أمبرتو إيكو.. طوفان الحكايات


ترجمة :نصر عبد الرحمن


“أمبرتو إيكو” فيلسوف وروائي إيطالي شهير، تتصدر كتبه قائمة الأعلى مبيعاً منذ روايته “اسم الوردة” عام 1980، كما أصبح اسمه مألوفاً في السنوات الأخيرة على قائمة المرشحين لنيل جائزة نوبل. تهتم رواياته بحقبة العصور الوسطى، وتتسم باتساع عوالمها، وتدفق حكاياتها. ونكتشف من حواره، قدرته على الاسترسال، والاستشهاد بالمواقف والحكايات.
هذا الحوار جزء من حوار طويل، يتحدث فيه “إيكو” عن عدة موضوعات، منها شغفه بدراسة العصور الوسطي وكتابته عنها، وعن العلاقة الجدلية بين الحقيقي والخيالي، وعن عشقه للغة، إلى جانب حديثه عن طفولته وكيف دخل إلي عالم الكتابة والأدب، كما يتطرق إلى عدة موضوعات شيقة.
ما تأثير عائلتك عليك في طفولتك؟
كان جدي عامل طباعة، وكان له تأثير كبير على حياتي، رغم أنني لم أزره كثيراً، فقد كان يعيش على بعد ثلاثة أميال من البلدة، ومات وأنا في السادسة من عمري. كان مهتماً بالعالم، وقرأ الكثير من الكتب. وعندما تقاعد عن العمل في المطبعة، كان يقوم بتجليد الكتب، ورأيت عدداً لا يُحصى من الكتب في شقته، ومن بينها نسخ مصورة من روايات القرن التاسع عشر، وهي أول ما رأيت من كتب. وبعد وفاته، لم يطلب أغلب أصحاب الكتب كتبهم، وتم وضعها في صندوق كبير، في قبو منزلي. وتصادف أن فتحت الصندوق وعثرت على كنز الكتب. بدأت أنزل إلى القبو كثيراً، لأطالع مجلات الرحلات والمغامرات المصورة، وانهمكت في قراءة قصص عجيبة، تحدث في بلاد غريبة. كانت هذي هي رحلتي الأولي إلى أرض القصص. ولسوء الحظ، فقدت كل هذه المجلات والقصص، إلا أنني استعدتها على مدار عقود من الزمن، بشراء نسخ منها من مكتبات الكتب القديمة.
ألم يكن والدك شغوفاً بالقراءة؟
من الغريب أنه كان شغوفاً بها في شبابه. ولكن لأن جدي أنجب ثلاثة عشر ابناً، وكافح لتربيتهم، لم يتمكن أبي من شراء الكتب. كان يقف عند أحد أكشاك الجرائد ويقرأ في الشارع، وحين يسأم البائع منه وينهره، يذهب إلى كشك آخر ليكمل قراءة الكتاب. كان يلهث خلف الكتب. وبعد أن تجاوز مرحلة الشباب، لم يعد لديه وقت سوي لقراءة الجرائد والمجلات، ولم يكن في منزلنا سوي بعض الروايات، موضوعة في خزانة، وليس فوق رف. وكان يستعير الروايات من بعض الأصدقاء أحياناً.
وما رد فعله تجاه أعمالك الإبداعية؟
لقد مات في وقت مبكر، عام 1962، ولكن بعد أن نشرت بعض الكتب ذات الطابع الأكاديمي، واكتشفت أنه كان يحاول قراءتها في وقت متأخر من الليل. نشرت “العمل المفتوح” قبل وفاته بثلاثة أشهر، وكتب عنه الشاعر الكبير “يوجينيو مونتالي” في إحدى الجرائد. ما أعجب أبي في المقال أن كاتبه شاعر كبير. أشعر أنني قمت بواجبي تجاه أبي، وأتصور أنه كان سيقرأ رواياتي باستمتاع كبير. ماتت أمي بعده بعشر سنوات، ولذلك علمت أنني نشرت الكثير من الكتب، وأنني أصبحت ألقي محاضرات في الخارج. كانت سعيدة بهذا رغم مرضها. وكما تعلم، تسعد الأم بأولادها حتي وأن كانوا في قمة الغباء.
كنت طفلاً حين اجتاحت الفاشية البلاد، واندلعت الحرب، كيف استوعبت الأمر؟ 
لقد كان وقتاً غريباً. كان موسوليني يتسم بحضور طاغٍ، وكان اسمي مُدرجاً في حركة الشبيبة الفاشية، مثل أي تلميذ إيطالي وقتها. وكانوا يُرغموننا علي ارتداء زي عسكري، والمُشاركة في المسيرات في أيام السبت، وكنت أشعر بسعادة بالغة. يشبه الأمر الآن ارتداء طفل امريكي لزي البحرية الأمريكية، وكانت الانتماء إلى حركة الشبيبة أمراً طبيعياً، مثل سقوط المطر في الشتاء، وارتفاع درجة الحرارة في الصيف. لم نكن نتخيل وجود نمط حياة خلاف هذا. أتذكر هذه الفترة كما يحن أي طفل إلى مرحلة طفولته. حتى أنني أشعر بالحنين إلى القصف والليالي التي قضيناها في الملاجئ. وعندما انتهى الأمر في عام 1943، وبدأت الفاشية في الانهيار، علمت من الصحف الغربية بوجود أنظمة سياسية أخري. ولكي نهرب من القصف، ذهبنا للعيش في الريف، أنا وأمي وأختي، في قرية تحت سيطرة المقاومة.
هل كان للحرب تأثير مباشر على قرارك بأن تصبح كاتباً؟
كلا، لم يكن هناك علاقة. لقد بدأت الكتابة قبل اندلاع الحرب، ولم أتناولها. كنت في فترة المراهقة وأقرأ الكثير من القصص الفكاهية وروايات المغامرات، وأحاول كتابة قصص فكاهية، وكنت أبذل جهداً كبيراً حتي تبدو قصصي مثل القصص المطبوعة، ولهذا لم أنجز قصة واحدة. ومع ذلك، بدأت أكتب روايات تلعب فيها ذكرياتي عن الحرب دوراً أساسياً.
تحدثت من قبل عن محاولات لكتابة الشعر.
هناك سن معينة، في الخامسة عشرة أو نحوها، يكون الشعر مثل العادة السرية، لكن الشعراء المُتميزون يحرقون قصائدهم الأولى لاحقاً، وبينما ينشر الشعراء الرديئون قصائدهم الأولى. ولقد أقلعت عن كتابة الشعر بعد تفكير عميق.
من شجعك علي الكتابة؟
جدتي لأمي، فلقد كانت تقرأ بنهم. لم تكمل تعليمها الأساسي، إلا أنها كانت تشترك في أحد المكتبات الكبيرة، وكانت تستعير ثلاثة كتب أسبوعياً من أجلي؛ أغلبها روايات رومانسية أو روايات بلزاك.
إلي أي مدي يمكن اعتبار رواياتك سير ذاتية؟
أعتقد أن كل رواية من رواياتي هي سيرة ذاتية إلى حد ما. عندما تتخيل شخصية، فأنت تمنحها بعض ذاكرتك الشخصية. وتمنح الشخصية الرئيسية جزءً من ذاتك، وتمنح الشخصية الثانية جزءً آخر، وبهذا المفهوم يمكن القول أنني لا أكتب السيرة الذاتية كنوع أدبي، ولكن رواياتي تعتبر بمثابة سيرتي الذاتية.
ألا تقدم في رواياتك صوراً حقيقة من حياتك؟ أعتقد أن “بيبلو” وهو يعزف البوق في المقبرة مشهد من الحياة.
هذا المشهد هو سيرة ذاتية تماماً. “بيبلو” ليس أنا، إلا أنني فعلت من قبل ما قام به في الرواية. سأخبرك بشيء لم أفصح عنه من قبل، لقد اشتريت بوقاً ذو جودة عالية منذ ثلاثة أشهر بألفي دولار. لكي يعزف المرء علي البوق، عليه أن يمرن شفتيه وقتاً طويلاً. لقد كنت عازفاً ماهراً في سن الثانية عشر أو نحوها، لكني فقدت تلك المهارة الآن، رغم أنني أتمرن يومياً. لا أشعر بأي شيء تجاه الكمان، إلا أن أشعر بالإثارة إلى حد الجموح حين أرى البوق. 
متى قررت دراسة علم جمال العصور الوسطي؟
لقد تلقيت تعليماً كاثوليكياً، وحين كنت طالباً بالجامعة، كنت أدير جمعية كاثوليكية طلابية. لذلك، سحرتني أفكار العصور الوسطى، واللاهوت المسيحي في مراحله المبكرة. ولقد تقدمت بأطروحة حول علم الجمال عند “توما الأكويني”، ولكني تعرضت لصدمة إيمانية قبل أن أنتهي منها، نتيجة أمور سياسية مُعقدة. كنت أنتمي إلى الجناح الأكثر تقدمية في المنظمة الطلابية؛ وأهتم بالمشاكل الاجتماعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. كان البابا بيوس الثاني عشر يدعم الجناح اليميني من المنظمة، وذات يوم تم اتهام الجناح الذي أنتمي إليه بالهرطقة واعتناق الشيوعية. حتى صحف الفاتيكان الرسمية هاجمتنا، وأدي هذا الموقف إلي قيامي بمراجعة فلسفية لإيماني. ولكنني لم أتوقف عن دراسة فلسفة العصور الوسطى، وبالأخص توما الأكويني الذي أعشقه. 
لقد كتبت في حاشية “اسم الوردة”: “أرى هذه الحقبة في كل مكان، تكسو اهتماماتي اليومية بجلاء، لا تبدو اهتماماتي قرن وسطية، إلا أنها كذلك” ما هي اهتماماتك القرن وسطية.
حياتي كلها، لقد مررت بعدد لا يحصي من تجارب الانغماس في القرون الوسطي. على سبيل المثال، في الإعداد لأطروحتي العلمية، ذهبت مرتين إلى باريس؛ واستغرقت الرحلة الواحدة شهراً كاملاً، لإجراء بحث في المكتبة الوطنية. قررت أن أقضي الشهرين في العصور الوسطي. إذا قمت باختيار شوارع بعينها في باريس، فسوف تعيش في القرون الوسطى. 
وهل استمتعت حقاً بالانغماس في تفاصيل العصور الوسطى لدرجة جعلتك تتمنى الحياة في تلك الحقبة؟
اعتقد أنني لو عشت حقاً في تلك الحقبة، لانتابتني مشاعر مختلفة تماماً، أنا أفضل تخيلها، وليس الحياة فيها.
هل تراها حقبة الغموض والعزلة؟
بالنسبة لي، لم تكن عصور الظلام. لقد كانت فترة بزوغ النور، والأرض الخصبة التي نبتت فيها بذور النهضة، وظهور المدن والنظام المصرفي، والجامعات، وفكرة أوروبا الحديثة بلغاتها وروحها القومية، وثقافاتها.
لماذا اهتممت بدراسة اللغة؟
لقد اهتممت لفترة طويلة بفهم التواصل. وكان السؤال المطروح جمالياً كما يلي: ما هو العمل الفني، وكيف يحدث التواصل بيننا وبينه؟ وصرت مفتوناً بطريقة التواصل. كما أن الكائن البشري معروف بقدرته على استخدام اللغة. هذا ما صرت أهتم به بعد أن انتهيت من دراسة أعددتها للتليفزيون الحكومي الإيطالي. كان هذا عام 1954، بعد عدة أشهر من انطلاق البث التليفزيوني، وبداية حقبة التواصل البصري الجماهيري في إيطاليا. لقد كنت مُهتماً بأكثر وظائف اللغة تقدماً في الفن والأدب. ومن ناحية أخرى، كنتُ شغوفاً بالتليفزيون، والقصص الفكاهية وقصص الجريمة. وسألت نفسي عن سر هذا التباعد في الاهتمامات. واتجهت لدراسة السيموطيقا، لأني أردت توحيد المستويات المختلفة من الثقافة. وأدركت أن كل ما تنتجه وسائل الإعلام المرئية يمكن أن يخضع لأدوات التحليل الأدبي.
ولكنك قلت ذات مرة أن السيموطيقا هي نظرية الكذب.
يجب استخدام “عدم قول الحقيقة” بدلاً من كلمة الكذب. يمكن للبشر سرد القصص الخرافية، وتخيل عوالم جديدة، وارتكاب الأخطاء، والكذب. تستوعب اللغة كل تلك الاحتمالات. والكذب قدرة بشرية. الكلب الذي يتتبع شخصاً، يعتمد على الرائحة. لن يكذب الكلب ولن تكذب الرائحة، ولكنني أستطيع الكذب، وأدلك على اتجاه غير صحيح، وسوف تصدقني وتذهب إلى الاتجاه الخاطئ. وسبب إمكانية حدوث هذا هو اعتمادنا على العلامات.
يؤكد بعض أعداء السيموطيقا كمجال للدراسة، أنها تساعد على اختفاء الحقيقة.
هذا هو موقف من يزعمون أنهم تفكيكيون. إنهم لا يزعمون فقط أن كل شيء يمكن أن يكون نصاً حتى هذه المنضدة- وأن كل نص قابل للقراءة والتفسير، ولكنهم كذلك يتمسكون بفكرة قالها نيتشه: “لا توجد حقيقة، ولكن توجد تفسيرات”. وأنا، على النقيض منهم، أتبع “تشالرز ساندرز بيرس”؛ أعظم فيلسوف أمريكي بلا جدال، وأبو السيموطيقا ونظرية التفسير. ولقد قال إننا نستطيع تفسير الحقائق اعتماداً على العلامات. إذا لم تكن هناك حقائق، بل مجرد تفسيرات فقط، فما الذي يتبقى لنا كي نفسره؟ وهذه هي الفكرة التي أدافع عنها في كتابي “حدود التفسير”.
قلت في “بندول فوكو”: “كلما كان الرمز غامضاً ومراوغاً، كلما اكتسب دلالة وسطوة”.
السر له سطوة طالما كان مفتوحاً على كل الاحتمالات. يقول الناس “سر ماسوني”؟، ما هو السر الماسوني بحق السماء؟ لا يعرف أحد. للسر سطوة، طالما كان مفتوحاً على كل الاحتمالات، ويمكن تخمينه باستخدام كافة الأفكار الممكنة.
هل يمكنك القول أن كونك سيموطيقياً منفصل عن كونك روائياً؟
قد يبدو هذا صعب التصديق، ولكنني لا أفكر في السيموطيقا نهائياً أثناء كتابة رواياتي. أترك للآخرين القيام بتلك المهمة بعد ذلك، وأندهش مما توصلوا إليه.
س: أما زلت مهووساً بمشاهدة التليفزيون؟
لا أتخيل باحثاً جاداً لا يشاهد التليفزيون. أنا الوحيد الذي أعترف بهذا. كما أحاول الاستفادة من مشاهدتي له في عملي. ولكنني انتقائي، ولا أستمتع بكل البرامج، بل أحب متابعة المسلسلات التليفزيونية.
هل قرأت رواية شفرة دافنشي؟
أجل، أعترف أنني مذنب
تبدو الرواية وكأنها فرع صغير غريب من “بندول فوكو”.
مؤلف الرواية، دان براون، هو أحد شخصيات “بندول فوكو”. كما أنه شغوف مثل شخصيات رواياتي- بالمؤامرة العالمية للماسونية واليسوعية، ودور فرسان الهيكل، والسر الدفين، ومبدأ ترابط كل شيء. حتى أنني أظن أن دان براون مجرد شخصية روائية وليس شخصاً حقيقياً.
ولكن أخذ فرضية خيالية على محمل الجد موجود في العديد من رواياتك. مع العلم أن الخيال يحتاج إلي وقائع وحقائق بشكل ما.
هذا صحيح، يمكن أن نخترع حقيقة ما. تتمحور روايتي الرابعة “باودولينو” حول تلك الفكرة. كان “باودولينو” محتالاً صغيراً في بلاط “فريدريك بارباروسا”، الإمبراطور الروماني. وتمكن الصبي المحتال من اختراع عدد كبير من الأشياء، بداية من الكأس المقدس، حتى إضفاء الشرعية على فترة حكم “برباروسا” من جانب قضاة بولونيا. وكانت أفكاره الخيالية تخلق العديد من النتائج الواقعية. إن التزوير والأخطاء تصنع وقائع تاريخية، مثل رسالة يوحنا؛ وهي في الرواية- محض تزوير، قام به المحتال الصغير “باودولينو” بنفسه، إلا أن الرسالة تنص على وجود عمليات استكشافية في قارة آسيا، وتصف مملكة مسيحية خيالية تقع في مكان ما في الشرق الغامض. وعندك مثال آخر، هو “كرستوفر كولومبوس”، كانت فكرته عن الأرض خاطئة تماماً. كان يعتقد مثل معاصريه أن الأرض كروية، إلا أنه كان يظنها صغيرة للغاية. دفعته فكرته الخاطئة إلى اكتشاف أمريكا. هناك مثال ثالث، هو “برتوكولات حكماء صهيون”، إنها مزورة، لكن النازيين أكدوا أنها حقيقية ليُمهدوا الطريق إلى المحرقة، فلقد استخدم هتلر الوثيقة لتدمير اليهود. ربما كان يعلم أنها غير حقيقية، إلا إنها تصف اليهود كما يتخيلهم هو، وتبرر ما يعتزم القيام به ضدهم، ولذلك اعتبرها حقيقية.
لقد أعلن “باودولينو” في النهاية أن “مملكة القس حقيقية، لأنني قضيت ثلثي عمري، أنا ورفاقي، في البحث عنها”.
كان “باودولينو” يقوم بتزوير الوثائق، وبناء المدن الفاضلة، ووضع مخططات مستقبلية وهمية. وكانت أكاذيبه تتحول إلى حقائق، عندما يشرع رفاقه في الإبحار إلى الشرق الأسطوري. لكن هذا أحد جوانب السرد فقط. أما الجانب الآخر، فهو إمكانية استخدام حقائق واقعية في المتن الروائي، ولكنها تبدو خيالية تماماً، وغير قابلة للتصديق. لقد استخدمت، في روايتي، عدداً لا يُحصي من القصص والمواقف الواقعية، لاعتقادي أنها رومانسية للغاية، أو قابلة للوضع في إطار روائي أكثر من أي شيء روائي آخر. في رواية “جزيرة اليوم السابق”، علي سبيل المثال، هناك مشهد يقوم فيه الأب “كاسبر” بصنع جهاز غريب لرصد أقمار كوكب المشتري، وكانت النتيجة فكاهية إلى أبعد مدى. لقد جاء وصف هذا الجهاز في رسالة “جاليليو”، وتخيلت النتيجة التي كان يمكن أن تنجم عن تنفيذ هذا الجهاز، إلا أن القراء اعتبروا الموقف برمته كوميدياً، وليس له صلة بالواقع.
ما الذي يدفعك إلى كتابة روايات تاريخية؟
الرواية التاريخية بالنسبة لي ليست أكثر من نسخة خيالية من الواقع. يمنحنا الخيال قدرة على فهم التاريخ الحقيقي بطريقة أفضل. كما أحب المزج بين الرواية التاريخية بعناصر الرواية المستقبلية التعليمية. في كل رواياتي، يوجد دائماً شخصية شاب يكبر ويتعلم ويتألم أثناء مروره بعدد من التجارب المتوالية. 
لماذا لم تبدأ كتابة الرواية إلى بعد أن وصلت إلي سن الثامنة والأربعين؟
لم يمثل الأمر لي قفزة هائلة كما يعتقد الجميع، فقد كنت أكتب الروايات أثناء أطروحة الدكتوراه، وصياغة نظرياتي. ولقد اعتقدت طويلاً أن جوهر ما تقوم به أغلب كتب الفلسفة هو سرد قصة البحث، حتى يبرر العلماء كيف وصلوا إلى هذه الاكتشافات العظيمة. ولهذا شعرت أنني روايات طوال الوقت، ولكن بأسلوب مختلف بعض الشيء. 
هل أثر نجاحك كروائي على مفهومك لدور القارئ في عملية التلقي؟
أجل. لقد كتبت الرواية بعد أن قضيت فترة طويلة كأكاديمي. أشبه الأمر بناقد مسرحي، تخلى عن مكانه، واتجه إلى خشبة المسرح ليشترك في العرض، وعين زملائه من النقاد وهم يحملقون فيه. لقد كان الأمر مُربكاً في البداية.
وهل تغيرت فكرتك عن مدى تأثير المؤلف على القارئ؟ 
أفترض دائماً أن العمل الجيد أذكى من مؤلفه، وأقدر على التأثير، ويمكنه أن يوحي بما لم يكن الكاتب يقصده أو يُدركه حتى.
هل تظن أن وضعك الحالي ككاتب روائي أكثر مبيعاً أثرت على سمعتك كمُفكر جاد؟
منذ بدأت نشر رواياتي، تلقيت خمساً وثلاثين درجة علمية فخرية من جامعات حول العالم. وأظن أن هذه الحقيقة تجيب عن سؤالك بالنفي. لطالما تراوح أساتذة الجامعات بين النظرية العلمية وبين السرد في أعمالي، وغالباً ما يجدون رابطاً بينهما. إلى جانب أنني ما زلت أواصل نشر مقالات علمية، وأعيش حياتي كأستاذ جامعي، وأكتب الروايات في أيام العطلات. كما أحضر حلقات نقاش علمية أكثر مما أحضر مؤتمرات أدبية. يمكن القول إن العكس هو الصحيح، لقد أثرت أعمالي النظرية على كوني روائياً.
وصفت صحف الفاتيكان “بندول فوكو” بأنها تجديف وفحش.
الغريب أنني حصلت، منذ وقت قريب، على درجتي دكتوراه فخرية من جامعتين كاثوليكيتين. 
إلى جانب كونك عالم وروائي، هناك جانب آخر في حياتك، هو المترجم.
أجل، لقد نشرت الكثير من الترجمات، وترجمت كتابين من أعمالي، وأشرفت على ترجمة رواياتي إلى عشرات اللغات. واكتشفت أن الترجمة تشبه التفاوض. وأثناء التفاوض نكسب أشياء ونخسر أشياء أخرى، ولكننا نشعر بالرضا في النهاية. في الترجمة، لا يمكن نقل الأسلوب باستخدام القاموس، ولكن بالحرص على الإيقاع الذي يقدمه النص، وتغوص في عالمه.
إلي أي مدي تنخرط في ترجمة أعمالك الأدبية؟
أقرأ الترجمة بكل اللغات التي أعرفها. وأسعد بالتعاون مع المترجم. ومن حسن حظي أنني أعمل مع نفس المترجمين منذ وقت طويل. لقد وصلنا الآن إلى درجة كبيرة من التفاهم المشترك. وأحياناً أعمل مع مترجمين إلى لغات لا أعرفها مثل الروسية واليابانية والمجرية، ولأنهم مترجمون أذكياء، يعرفون كيف يحددون المشاكل التي تواجههم في لغاتهم، ونتناقش حول كيفية حلها.
هل نبهك أحد المترجمين إلى فكرة لم تكن تقصدها؟
أجل، وهذا وارد. مرة أخرى، النص أكثر ذكاءً من مؤلفه، ويوحي بأفكار لم تخطر ببال المؤلف. وغالباً ما ينتبه المترجم لبعض تلك الأفكار أثناء محاولته لنقلها إلي لغة جديدة.
هل لديك مُتسع من الوقت لقراءة روايات مُعاصريك؟
كلا، ليس لدي متسع من الوقت. ولقد اكتشفت أنني متحيز منذ أصبحت روائياً. حين أقرأ رواية جديدة، أعتقد أنها أسوأ من رواياتي، فلا أحبها.. أو أعتقد أنها أفضل من رواياتي فلا أحبها.
ما رأيك في الواقع الأدبي الإيطالي اليوم؟ وهل هناك كتاب كبار لم ينالوا حظاً من الشهرة بعد؟
لا أهتم بوجود كتاب كبار، فلقد أصبحت قاعدة الكتاب المتوسطين قوية. قوة الأدب الأمريكي لا تكمن في “فوكنر”، و”هيمنجواي” فقط، ولكن كذلك في جيش قوي من الكتاب المتوسطين الذين يُنتجون أدباً جيداً، وهو ما يعني أن هناك إنتاجا أدبيا يفي باحتياجات القارئ الأمريكي؟
ولكن لماذا لا نسمع عن كتاب آخرين من إيطاليا؟ ربما كنت أنت الكاتب الوحيد المقروء عالمياً من إيطاليا في اللحظة الراهنة.
الترجمة هي المشكلة. في الولايات المتحدة لا يهتمون بالترجمة، ولا تتجاوز نسبة الترجمة 2٪ من الترجمة العالمية، بينما تتجاوز نسبة الترجمة في إيطاليا 20٪. 
هل يمكن أن تذكر أسماء بعض من تأثرت بهم؟
عادة أقول “جيمس جويس” و”بورخيس” في الحوارات، حتي يبقى المحاور هادئاً، ولكن هذا ليس صحيحا تماماً. ليس هما فقط، ولكنني تأثرت أيضاً بأرسطو وتوما الأكويني، وجون لوك.
لديك مكتبة ضخمة، كيف تختار كتاباً من فوق الأرفف لتقرأه؟
أنا لا أقف أمام الأرفف لأختار كتاباً، ولكنني أذهب لأحضر كتاباً أحتاج إليه في هذه اللحظة. أنا عالم، ولست حر الاختيار في قراءاتي دائماً.
أنت واحد من أشهر المفكرين في العالم؟ ما هو تعريفك لكلمة “مُفكر”، وهل مازالت الكلمة تحتفظ بخصوصية في المعنى؟
تعني كلمة مفكر أن شخصاً ما يعمل بعقله وليس بيديه، بهذا يكون موظف البنك مُفكراً، و”مايكل أنجلو” ليس مُفكراً. وباستخدام الحاسب الآلي في الوقت الراهن، أصبح الجميع مفكرون. لم يعد للكلمة علاقة بعمل الشخص أو طبقته الاجتماعية. المفكر، في رأيي، هو أي شخص يُنتج معرفة جديدة بشكل خلاق. إذا تمكن الفلاح من إنتاج نوع جديد من التفاح، فإنه يمارس نشاطاً فكرياً، وفي المقابل، إذا ظل أستاذ فلسفة يكرر ذات المحاضرة عن “هايدجر”، فإنه لا يمارس نشاطاً فكرياً. الإبداع النقدي هو العلامة الوحيدة علي العمل الفكري، وهو يتمثل في نقد ما نقوم به، والسعي إلي ابتكار طرق جديدة للقيام به.
وهل ترى أن المفكر يجب أن يلتزم بالواجب السياسي هذه الأيام، كما كان يرى “سارتر”، و”فوكو”؟
لا أعتقد بضرورة تصرف المفكر باعتباره عضواً في حزب سياسي. والأسوأ من هذا، أن تقتصر كتاباته على المشاكل الاجتماعية المُعاصرة فقط. على المفكر أن يهتم بالسياسية كأي مواطن عادي، ويستخدم قدراته وتأثيره في الدفاع عن قضية ما. إذا كان توقيعي على بيان يُدافع عن البيئة مُفيداً، فلن أتردد في استخدام اسمي، كمثال على الاهتمام بالشأن العام. المشكلة الحقيقية أن دور المفكر يتعلق بالمستقبل أكثر منه بالحاضر. إذا شب حريق في مسرح، ليس على الشاعر أن يعتلي أحد الكراسي ويُلقي قصيدة، عليه أن يستدعي رجال الإطفاء؛ كما قد يفعل أي فرد عادي. دور المفكر أن يتنبأ بالقادم.. أن يُحذر من اندلاع حريق في المسرح لأن المبني قديم ومُتهالك. دور المفكر وواجبه أن يقول. أن يُحذر من الخطر القادم.
هل هناك موضع لم تتناوله بالكتابة، وتشعر برغبة قوية في الكتابة عنه؟
أجل، موضوع واحد. لقد حلمت منذ شبابي بتأليف كتاب عن نظرية الكوميديا. ويرجع السبب إلى أن كل الكتب التي تناولت الموضوع لم تكن ناجحة، على الأقل تلك الكتب التي قرأتها. كل من كتبوا نظريات حول الكوميديا، من فرويد إلى برجسون، يشرحون بعض جوانب الظاهرة، ولا يتناولون كافة جوانبها. إنها ظاهرة مُعقدة، ولا يمكن لنظرية واحدة أن تتناولها بشكل كامل. ولذلك فكرت في الكتابة عن الكوميديا، وأن أضع لها إطاراً نظرياً حقيقياً، إلا أن المهمة بدت في غاية الصعوبة.
ولكنك تناولت موضوعات معقدة مثل فكرتي الجمال والقبح.
الكوميديا أكثر تعقيداً، مقارنة بالجمال والقبح. أنا لا أتحدث عن الضحك. هناك أمر وجداني غريب يتعلق بالكوميديا، لا أستطيع تفسيره، ومن ثم لم أتمكن من تأليف الكتاب.
ما حصيلة ما قمت بتحصيله من معرفة وثقافة طوال حياتك؟
لو أن رجلاً أمياً مات في نفس عمري، فقد عاش حياة واحدة. أما أنا فقد عشت حيوات كثيرة. عشت حياة نابليون وقيصر، وغيرهما الكثير. لذلك أشجع الشباب على القراءة، لأنها السبيل الأمثل لخلق ذاكرة كبيرة، وتكوين شخصية متعددة الجوانب. وعندما تنتهي حياتك، ستكون قد عشت عددا لا يحصي من التجارب، وتلك ميزة كبيرة. 
أخبار الأدب

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *