“طائر أزرق نادر يحلق معي”.. رواية الأصوات المتعددة


لنا عبد الرحمن

يمكن القول أن فكرة الحرية، ونقيضها السجن يشكلان معا المحور الأساسي لرواية ” طائر أزرق نادر يحلق معي” للكاتب المغربي يوسف فاضل التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر عام 2013 والتي أصدرتها دار الآداب اللبنانية .

يتناول فاضل عالم السجن والمعتقلات السياسية في المغرب في حقبة السبعينات، وحتى التسعينات، تحديدا سجن ” تزممارت”، وقد سبق لكتاب مغاربة أن كتبوا في هذا الموضوع، كما في رواية ” العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون، وفي ” تزممارت : الزنزانه رقم 10″ لأحمد المرزوقي، و في مذكرات محمد الرايس ” من الصخيرات إلى تزممارت –تذكرة ذهاب وأياب إلى الجحيم”، وأيضا في مذكرات مليكة اوفقير في كتابها ” السجينة”.
وبين مجموعة هذه المؤلفات التي تتناول الفكرة ذاتها، جاءت رواية يوسف فاضل لتسرد الأحداث من وجهات نظر متعددة أبرزها عزيز البطل السجين، وزوجته زينة التي تعاني وضعا عائليا مفككا وتعمل في بار، تتزوج من عزيز وتفترق عنه بعد زواجهما بيوم واحد بسبب دخوله السجن . إذن هناك رؤية زينة للأحداث التي تبدأ معها الرواية مؤرخة في 21 أيار 1990، لتحكي عن وجودها في البار، وعن أختها ختيمة، وعن مدام جانو صاحبة البار التي ماتت تاركة البار لختيمة أخت زينة؛ والأهم عن عزيز حبيبها الغائب والذي لا تعرف له مكانا وتستمر في انتظاره والبحث عنه حتى نهاية الرواية لنقرأ : ” كنت أعتقد أنني نسيت انكسرت، وعقلت، وهدأت وأن فكرة البحث عنه من جديد خمدت وتوارت وانطفأت. مضت أربع سنوات لم أغادر فيها بار اللقلاق والبيت الذي أعرفه…انا الآن في الرابعة والثلاثين، وسأستمر إلى الستين أو السبعين وما فوق، فكرتي أنني سأعثر عليه في النهاية، أحب أن أرى نفسي من هذه الزاوية..منتصرة في يوم من الأيام” ص 12.
اختار الكاتب أن تدور أحداث الرواية في يوم واحد، عبر استخدام تقنيات سرد متنوعة تتضمن السرد الدائري والفلاش باك، لكن نجد أن الأحداث تغطي زمن غياب عزيز عن زينة وسجنه 20 عاما، إلى جانب زمن بحثه عنها، وبحثها عنه بعد خروجه من السجن الذي يمتد لسنوات.
يعمل عزيز طيارا في القاعدة الجوية العسكرية ويتم اعتقاله نتيجة اتهامه بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة على الملك الحسن عام 1972. تفترق زينه عن عزيز أكثر من عشرين عاما، لتلتقي به بعد كل هذه السنوات، وكما لو أن الكاتب أراد من خلال هذا الحدث التأكيد على قدرة الحب والوفاء الحقيقي على منح الأمل لبدايات جديدة.
تأتي رواية عزيز تحت عنوان ” مضى وقت كنت أتسلى فيه”، منذ السطور الأولى في سرد عزيز يحضر جو السجن عبر وصف المكان وما فيه من صراصير وعناكب، وفئران، وكيف تتشكل العلاقة مع الكائنات الحية تلك لتنحو في مسار فلسفي في رؤية البطل لعالمه الداخلي والخارجي، عبر تفسير سلوك كائنات تحركها غريزة الحياة فقط مثله هو أيضا، يعيش متشبثا بحياته رغم السجن والعذاب، هذا المنحى الفلسفي يحضر أيضا في توقف عزيز أمام مدلولات أحلامه، وعلاقته مع الله، وموقفه من الصلاة والإيمان؛ ووسط السجن والوحدة، والشك والإيمان والخوف يتخلق الهذيان، كنتيجة طبيعة لوجود مسجون خائف، ومحاصر بالفئران الجائعة التي تعض إصبع قدمه بسبب الجوع. لنقرأ : ” أما عضة الفأر فالجوع هو السبب. كنت قد انصرفت عن التفكير في الأكل منذ مدة. كما انصرفت الفئران والحيوانات المؤذية الأخرى عن الأمل في العثور على قطعة خبز يابس بين ركامات نجاسني المتراكمة. حتى اللحظة التي أحسست فيها بعضة الفأر وهو يقضم إصبعي” ص 24
لا تدور أحداث الرواية فقط على لسان عزيز وزينة، بل هناك رواة آخرون اختار فاضل أن يدمج سردهم مع الحكاية الرئيسية للإضاءة على محاور مختلفة من الحبكة ألا وهي قضية سجن النظام لمعارضيه، وآلية تعامله معهم، حيث أن لكل راو رؤية معينة يسلط الضوء عليها مما يكشف خلفيته الاجتماعية والفكرية والثقافية، كما نجد في : “رواية بابا علي” و ” رواية بنغازي” و ” رواية ختيمة” والأغرب ” رواية هندة” وفي هذا الجزء يستنطق الكاتب كلبة تسرد رؤيتها للسجن في فصل بعنوان ” الظلام منعني من مغادرة القصبة” . يستخدم الكاتب التقطيع السردي في روايات الأبطال فلا يقدم سرد كل بطل في جزء متصل، بل عبر سرد دائري مقسم إلى فصول صغيرة تتبدل فيه الأدوار، وتقدم رؤى متعددة للأحداث- بتقنية الفلاش باك- خاصة فيما يتعلق بحكاية الحب بين زينة وعزيز.
ولعل أكثر الفصول الإنسانية والمعبرة عن الفقد، والتي تضج بالأمل والتشبث بالحياة في ذات الوقت في سرد زينة الذي بدا حميميا، ودفاقا بالعاطفة والحب، في لغة سلسة ومعبرة وقادرة على التعبير عن الحالة بدقة من دون بكائيات مبالغ بها، لكن في المقابل ثمة ملاحظة تتعلق بالمستوى اللغوي للأبطال ككل وغياب التباين أسلوبيا في مستواهم اللغوي، حيث يحضر الفرق مضمونا على صعيد الحكاية فقط، فلا يوجد مستويات مختلفة في اللغة، حتى حين اختار السرد على لسان الكلبة هندة لا نجد توظيفا مبررا لهذا الاختيار، بل تماهيا مع الحالة العامة للرواية لنقرأ ما تقوله هندة: ” ولكني لا أرغب في الموت هنا ودفني في حفرة موبوءة ورشي بالجير كالمئات من الجثث التي رأيت. رغم سني المتقدمة مازلت طامعة في حياة أكثر بهجة، في أولاد، ولم لا إذا وجدت كلبا متفهما وهذا أمر غريب” ص233
أما دلالة عنوان ” طائر أزرق نادر يحلق معي” فيأتي محملا برؤية فلسفية للعلاقة مع حالة الطيران، وفكرة التحليق خارج الحدود الذاتية، حيث لكل شخص أحلامه وخيالاته التي تساعده عن الابتعاد عن الواقع الأرضي الثقيل، حتى وإن كان مسجونا خلف القضبان، فإن السجن لن يمنعه من الحلم والأمل خاصة في اختيار اللون الأزرق لوصف الطائر الذي يتحاور معه عزيز في السجن، إلى جانب دلالة أخرى في مهنة عزيز كطيار، وفي عشقه للطيران، وما في هذا العشق من تماه مع فكرة الحرية، من هنا نجد في أكثر من موضع عبارات عن العلاقة مع الطيور، عن رؤية عزيز لها، وتحليله لحركاتها، لنقرأ : ” تسلل تحت سقف القصدير وراح يبني عشه على أحد الأعمدة الخشبية التي تسند سقف الطين. هذا الطائر ملأ المكان بتساؤلات لم تكن. وبجو جديد” ص 209
وإذا كان ثمة ملاحظة بشأن الرواية هو الحاجة لمزيد من الاسترسال والتأمل بمدلول العلاقة مع الطيران، سواء المادي أو المعنوي، بحيث يتجاوز حضور فكرة محورية تحضر في عنوان الرواية أكثر من ومضات تصف الحالة وتحضر في سرد عزيز عبر صفحات متباعدة في الرواية.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *