ربما الشّمس رغيفٌ حارّ … قراءة في نبوءةِ شاعرٍ


*حامد عبدالحسين حميدي

خاص- ( ثقافات )

( … ليس يكفي أن يصرّح الشاعر برؤياه. يجب على القارئ أن يكتشفها عبر الجهد الطويل والشاق.الى الحد الذي تصبح المشقةُ لديه جزءاً عضوياً من رؤيا الشاعر). 
الشاعر آشبري 
– نصيّاً – .. تفرّدت مجموعة ( ربما الشمس رغيفٌ حارٌّ ) الشعرية ، للشاعر ( رعد زامل ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ، بإيقونات دلالية ، وأروقة من الحرمان والعوز والضياع ، انها مداخلات حياتية واقعية ضاجّة ، صور ٌ ذات حراك مؤلم لإنسان فقد الامل في كل شيء وضاع في دهاليز العتمة ، وانسلخ عن كل شيء ، ليبقى وحده معزولاً عن عالمٍ مقيت ، طوفانه مشكلات جمّة ، ومعاناة تسلب من الفرد روح المجتمع وكيانه ، حتى يكوّر انطباعاته الواقعية ليحولها الى صبغات ابداعية تؤثر فينا ، يكاد الشاعر ( زامل ) ان يجمع في عنونة مجموعته صورة تشابهية بين الشكل والمضمون بي ( الشمس ) و(الرغيف ) من الناحية الشكلية ومن الناحية الحسية بما ينبعث منهما ، دلالة منه ان كل شيء يدور في حلقة مفرغة وساخنة ، حلقة فيها شحنات متضادة من التعب والإرهاق والمعاناة والتشتت.
في مجموعته هذه ص 42 ما يلفت الانتباه ، وهو انه لم يعنون احدى قصائده ، بل اكتفى ان وضع (نقطاً ) عنواناً لها ( ……….. ) ترميزاً وإيحاءً منه الى ما في القصيدة من مناخات مشاكسة ، وهو يمرّ بظروف صعبة ، ليعلقها على حبال صمته ، وهو يسير ، تاركاً خلفه زوبعة من الهذيان اللامعقول ، انه يضع القارئ في خانة الميل الى استخدام ما توافرت لديه من مجسات ديناميكية ، كي يتعرف عليها ويدقق في ماهية المفردات والتراكيب ، وإلا اصبح القارئ بعيداً عن تلك الترميزات الداخلية التي تحملها هذه القصيدة .
امتلك الشاعر ( رعد زامل ) قدرة شعرية مكنته من الولوج في لملمة الواقعية التي نراها يومياً ونحن نتعايش معها ، ونلتذّ احياناً لها ، كونها مثلت سياطاً تشعرنا بما وراء القضبان من اللوعة والألم والحزن ، من السعادة التي نكاد نخفيها وراء اقنعة الوجوه المرهقة بالغثيان ، انها نبوءته هو .. نبوءة اطلقها في فترة ما من الزمن الشائك ، دون ان يحسّ به السجان ، لغة من الشكوى والتمرد والانفعالية الباردة ، في زمن ننام فيه على سخونة الاحداث ومرارتها ، لقد تنبّأَ كغيره من الشعراء بزوال نظام ٍ يحكم ويستبد في حكمه ، حتى انه تنبأ بما طوته المقابر من الرفات والجثامين ، نقرأ له :
الى أمي : لن احفر لك قبراً 
بل سأحملك كهدهد بارّ
ان الشاعر قد وفق في تحفيزية التركيب ( الى امي ) ايحاء منه الى موطن العاطفة والحنان والدفء ، وإشارة منه الى الحياة او النماء او الارض الطيبة المنبت ، انه يحمل أجنة العرفان بين طياته ، يكنّها – رغم البلايا – غير مبالٍ بما قد يحيط به من الاهوال والرزايا والمحن ، انه لم يشارك الاخرين فيما اقترفوه في تلكم المآسي والمصائب ، فهو برئ ( كهدهد بارّ ) رمزاً للبراءة وعشق الحرية والانطلاق في فضاءاتها .
ثم نقرأ له :
الى ابي : انك شاهق كبرجٍ 
ولا تؤمن بالطيور 
فـ ( كل من عليها فان( 
لإبراز بشاعة الحدث ، وشدّة وطأته ، وما اتصف به الحكم والنظام آنذاك ، على الرغم مما يمتلكه من القوة والتسلط والجبروت لإرغام الاخرين على الانصياع له ولأوامره وتنفيذها قسرياً ، استطاع الشاعر ان يوحي لذلك بـ (انك شاهق كبرجٍ ) صورة شكلية فارغة المحتوى والمضمون والأهداف ، فهي صورة لنظام محضّ سراب ، فاقد للركيزة الاساسية في بناء المجتمع وتحضّره ، ولأنه (ولا تؤمن بالطيور ) ، لا تؤمن بالفكر الحرّ ، بالرأي الاخر البنّاء ، بالرؤى التي قد يحملها المبدعون ، لا تؤمن بالحرية ذاتها بل هي مجرد اسم لديك ، تطلقه كلما شئت ان تعوي ، فنهايتك الضمور والزوال – ولا شك في ذلك – ، ثمّ نجد التضمين القرآني الذي مال اليه الشاعر( فـ ( كل من عليهاً فان ) ) ايذاناً منه ان القانون الالهي يرفض استعباد البشرية ، فالكل في دائرة الفناء وعدم الخلود يخضعون .
نقرأ :
بأصابع أكلها الندم
اكتب عن النخيل
الذي تركته ، يهرول وراء الثكنة 
عن أناي الممرغة بالتراب 
عن فتية ..
ذهبوا الى ما وراء الطبيعة .
في قول الشاعر ( بأصابع أكلها الندم ) موروث أدبي ، جنح اليه الشاعر ليؤكد ان الاحساس والشعور بالندم بعد فوات الاوان ، انما هو شعور باطني ، فردي في ظاهره ، جماعي في مضمونه ، ثم استخدم الشاعر مفردة ( النخيل ) ايحاء منه الى وطنه ، الذي كان شاهداً على ما آل اليه من الاحداث والويلات والحروب ، فهو مثخن بالجراحات التي غُرزت بين ثناياه (يهرول وراء الثكنة ) .. ثم نجد احساس الذات لدى الشاعر متأزمة في لظاها (عن أناي الممرغة بالتراب ) ليهيئ تلكم الانطباعات الفنية التي تؤثر في القارئ / الفاعل نفسياً وذهنياً ، ليسوقها في انساق متراصّة (عن فتية .. ذهبوا الى ما وراء الطبيعة ) عن اولئك الفتية الذين طوتهم الارض / الحاضنة / بالمقابر .. ليكونوا رمزاً للحرية الموءودة ، جريمتهم .. هوس التفاني والولاء للوطن .
ثم نقرأ له :
عن حبيبتي ..
حتى ينبت العشب على ،
قلبي 
رغم هذه الحياة القاحلة .
فلا مفرّ لديه سوى اصراره ، وتحديه على البقاء واستنشاق رحيق الحياة ، رغم ( الحياة القاحلة ) اشارة منه الى حياة الجفاف والتصحّر اليومي ، التي يلاقيها هو والآخرون ، انه يحمل لحظة أمل وتفاؤل عاطفي ينبت في طيات قلبه .
ثم نراه يقول :
أنا الجنوبي المصاب 
بالإمراض لا تعالج 
إلا عندما تهدأ القصيدة 
وتهدأ في رؤوسنا 
التي تحملها كأجراس تعاني ،
من الصرع .
هنا طغيان لذات الشاعر ورؤاه الصادقة ، فهو ( الجنوبي ) رمز الانسان البسيط ، الطيب ، الذي يعيش على فطرته فعلاً وقولاً ، سلوكاً وعملاً ، إنه المتأزم لأمور تقضّ مضجعه ، وتقلق باله الشارد بالمتناقضات ، فهو مصاب ( بإمراض لا تعالج ) انه الواقع الذي فتك به وبجسده ، وترك آثاره الظاهرية والباطنية عليه ، دون ان يجد لها علاجاً ناجعاً ، يستعيد من خلاله عافيته وصحته سوى تلكم الايحاءات التي تداعب نغمته الحزينة وهو يشدّ على القريض مخالب مأساته وجنونه .
ثم يقول :
سأخرج من غيبوبتي 
لأعلن : أن العالم 
زوبعة من القناني 
ستسقط على رأسك ( يا ابي ).
هذا هو ( رعد زامل ) يكشف عن تجذّر قوي لصحوة وتمرد ذاتي متكامل البناء ، (سأخرج من غيبوبتي ) الغيبوبة رمز لفقدان الوعي الحقيقي عن الحياة والشرود في رحلة باطنية لفترة من الزمن ، انها عدم التحكم بالحواس الداخلية والخارجية ، هذه الغيبوبة لا بد وان تنجلي بقوة الارادة ، ليمزق شرانقها وليعلن عن خلاصه ، وان هذا العالم بإنسانيته مُدرك بما يحيط به ، العالم معه رافض مستنكر ، مستهجن لما اقترف بحق الانسانية .
ثم يقول :
ورأسك سيظلّ أصلعاً
طالما تمقت الريش 
ولا تؤمن ..
بالطيور .
ان هناك ترابطاً تركيباً تآصرياً بين المقطع الثاني والأخير ، هما مخاض تأكيد على حقيقة راسخة المفاهيم ، ان الانظمة الحاكمة غير مؤهلة للحكم والسلطة ولا بقاء لها او دوام ، لأنها تجردت من مقومات الحرية التي تعدّ ( دينمو ) التعايش الانساني .
لقد امتلك الشاعر ( رعد زامل ) وحدة تنبؤ تستطيل تارةً ، وتقترب أخرى من بؤر الاماكن المكتظة بالعاهات النفسية ، جعل ذاتيته بودقة معاناة توصيلية ، تحمل رؤى ثابتة ودلالات تنبض بقراءات نصية مكثفة .
_______
*ناقد عراقي 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *