إلى طريق مديونة لحضور اجتماع تأبيني أقيم للشهيد بمقر الاتحاد، هناك أعطيت الكلمة لزفزاف فارتجل كلمة اقترح فيها استبدال تسمية زنقة كامي دي مولان باسم زنقة الشهيد عمر بنجلون٠ لم تمر أشهر حتى بادرت السلطات إلى تسمية الزنقة التي اغتيل فيها عمر وكانت تضم مسكنه، باسم زنقة “المسيرة الخضراء”، المسيرة التي عارض الشهيد في الأول تنظيمها، قبل أن يتنازل ويكتب افتتاحيته الشهيرة بيومية “المحرر” تحت عنوان: “فلتمش المسيرة”٠٠٠
ستتحول لحية زفزاف مع السنوات من لحية هيبي متمرد إلى لحية ثائر غيفاري لتنتهي إلى لحية ناسك وكاهن بوذي، جل شباب حركة الهييزم الأوروبيين والأمريكيين انتهوا في أحضان بوذا وكريشنا٠ لكن زفزف بدأ يكثر في أعوامه الأخيرة وقبل مرضه من الحديث عن العالم الآخر وعن الخلود، مرة قرأت عليه خبرا في جريدة يتكلم عن طرفة للاعب الأرجنتيني الأسطورة دييغو مارادنا، فأهمل الطرفة وحدثني عن أن التاريخ سوف لن يهتم بلاعب كرة قدم مهما علا كعبه وشأنه قدر اهتمامه بكاتب مثله، أي مثل محمد زفزاف٠
كان زبونا مواظبا ببار “لاكوميدي” المقابل لبناية المسرح البلدي، لما وصلته في بداية السبعينيات من بيروت نسخ أول رواية نشرها له يوسف الخال ضمن منشورات “غاليري وان”، حمل نسخة من “المرأة والوردة” وذهب فرحا إلى “لاكوميدي”، وقف أمام البارميت التي كان معجبا بها، وكانت هي لا تعيره اهتماما، سلمها النسخة فوضعتها وراء الكونطوار٠ لما شرب الكاتب بيرته، انسحب، فنادت عليه البارميت:
“- السي محمد خذ الجورنال ديالك راك نسيتيه.” وسلمته الكتاب٠ قال لي وهو يتذكر هذه الحكاية ضاحكا: “- كنت أود أن ترى الغلاف الأخير للرواية لتشاهد صورتي عليه وتهتم بي”…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *