*سعيد يقطين
أثارت مقالة «البدانة الروائية» إعجابات ومشاركات وتعليقات أذهلتني كثرتها. ولم يكن يوازيها في ذلك سوى ما كتبته بصدد تقليعات بان كي مون، أو «المعارك الثقافية»… فدفعني ذلك إلى التساؤل عن الأسباب والخلفيات؟ وتبين لي أن هناك موضوعات تستهدف قطاعات واسعة، وأخرى لا تهم سوى فئة محددة. بعض الموضوعات تمس الناس في تصوراتهم التي كونوها، ولهم في ذلك رأي محدد، وكلما وافق ما يُكتب، أو خالف، أهواءهم بادروا إلى التجاوب. أما حين تتعلق الموضوعات بما يجب أن يكون، فلا تكون الاستجابة إلا من لدن المنخرطين في الفعل، ويريدون الإسهام في التفكير والحوار.
تجاوب القراء مع الرواية وقضاياها، يكشف أن جمهور قراءة الرواية في ازدياد، حتى أنها صارت موضع انتقاد وتشكيك. وأكاد أجزم لو أنني تحدثت عن الرواية العربية من منظور إيجابي، لما كانت المشاركات بالحجم الذي كان. وليس لذلك من معنى، كما أستنتج، سوى أن القارئ بات يحلم بأن ترقى الرواية العربية إلى مستوى النضج، وأن تتجاوز التسيب الذي تعرفه الآن. كثير من القراء عبروا عن استيائهم من البدانة الروائية، والبعض وقف موقفا وسطا، وقارئة واحدة حبذت الرواية الطويلة، وعبرت عن رفضها للقصيرة.
انتقدت «البدانة الروائية»، ولم أنتقد ما يمكن أن أسميه «البسط السردي» أو «الاستقصاء الحكائي» أو «الإطناب الروائي»، وأنا الذي اشتغلت بالسيرة الشعبية العربية التي لا تقل أصغر سيرة فيها عن أربعة مجلدات. لست ضد الثنائيات والثلاثيات والخماسيات والرواية الطويلة. لكنني أؤمن بالملاءمة الجمالية. فالبلاغة، عند القدامى: إيجاز وإطناب. ومتى لم يوظفا بشكل جيد كان الإسهاب والحشو والتورم، والعي والتقصير… والروائي الذي ينساق وراء عوالمه، ويعجز عن التحكم فيها لفائدة جمالية ومعرفية لا يمكنه إلا أن يقع في ممارسة «البدانة»، وهو لا يشعر.
كانت التفاتة طيبة من الزميل السارد محمود الرحبي حين ذكرني بأن باولو كويلو استقى فكرة نصه، ليس من التنوخي، ولكن من بورخيس، لأنه ،أي كويلو، عاجز عن الاطلاع على التراث العربي، بالصبر والعشق الذي لبورخيس. جئت بمثال التنوخي و«الخيميائي» في معرض الحديث عن كون المادة الحكائية الواحدة، بل إن أصغر وحدة حكائية (الخبر)، يمكن أن تتحول إلى حكاية أو إلى قصة أو رواية، بل وإلى ثُمانية مثل سيرة عنترة بن شداد. هذه السيرة يمكن تلخيصها في جملة «عنترة أحب عبلة». فلولا هذا الحب ما كانت السيرة. وسيرة حمزة البهلوان نلخصها في جملة: «كسرى رأى حلما»… وقس على ذلك. ما أكثر «الجمل» التي يمكن أن تحول إلى سرود. لكن المشكل هو كيف؟ هنا تكمن عبقرية «كويلو». لقد استقى فكرة، وبنى عليها عالما. كم من روائيينا قرأ «الفرج بعد الشدة»، و«نشوار المحاضرة»، و«البصائر والذخائر»… وبنى من خلالها نصا يغدو عالميا؟ كتب «الفرج بعد الشدة» في التراث العربي كثيرة. والشدة والفرج معضلتان بشريتان. كل إنسان في شدة، وهو يعمل، أو ينتظر فرجا. هذه فكرة تتصل بوثوق بالحياة، ولذلك كثر التصنيف فيها في التراث العربي لدفع اليأس والتمسك بالحياة، وقدمت لنا في ذلك حكايات وأخبار، أليس السرد هو الحياة؟ ومن أجلها؟
ما قام به كويلو هو أنه جعل لبطله «أسطورة شخصية»، وجعلها مدار روايته، أي «المحرك الذهني» لبنائها. وما كان لبطله سوى أن يحقق «أسطورته الشخصية»، بواسطة الاستمرار في العمل في «عالم الشهادة»، (الخروج للمغامرة)، من جهة، وكان التوفيق مؤسسا على «عالم الغيب». هذا ما أسميه «التفاعل» النصي الإيجابي مع التراث العربي ـ الإسلامي.
يكمن نجاح رواية «الخيميائي» وشهرتها العالمية، وهي في رأيي المتواضع أحسن رواياته وأجملها وأعمقها، من دون التقليل من رواياته الأخرى، في أنه لم يكتف بإعادة كتابة «مادة حكائية» من التراث العربي، وتوسيعها وتمطيطها. إنه أخذ بذرة من تربة عربية، وزرعها في حديقته الجنوبية، وظل يتعهدها بالسقي والمراقبة صباح مساء، حتى انتهت وردة كاملة. فصار كل من يراها يغبطه عليها.
الرواية الجيدة، والإبداع الرائع يسهمان في تطوير النظرية الأدبية. وما كبريات النظريات سوى تجل لتطور الإبداع. إننا نعجب كثيرا لما يصله إليه العلماء من اكتشافات في الكون. لكن كل العجب في خلق الكون. المادة الحكائية القابلة للسرد موجودة أبدا. لكن كيف يمكننا التقاطها، والتعبير عنها بصفتنا روائيين، وكيف نمسك بها، ونحن قراء، ونؤولها كنقاد أو نحللها كعلماء سرد؟ هنا مربط الفرس، و«الشهيلة» لا تدرك إلا بعد التعب.
ظهر لي من خلال «الأسطورة الشخصية»، وهي تتصل بقدر الإنسان ومشيئته في آن، أن لكل إنسان، أسطورة شخصية. وهناك من يجدّ لتحقيقها وهو الجسور، وهناك من يظل يرقب الناس. وبدا لي أن أي عمل سردي، بما في ذلك الرواية، وهي تتأسس على «دعوى النص»، لا يمكنها إلا أن تبنى على «أسطورة شخصية»، وقد لا تبنى عليها إذا لم يدركها الروائي جيدا. جعل كويلو «حكاية» الفرج بعد الشدة «رواية أسطورة شخصية»، فبسط واستقصى، وأنتج رواية، بلا بدانة.
________
*القدس العربي