*خالد ايما
خاص- ( ثقافات )
دعوة إلى أن نتذوق الطعم العذب لخفة الكائن
كيف يمكن لنا أن نتصور أن كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق ، وأن هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية ؟؟ هذا ما يقلقنا به الروائي التشيكي الأصل (كونديرا) في بداية خفته التي لا تحتمل أو لا تطاق بفكرة “العود الأبدي”التي يمكن تلخيصها بكلمات قليلة “بما أن طريقة الحياة الدائمة تعني أن الذرات تغير مواقعها بصورة مستمرة ، فعلى الكون أن يمر في دورات لا يمكن حصرها، بكل التشكيلات الممكنة، ثم يعود مرة أثر مرة إلى الحال التي كان فيها من قبل.
يعني ذلك أن الوضع الذي هو فيه الآن سيتكرر مرات أخرى ،” …… الموضة المبكرة التي اكتشفها “نيتشه” على ارتفاع6000 قدم فوق البحر وأعلى من كل الأمور الإنسانية الغامضة التي أربك بها “نيتشه” الكثير من الفلاسفة ،بعد أن أربكنا معه كقراء في خضم الجدل والتوالد الفلسفي الذي يشدنا إلى النص(الأرض) بجاذبية “نيتشوية” ذي واقعية أكثر وحقيقية أكثر تسحقنا وتلوينا بحمولة النص الكونديري الثقيل الذي لن يأتي من فراغ ولا يؤول إلى فراغ حسب ياوس، بقدر ما هو تحليل وتفسير وتأويل ثقافي ايديولوجي يعلن عن سطوة مبكرة لوجود روائي فيلسوف، أو فيلسوف روائي يصعب قراءته في واجهة واحدة ، أو من مدخل نصي واحد، وذلك لكائنيه النص الفلسفي المترع بمصطلحات ومفاهيم في غاية الدقة والضبابية التي تنقسم إلى أزواج من أضداد (النورـ الظلمة ، السميك ـ الرقيق ، الحار ـ البارد ،الكائن ـ اللاكائن ، الخفة ـ الثقل ، السرعة ـ البطء، الهوية ، الجهل.، الوفاء ـ الخيانة،الروح ـ الجسد ،الوجود ــ اللاوجود ، …..الخ) يطلق من خلالها أسئلة فكرية (خارقة) قد تكون هي الأخرى مشوشة بفوضى نتحسسها من خلال جلد النص الذي لا يخترق بسهولة لوجود مضادات حيوية يفرزها جسد النص المتخم بتساؤلات وجودية (فلسفية) لا نجد لها أجوبة مطلقه نطمئن من خلالها على وجودنا ، لا سيما وأن” الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانيات الإنسانية ، وهي التي ترسم حدود وجودنا” ص120 الراضخ تحت سياط الأسئلة التي أخذت تحفر ليس في جسد النص فقط، وإنما في جسد القارئ النموذجي(الاستدلالي)الذي يسهم بطبيعة الحال في إعادة دلالات وشفرات النص الغائمة بتساؤلات كونية معقدة أيقظت قلقي وخوفي المستمر من الوقوع في فخ (كونديرا) وسطوته اللازمة لي كقارئ … تساؤلات تمنعنا في الحقيقة من قول الحقيقة، وإصدار حكم معين (جواب واحد ) لهذه الأسئلة التي لا يوجد لها أي قرار صحيح على اعتبار اننا نعيش الحياة دفعة واحدة (مرة أولى)وبدون تحضير حالنا حال الشخصيات التي تظهر على الخشبة دون تمرين سابق.
ولكن ما يثيرنا في جسد هذا النص “أن كل شي في هذا العالم مغتفر سلفاً ، وكل شي مسموح به بوقاحة”ابتداءً من صورة الحرب التي لم تغير شيئاً في وجه التأريخ ، وصورة هتلر والمصالحة معه ،.وانتهاءً بشخصيات كونديرا .الوهمية ……التي لم تخلق من جسد امرأة ، وإنما ولدت من جملة موحية أو موقف حرج(توماس خلق من جملة ــ تيريزا خلقت من بضع قرقرات)….. نعم هكذا هي الحياة في خفة الكائن ، أو في خفة الوجود الذي لا يحتمل حسب ميزانية النص الخفيفة والثقيلة التي جاءت بـ (279) صفحة بعضها دون وزن(خفيف)بخفة الوبر، والبعض الآخر أكثر ثقلاً بفكرة” العود الأبدي” الحمل الأكثر ثقلاً)ص6 ، وبكلمات غير مفهومة ، ولكن ما يؤرقني دائماً وأنا اقرأ هذا النص لأكثر من مرة هو افتراضاته الفلسفية التي أوجد لها(كونديرا) أرضية خصبة في ذاكرة القارئ الذي راح يبحث عن ذاته إثر الطريقة والأسلوب الحداثوي الأكثر حيلة ومراوغة وإثارة قد يعطل بها (……….) منظومة الفهم والإدراك لدى القارئ الذي من المحتمل أن يحصل على كشوفات وهمية غير متوقعة تربكه في البداية لوجود افتراضات ثقيلة تبعدنا بعض الشيء من أن نتذوق ونتحسس خفة الوجود الذي لا يحتمل .
إذن هل لي هنا إزاء هذه اللعبة الافتراضية(التساؤلات) أن ارقص رقصة “زوربا” وأطير في الهواء بخفة الطير كما يقول “فاليري” (على المرء ان يكون بخفة الطير لا الريشة) ، وأعيش حياة خفيفة جميلة بسيطة؟ أم أمشي ثقيلاً على وجه الأرض ، وأموت بحياة ثقيلة فضيعة بطيئة . هذا ما جنيته من قراءتي لهذه الرائعة التي أمتصتني بتساؤلات هي في الحقيقة تأكيد مرير على ثقل وجودنا الذي لا سبيل إلى مقاومته، ولكوني خرجت من جسد امرأة وليس من جملة موحية أو من استعارة على خلاف شخصيات كونديرا التي يقول فيها:”أشخاصي لا تولد من أجساد أمهاتهم ، كما تولد الكائنات الحية، ولكنهم يولدون من حالة أو من جملة أو من استعارة تحوي في داخلها برعم احتمال إنساني صميم” كيف لي ان أتحرر من لعنة كونديرا وشخصياته (إمكانياته الشخصية)الافتراضية التي لم تتحقق. ؟
إذن من هي الحياة ، ومن هو الموت إزاء( وجودنا) ثقلنا وخفتنا التي لا تطاق؟ وكيف لنا أن نحول الموت إلى رقصة، ونحب حتى الجنون.