الأصوات


* أليس مونرو / ترجمة: يمنى صابر




وُلِدت أليس مونرو، الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب لعام 2013 عام 1931، في وينجهام بمقاطعة أونتاريو الكندية، لأمّ معلِّمة، وأب مزارع. بدأت تدرس الصحافة واللغة الإنجليزية في جامعة ويسترن أونتاريو، إلا أنها تركت الجامعة لتتزوج في 1951. 

شرعت مونرو تكتب القصص في سنّ المراهقة، ونشرت أوّل أعمالها عام 1968، وهي مجموعة «رقص الظلال السعيدة»، والتي حظيت باهتمام كبير بعد أن نالت جائزة الحاكم العام في كندا، في العام نفسه. في عام 1971 نشرت مجموعة أخرى بعنوان «حياة الصبايا والنساء»، والتي صنّفها النقاد على أنها عمل تكويني. وتوالت مجموعاتها القصصية فيما بعد، حيث نشرت «من تظن نفسك؟» (1978)، و«أقمار كوكب المشتري» (1982)، و«الهارب» (2004)، و«المشهد من كاسل روك» (2006) و«الكثير من السعادة» (2009)، وهو العام الذي حصلت فيه على جائزة «مان بوكر» الدولية. وتحوّلت مجموعة «علاقات الكره والصداقة والغزل والحب والزواج» (2001) إلى فيلم يحمل اسم «بعيداً عنها» والذي قامت بإخراجه سارة بولي في 2006. آخر مجموعاتها القصصية هي «عزيزتي الحياة» (2012)، وتضمنت قصة «الأصوات». 

يُثني النقاد على موهبة مونرو في السرد الدقيق ووضوح أسلوبها وكتاباتها الواقعية. ويعدّها بعضهم (تشيخوف) القصة الكندية. وغالباً ما تدور أحداث قصصها في مدن صغيرة، حيث الصراع من أجل البقاء في المجتمع، والذي يسفر- بدوره- عن علاقات متوترة وصراعات أخلاقية، وتصوِّر قصصها المشاكل التي تنبع من الاختلافات بين الأجيال وطموحات الحياة المتصادمة، وهي ترِّكز- دائماً- على الأحداث اليومية، والتي- على بساطتها- تُعَدّ حاسمة، مما يخلق أسئلة وجودية داخل النص، ويدعو إلى استكشاف الجوانب الإنسانية المعقَّدة. 

—-
في الوقت الذي كانت والدتي تشبّ فيه عن الطوق، كانت تذهب، برفقة عائلتها، إلى حفلات الرقص التي تُقام في المدرسة، أو- في بعض الأحيان- في مزرعة لها غرفة أمامية تتّسع لمثل هذه الحفلات. كان الحضور من الكبار والشباب، حيث يعزف أحدهم على البيانو، البيانو الموجود في المنزل أو في المدرسة، ويكون شخص آخر قد جلب الكمان. وكان الرقص في مربّعات، يقوم على أنماط أو خطوات معقّدة، يشرع أحد الأشخاص المشهود لهم بالبراعة، يوجّه الراقصين عن طريق النداء، بصوت جهوري (كان دائماً رجلاً)، وبأسلوب يتميَّز بقدر غريب من اليأس والعجلة، بيد أن هذا التوجيه لم تكن له أية فائدة إلا لمن يعرفون الرقصة مسبقاً، وهو ما كان يتقنه الجميع، حيث إنهم كانوا قد أتمّوا تعلُّم تلك الرقصات في الوقت الذي بلغوا فيه العاشرة أو الاثني عشر عاماً. 
وبعد أن تزوَّجت، وأضحى لها من الأبناء ثلاثة، كانت والدتي لا تزال تملك، من العمر والمزاج، ما يسمح لها بالاستمتاع بتلك الرقصات. فقط، لو أنها كانت تقطن في الريف الحقيقي، حيث ظلت هذه الرقصات مستمرّة، وكانت ستستمتع- أيضاً- بجولات الرقص التي يقوم بها الأزواج، والتي حلّت محلّ الطراز القديم إلى حَدّ ما، ولكنها كانت في وضع غريب، فقد كنا موجودين. وكانت عائلتنا خارج أسوار المدينة، وإن لم تكن حقّاً- تسكن الريف.
كان والدي، الذي أحبَّه الجميع أكثر من والدتي، يؤمن بأخذ كل ما جادت به الحياة. على خلاف ما آمنت به هي، فقد بزغت- منذ نشأتها كفتاة ريفية- لتصير مدرِّسة، إلا أن هذا لم يكن كافياً، حيث عجز عن منحها المكانة التي كانت تصبو إليها، أو الأصدقاء الذين كانت تودّ الحصول عليهم في المدينة. كانت تعيش في المكان الخطأ، بأموال لا تسدّ رمقها، بيد أنها لم تكن مهيّأة على أية حال، فقد كان بإمكانها لعب البوكر، وليس البريدج. وكانت تشعر بالإهانة عند رؤية امرأة تدخِّن. أظن أن الناس عَدّوها متغطرسة ومهووسة بالنحو. فقد كانت تقول أشياء مثل: «بسرور»، و«في الواقع حقاً»، بدت كما لو أنها قد نشأت في كنف عائلة عجيبة تحدّثت دوماً على هذا النحو. وهو ما لم يحدث. ما لم تفعله عائلتها. ففي مزارعهم، تحدَّث أخوالي وخالاتي كما تحدَّث الجميع. وهم- أيضاً- لم يحبّوا والدتي كثيراً. 
وأنا لا أعني أنها أمضت كل وقتها تتمنّى ألا تكون الأمور كما كانت عليه. فمثلها مثل كل امرأة أخرى، كان عليها أن تجرّ طشوت الغسيل إلى المطبخ، وتعاني من عدم وجود مياه جارية، وتقضي معظم أوقات الصيف في إعداد أكلات الشتاء. 
وهكذا، ظلت والدتي مشغولة، ولم تستطع حتى تكريس الوقت الكافي، وهو ما كانت ستقوم به في وضع مختلف لتجترّ خيبة أملها فِيّ، وتتساءل عن سبب عدم إحضاري أصدقاء مناسبين، أو أي أصدقاء، على الإطلاق، إلى منزلنا من مدرسة المدينة، أو عن سبب ما كان يعتريني من الخجل، ويبعدني عن تلاوات مدارس الأحد، وهو الأمر الذي اعتدت القيام به، أو لِمَ عدت إلى البيت وقد انفرطت جدائل شعري، وهو سلوك سيِّئ انتهجته حتى قبل التحاقي بالمدرسة، فأنا لم أرَ التسريحة التي كانت تصمّمها هي لشعري على أي رأسٍ أخرى، أو لِم تناسيت حتى تلك الذكرى الرائعة حين ألقيت شِعراً ذات مرّة، ورفضت استغلالها مجدَّداً على سبيل التباهي. 
ولكني لست- دائماً- عابسة، وأخوض النزاعات. ليس بعد، كنت وقتها في حوالي العاشرة من عمري، وكلّي حماسة وأنا استعدّ، بارتداء ملابسي، لمصاحبة والدتي إلى حفلة الرقص. 
أقيم حفل الرقص في أحد المنازل الواقعة في شارعنا اللائقة بشكل عام، وإن لم تكن مبهرة المظهر. كان منزلاً خشبياً كبيراً يقطنه ناس لا أعلم عنهم شيئاً، إلا أن الزوج كان يعمل في المسبك، على الرغم من أنه بلغ من الكبر عتيّاً، ما يجعله في عمر جَدّي. إذاً، أنت لا تترك العمل في المسبك، وإنما تظلّ تعمل طالما كنت قادراً، بينما تحاول أن تدَّخر الأموال لوقت، لن تستطيع فيه العمل. إنها لوصمة عار- حتى في خضمّ ما عُرِف، لاحقاً، باسم الكساد العظيم- أن تجد نفسك مضطرّاً للتقاعد عند بلوغ الشيخوخة. كانت وصمة عار أن يسمح لك أبناؤك البالغون بذلك، بغضّ النظر عن الشدائد التي كانوا يمرّون بها في ذلك الوقت.
هناك أسئلة تطرح نفسها الآن، لم تتبادر إلى الذهن آنذاك:
هل أقام ساكنو هذا المنزل الحفل الراقص، ببساطة، لخلق البهجة؟ هل تقاضوا أموالاً؟ هل كانوا يمرّون بضائقة مالية، على الرغم من أن الرجل كان يملك وظيفة؟
فواتير الطبيب! كنت أعرف مدى ثقل هذا الحمل على عاتق الأسرة، فقد كانت أختي الصغرى ضعيفة، كما قال الناس، وقد خضعت- بالفعل- إلى عملية إزالة اللوزتين. وعانيت أنا وأخي من التهاب الشُّعَب الهوائية الشديد كل شتاء، مما أسفر عن زيارات للطبيب. الأطباء يكلِّفون أموالاً. 
والشيء الآخر الذي كان من شأنه أن يدعوني إلى التساؤل هو: لِم تَمَّ اختياري لأرافق والدتي، بدلاً من والدي، وإن كان الأمر ليس بلغز، فربّما لم يكن والدي محبّاً للرقص، في حين أحبّته والدتي، بالإضافة إلى هذا، كان هناك طفلان صغيران بحاجة إلى الرعاية في المنزل، ولم أكن أنا بالعمر الذي يسمح لي القيام بهذا. لا أتذكَّر أبداً أن قام والدي باستئجار جليسة أطفال، أنا لست متأكدة حتى إذا ما كان هذا المصطلح مألوفاً في تلك الأيام، فعندما كنت في مرحلة المراهقة كان هذا هو العمل الذي حصلت عليه، وكانت الأمور قد تغيَّرت بحلول ذلك الوقت.
ارتدينا ملابسنا، تذكَّرت والدتي الرقصات الريفية، لم يكن في ملابس تلك الرقصات المربّعة أي مظهر وقح، كما أضحى الوضع، لاحقاً، على شاشات التلفزيون. لبس الجميع أفضل حللهم، من أجل تفادي الظهور ببهرجة أووضع مناديل حول الرقبة، كما هو حال الملابس الريفية؛ وهو ما كان سَيُعَدّ إهانة للمضيفين وللجميع. ارتديت ثوباً حاكته لي والدتي من الصوف الشتوي الخفيف. كانت التنورة وردية اللون والجزء العلوي أصفر، فيه قلب من الصوف الوردي، مرتَّق في المكان الذي سيغله ثديَيَ الأيسر في يوم ما. ومُشِّط شعري، وبُلِّل لتُصنع منه جدائل تشبه النقانق الدسمة والطويلة، وهي الجدائل التي أتخلَّص منها، كل يوم، في طريقي إلى المدرسة. وقد شكوت من ذهابي إلى حفلة الرقص بتلك التسريحة، على أساس أن لا أحد يمشّط شعره بهذه الطريقة. وكان جواب والدتي أن لا أحد محظوظ لهذه الدرجة. تخليت عن الشكوى، حيث إنني رغبت- بشدّة- في الذهاب، أو- ربّما- لأنني اعتقدت أن لا أحد من المدرسة سيكون في الحفل؛ لذا فلم يكن للأمر أهمّية، فقد كانت سخرية زملاء المدرسة هي ما خشيت منه دوماً. 
لم يكن ثوب والدتي محاكاً في المنزل، وهو أفضل ما لديها، كان أنيقاً جداً بحيث لا يمكن أن ترتديه في الكنيسة، ومبهجاً جدّاً بحيث لا يمكن أن تحضر به جنازة، مما جعلها نادراً ما تلبسه. كان مصنوعاً من المخمل الأسود، مع أكمام تصل إلى المرفقين، وخَطّ رقبة مرتفع، وكان أروع ما فيه هو انتشار حبات صغيرة، ذهبية وفضية وبألوان مختلفة، تمَّت حياكتها في جميع أنحاء الصدر، وكانت تعكس النور، وتتغير كلّما تحرّكت والدتي، أو حتى تنفَّست. وقد ضفرت شعرها، الذي كان لا يزال معظمه أسود، ثم عقصته كله في تاج محكم، وضعته على قمّة رأسها. لو كانت أي شخص آخر غير والدتي لوجدتها شديدة الجاذبية. أظن أني رأيتها هكذا بالفعل، ولكن، بمجرّد وصولنا إلى المنزل الغريب لاحظت- بوضوح- أن أفضل فساتينها كان شيئاً لا يذكر، مقارنة بفساتين النساء الأخريات، واللاتي ارتدين أفضل ما لديهن أيضاً. 
وكانت النساء الأخريات اللاتي أتحدّث عنهن في المطبخ، حيث توقَّفنا ونظرنا إلى الأشياء المصفوفة على الطاولة الكبيرة: كل أنواع الكعك والفطائر والحلوى. ووضعت والدتي- هي الأخرى- شيئاً فاخراً صنعته بنفسها، وشرعت تقيم ضجة لتجعله يبدو بشكل أفضل. وعلّقت قائلة: إن كل شيء يسيل له اللعاب. 
هل أنا واثقة من أنها قالت هذا «يسيل له اللعاب»؟ أياً كان ما قالت، فإنه لم يبدُ صحيحاً تماماً، تمنيت، في تلك اللحظة، أن يكون والدي موجوداً، دائماً يأتي بالقول الذي يلائم الموقف تماماً، حتى عندما يتحدث مُتَّبعاً قواعد النحو. وهو ما كان يقوم به في منزلنا، وإن لم يواته الأمر بالسهولة نفسها خارجه. كان يتسلَّل لأي حوار دائر، وقد تيقن أن ما ينبغي عليه فعله هو عدم قول أي شيء متميِّز، كانت والدتي على العكس منه تماماً. في حالتها، كان كل ما تقوله جليّاً، وله رنين، ويسعى لجذب الانتباه. وهو ما كان يحدث، الآن، حيث سمعت ضحكتها المجلجلة، كما لو كانت تعويضاً عن أن أحداً لم يتحدَّث إليها، كانت تستفسر عن مكان وضع المعاطف. 
تبيَّن أنه بوسعنا أن نضعها في أي مكان، ولكن، إذا أردنا- كما قال أحدهم- يمكننا أن نضعها على السرير في الطابق العلوي، ويمكنك الوصول إلى الطابق العلوي بواسطة درج تحوّطه الجدران، وليس هناك ضوء، إلا في الأعلى. أخبرتني والدتي أن عليَّ المضي قدماً، وقالت إنها سوف تصل إلى الطابق العلوي في دقيقة واحدة، وهكذا فعلت.
والسؤال هنا هو ما إذا كانت هناك فعلاً رسوم فُرِضت لحضور الحفل الراقص. من الممكن أن تكون والدتي وراء الترتيب لهذا الأمر. وعلى الجانب الآخر، هل طلب من الناس دفع المال، ومع هذا أحضروا كل تلك المرطِّبات؟ وهل كانت المرطِّبات- حقاً- بكل هذا القدر من الفخامة التي تذكّرتها بها، مع حالة الفقر المدقع العامّة؟ ولكن، ربَّما لم يشعروا- بالفعل- بكل هذا الفقر، بسبب وظائف الحرب، والأموال التي أرسلها الجنود إلى أوطانهم. إذا كنتُ حقّاً في العاشرة (وأعتقد أنني كنت كذلك) فإن تلك التغييرات كانت قد وقعت منذ عامين.
بدأ الدرج من المطبخ، وكذلك من الغرفة الأمامية، والتحم في مجموعة واحدة من الدرجات المؤدِّية إلى غرف النوم في الطابق العلوي. بعد أن تخلّصت من معطفي وحذائي الطويل في مدخل غرفة النوم المرتّبة، كنت أستطيع أن أسمع صوت أمّي يجلجل في المطبخ. ولكني أستطيع- كذلك- سماع الموسيقى القادمة من الغرفة الأمامية، ومن ثم ذهبت إلى الأسفل في هذا الاتجاه. 
تَمَّ إخلاء الغرفة من كل الأثاث ما عدا البيانو، أسدلت على النوافذ الستائر الخضراء الداكنة، وهي من النوع الذي وجدته كئيباً بشكل خاصّ. ولكن، لم تكن هناك أية كآبة في مناخ الغرفة. رقص الكثيرون، وتشابكوا سوياً بأسلوب مهذَّب، مع الخلط والتمايل في دوائر ضيِّقة، ورقصت فتاتان، ما زالتا في المدرسة، بأسلوب حاز الإعجاب، حيث تحرَّكتا، كل منهما عكس الأخرى، وتشابكت أياديهن في بعض الأحيان، وتفرّقت في أحيان أخرى. وفي الواقع، لقد ابتسمتا ابتسامة تحيّة عندما وقعت عيونهن عليّ، مما أذابني في حبور، وهوالشعور الذي كان ينتابني كلما أولتني فتاة كبيرة وواثقة اهتماماً. 
كانت هناك امرأة في تلك الغرفة، ليس بوسعك إلا أن تلاحظها، وكان لفستانها-قطعاً- أن يسرق كل الأضواء من فستان والدتي. كانت- حتماً- أكبر قليلاً من والدتي: كان شعرها قد اشتعل شيباً، وقد صفَّفته بترتيب أنيق، فيما يُعرَف بـ(موجات الشعر)، والتي تنساب على مقربة من فروة رأسها وكانت ضخمة البنية لها أكتاف بارزة وأرداف كبيرة، ترتدي ثوباً من قماش التفتا البرتقالي المُذهَّب، برقبة مربَّعة متدلِّية قليلاً وتنورة لا تكاد تغطي ركبتيها. أحكمت أكمامها القصيرة على ذراعيها بشدّة، وكان لحمهما سميناً طريّاً وأبيض، مثل دهن الخنزير.
كان مشهداً جليلاً، لم أكن أظنه ممكناً أن يكون أحدهم كبيراً في السنّ ومنمّقاً، ضخماً ورشيقاً، جريئاً ولامعاً، ومع هذا، مبجَّلاً إلى أقصى حَدّ. كان بإمكانك أن تصفها بالوقاحة، وهو ما قامت به والدتي على الأرجح (كانت تلك إحدى كلماتها). وقد يصفها شخص آخر رابط الجأش بأنها مهيبة، وهي لم تتفاخر إلا في أسلوب ملبسها ولون فستانها، وقد رقصت مع الرجل الذي كان برفقتها باحترام، وبشرود، كما لو كانا زوجين. 
لم أكن أعرف اسمها، فلم أكن قد رأيتها من قبل، ولم أكن أعلم أنها كانت سيّئة السمعة في بلدتنا، بل- وربّما- تخطّت سمعتها حدود البلدة كثيراً، كان هذا هو أقصى علمي بالأمر.
أظن أنني لو كنت أكتب رواية، لا أتذكر شيئاً وقع بالفعل، لما اخترت لها ذلك الثوب أبداً. فهو كان بمثابة إعلان، لم تكن هي في حاجة إليه. 
بطبيعة الحال، لو أنني كنت أعيش في المدينة، بدلاً من مجرَّد الذهاب والإياب كل يوم إلى المدرسة، لكنت عرفت أنها مومس مرموقة. كنت- بالتأكيد- سأراها في وقت ما، ولكن، ليس في هذا الثوب البرتقالي. ولم أكن لأستخدم كلمة مومس، بل امرأة طالحة، على الأرجح، كنت سأعرف أن هناك شيئاً مقززاً وخطيراً ومثيراً وصفيقاً مرتبطاً بها، دون أن أعلم ما هو على وجه التحديد. ولو حاول أحدهم إخباري به، لا أظن أني كنت سأصدق. 
بدا العديد من الناس في البلدة غير عاديين، وربّما كانت ستبدو هي لي كذلك. كان هناك رجل أحدب يصقل أبواب قاعة المدينة، وعلى حَدّ علمي، لم يكن يفعل شيئاً سوى ذلك. وكانت هناك امرأة أنيقة المظهر، لا تتوّقف عن الحديث إلى نفسها بصوت عالٍ، وهي تنحي باللائمة على أناس ليسوا في مرمى البصر. 
عرفت، فيما بعد، اسمها، واكتشفت، في نهاية الأمر، أنها اقترفت أفعالاً لم أكن أظن أنها لتفعلها، وأن الرجل الذي رأيته يراقصها، والذي لم أعرف اسمه أبداً، كان مالك النادي.
يوماً ما، عندما كنت في المدرسة الثانوية تحدَّتني فتاتان أن أدخل النادي، وكنا نسير بحذائه، وقبلت التحدّي، وكان، هناك، الرجل نفسه إلا أن رقعة الصلع قد اتَّسعت، وزاد وزنه الآن، وكان يرتدي ملابساً رثة، لا أتذكَّر أنه قال شيئاً لي، لم يكن مضطرّاً لهذا. عدت أدراجي إلى صديقاتي، اللاتي لم يكنّ- حقّاً- صديقات، ولم أتفوَّه ببنت شفة.
عندما رأيت مالك النادي، تمثَّلَ أمامي مشهد الرقص برّمته: البيانو الكبير، وموسيقى الكمان، والثوب البرتقالي، الذي وجدته- في ذلك الحين- سخيفاً، وظهور والدتي المفاجئ وهي ترتدي معطفها الذي لم تخلعه أبداً، على الأرجح. 
هناك، كانت تنادي عليّ باسمي في أثناء عزف الموسيقى، بنبرة كنت أكرهها بشدّة، وهي النبرة التي بدت كما لو كانت تذكِّرني -بشكل خاص- بأن الفضل كله يعود إليها كوني على ظهرهذا الكوكب. 
وقالت: «أين معطفك؟» كما لو كنت فقدته في مكان ما.
– «في الطابق العلوي».
– «حسناً اذهبي، وأحضريه».
كانت ستراه بنفسها لو أنها صعدت إلى الطابق العلوي. في الأغلب أنها لم تتخطَّ حدود المطبخ، حيث كانت تحدث جلبة هنا وهناك، حول الطعام، وهي مرتدية المعطف بعد أن فكَّت أزراره، حتى رأت الغرفة التي كان فيها الرقص، وعرفت من هي الراقصة البرتقالية. 
– «لا تتأخّري»، قالت.
لم أكن أنتوي التأخُّر. فتحت الباب المؤدّي إلى الدرج، وعدوت عالياً، ووجدت أن هناك أناساً جالسين عند منحى الدرج، مما كان يسدَّ الطريق. لم يروني وأنا قادمة نحوهم، كانوا مشغولين- فيما يبدو- بشيء خطير. لم تكن مجادلة، بالمعنى الحرفي، ولكنها كانت حالة ملحّة من التواصل. 
كان اثنان منهم من الرجال، شابان في زيّ القوات الجوية، جلس أحدهما على الدرج، ومال الآخر إلى الأمام أسفل منه واضعاً يده على ركبته، وكانت هناك فتاة جالسة على الدرج أعلى منهما، بينما كان الرجل الأقرب إليها يربِّت على ساقها بأريحية. ظننت أنها سقطت عن هذه السلالم الضيقة وجرحت نفسها، لأنها كانت تبكي.
بيغي، كان اسمها بيغي. «بيغي، بيغي» كما كان يقول الشابّان، بأصوات ملحّة ورقيقة كذلك.
قالت شيئاً لم أتبيّنه، تحدثت بصوت طفولي، كانت تشكو بطريقة الشكوى من الظلم نفسها. تردِّد مراراً وتكراراً أن شيئاً ما ليس عادلاً، وبصوت يغمره اليأس، كما لو كنتَ لا تتوقّع أن يُرفع الظلم عن هذا الشيء. (خسيس) هي كلمة أخرى تستخدم في مثل تلك الظروف. منتهى الخسّة، كان أحدهم خسيساً جداً. 
من خلال الاستماع إلى حديث والدي ووالدتي، بعد عودتنا إلى المنزل، تبيَّنَ لي بعض ما وقع، وإن لم أكن قادرة على فهمه بصورة مباشرة. ذهبت السيدة هاتشيسون إلى الحفل الراقص، يقودها مالك النادي، الذي لم أكن أعرف أنه المالك حينها. لم أعرف الاسم الذي أطلقته عليه والدتي، ولكنها كانت مستاءة من سلوكه. 
انتشرت الأخبار عن الحفل الراقص، وقرّر بعض الصبية من ميناء ألبرت (قاعدة السلاح الجوي)، الذهاب إلى الحفل كذلك. وبطبيعة الحال، كان هذا أمراً لا بأس به،كان صبية السلاح الجوي لا بأس بهم، وكانت السيدة هاتشيسون هي وصمة العار، وكذلك الفتاة. 
لقد أحضرت إحدى فتياتها معها.
«ربّما ظنّت أنها نزهة» قال والدي، «ربّما كانت، فقط، تحبّ الرقص».
بدت أمي كما لو أنها لم تسمع ما قاله. قالت إنه أمر مشين. كانت تتوقَّع أن تمضي وقتاً لطيفاً، في حفل راقص في الحي، إلا أن كل شيء تحطَّم. 
اعتدت تقييم نظرات الفتيات الأكبر مني سنّاً. لم أجد بيغي جميلة جمالاً أخّاذاً. ربَّما زال مكياجها بسبب البكاء، انفرط شعرها ذو اللون الجرذي المعقود بالدبابيس، كانت أظافرها مطليّة، ولكن، كان واضحاً أنها تقضمها. لم تبدُ أكبر سناً من أولئك الفتيات المتذمّرات الخبيثات والدائمات الشكوى، اللاتي كنت أعرفهن، ومع ذلك عاملها الشابّان كما لو أنها كانت شخصاً لا يستحقّ -أبداً- أن يواجه لحظة صعبة، شخصاً يستحقّ- عن جدارة- أن يُدلَّل، ويُدخَل السرور إلى قلبه، وتنحني أمامه القامات.
أعطاها أحدهم سيجارة جاهزة، كان هذا- في حَدّ ذاته- ضرباً من التدليل، فقد كان والدي يلفّ سجائره بنفسه، وهذا ما فعله كل رجل عرفته، إلا أن بيغي هزّت رأسها رافضةً، وشكت، بذلك الصوت المجروح، من أنها لا تدخِّن. ثم قدَّم الرجل الآخر لها علكة، فقبلتها. 
ما الذي كان يجري؟ لم أملك أية وسيلة لمعرفة هذا، لاحظ الشاب الذي أعطاها العلكة وجودي، وبينما كان يفتِّش في جيوبه، قال: «بيغي بيغي، هناك طفلة صغيرة تود الصعود إلى الطابق العلوي».
أسقطت رأسها بحيث لم أعد أستطيع النظر إلى وجهها، شممت رائحة العطر وأنا في طريقي، شممت- كذلك- سجائرهم، وزيّهم الصوفي الرجالي، وأحذيتهم الملمَّعة.
عندما هبطت إلى الطابق السفلي، بعد ارتداء معطفي، كانوا لا يزالون هناك، وإن كانوا- هذه المرّة- يتوقّعون عودتي، لذلك لزموا جميعهم الصمت حين مررت بهم، إلا أن بيغي أطلقت شهقة عالية، وشرع الشاب الأقرب إليها يمسِّد ساقها من الأعلى، ارتفعت تنورتها، ورأيت المشبك الذي يمسك جوربيها. 
تذكَّرت الأصوات لفترة طويلة، فكرت مليّاً في الأصوات. ليس صوت بيغي، بل أصوت الرجال. أعلم- الآن- أن بعض رجال القوات الجوية المتمركزة في ميناء ألبرت في بداية الحرب قد أتوا من إنجلترا، وكانوا يتلقّون، هناك، تدريباً لقتال الألمان. وتساءلت متعجّبة:هل كانت لهجة بعض مناطق بريطانيا هي ما وجدته دمثاً وخلّاباً جداً؟! من المؤكد أني لم أسمع، في حياتي، رجلاً يتحدّث بهذه الطريقة، يتعامل مع امرأة كما لو كانت مخلوقاً رقيقاً وموضع تقدير، وأن أياً ما كان قد أصابها من قسوة فهو بمثابة خرق للقوانين، بل هو خطيئة. 
ما الذي جال في خاطري عن سبب بكاء بيغي؟ إلا أن السؤال لم يكن يعنيني كثيراً وقتها، لم أكن شخصاً شجاعاً، فقد بكيت عند تعرُّضي للمطاردة والضرب بألواح خشبية، في طريقي إلى المنزل، من مدرستي الأولى. وبكيت عندما اختارتني المعلِّمة في مدرسة البلدة، على مرأى ومسمع من الصف، لتفضح الفوضى الصادمة التي كان عليها مكتبي، وبكيت عندما هاتفت المعلمة والدتي بخصوص المشكلة نفسها، وعندما أنهت والدتي المكالمة وبكت هي الأخرى، وهي تتجرَّع ألم أني لم أكن مصدر فخر لها. بدا الأمر كما لو أن هناك أناساً يتحلّون بالشجاعة، وأناساً يفتقرون إليها. يبدو أن أحدهم قال شيئاً لبيغي، وأنها كانت تشهق، لأنها- مثلي- لم تكن عديمة الإحساس. 
لابدّ أن السيدة ذات الثوب البرتقالي هي الخسيسة، كما ظننت، بدون سبب معيَّن. كان ينبغي أن تكون امرأة؛ لأنه إذا كان رجلاً، فإن أحد الشابَّيْن المواسيَيْن والتابعَيْن للسلاح الجوي، كان سيعاقبه. سيأمره أن يتأدّب في الحديث، وربما سيجرّه إلى الخارج، ويوسعه ضرباً.
لم تكن بيغي-إذاً- هي من يعنيني، ولا دموعها، أو مظهرها غير المرتَّب. فقد ذكَّرتني بنفسي كثيراً. كان مواسياها هما من بهراني: كيف انحنيا أمامها، وطلبا ودّها!
ماذا قالا؟ لا شيء، على وجه الخصوص. على ما يرام، قالا. كل شيء على ما يرام، بيغي، قالا. الآن، بيغي على ما يرام، على ما يرام. 
يا لها من رقّة؛ أن يكون أي شخص بكل هذا القدر من الرقّة! 
الحقيقة أن هذين الشابين، اللذين جُلبا إلى بلادنا للتدريب على بعثات قصف، سيلاقي العديد حتفهم فيها، كانا يتحدّثان باللهجات العادية لكورنوول، أو كِنت، أو هال، أو أسكتلندا. ولكن، بالنسبة لي، بدا الأمر كما لو كانا غير قادرَيْن على فتح فميهما دون أن يهبا نعمة ما، نعمة تغمرك في لحظة. لم يخطر في بالي أن مستقبلهما مرتبط بكارثة، أو أن حياة كل منهما العادية قد ذهبت أدراج الرياح، وتحطّمت على أرض الواقع. فكَّرت-فقط- في عطائهما، وكم كان رائعاً أن تكون أنت من يتلقّاه! وكم كانت هذه الـ(بيغي) محظوظة، وغير مستحقّة له، بشكل مريب!. 
ولمدّة- لا أعلم كم استمرّت- شغلا تفكيري. في ظلمة غرفة نومي الباردة كانا يهدهداني حتى أنام. كنت أدعوهما، أستحضر وجهيهما وأصواتهما، لكن، كان الأمر أكبر من ذلك، فقد كانت أصواتهما موجَّهة، الآن، صوبي، بدون أي طرف ثالث لا لزوم له. باركت أيديهما ساقي النحيفة، وطمأنتني أصواتهما بأني- أنا أيضاً- جديرة بالحبّ. 
وبينما سكنا خيالاتي التي لم تكن بعد مثيرة، غابا عني. البعض منهم، الكثير منهم، وَلَّوا إلى غير رجعة.
_________
*المصدر: مجلة “الدوحة الثقافيّة”.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *