مؤنس الرزاز رسامًا

مؤنس الرزاز رسامًا

هاني حوراني

عُرف مؤنس الرزاز (1951-2002) كأديبٍ وروائي أردني بارز، وقد أنتج في حياته القصيرة 11 رواية، وعددًا مماثلًا من الأعمال التي تنوعت ما بين القصة القصيرة والترجمة والخاطرة وأدب الأطفال. كما عرف أيضًا ككاتب عمود يومي في صحيفتي «الدستور» و«الرأي» الأردنيتين، وشغل مواقع ثقافية وسياسية مهمة مثل رئاسة تحرير مجلة «أفكار» الثقافية الشهرية، ورئاسة رابطة الكتاب الأردنيين، وعمل مستشارًا لوزير الثقافة الأردني، وشغل لنحو عام منصب الأمين العام لأحد الأحزاب السياسية الأردنية.[1]

غير أن مؤنس الرزاز لم يُعرف كرسام إلا في نطاق ضيق داخل أسرته ولدى أصدقائه المقربين. وفي مطلع التسعينيات كنت من المحظوظين بالتعرف إلى مؤنس «الرسام»، أو بالأحرى من مارس الرسم في بدايات حياته، حتى كدنا نقيم معرضًا جماعيًا تحت عنوان «كتاب يرسمون» بمشاركة الأديب الراحل فاروق وادي وآخرين، لكن مؤنس -لسبب ما- أحجم عن المشاركة.[2]

بعد سنوات من وفاته في شباط 2002 انشغل شقيقه الأصغر بجمع لوحات مؤنس وترميمها بعد الإهمال الطويل الذي لحق بها جراء التخزين غير الملائم، وقد نجح في إنقاذ 25 عملًا فنيًا كان مؤنس قد نفذها في مرحلة مبكرة من شبابه. ثم استنسخت مؤسسة «لَيلك» للمزادات الفنية هذه الأعمال، وطبعتها في مجموعات محدودة العدد على ورق فني خاص، وقد عُرضت نسخها للجمهور لأول مرة وأتيح بيعها في مزاد علني أقيم أواخر العام 2017 في عمان،[3] أما الأعمال الأصلية فتحتل مساحة أحد الجدران في منزل عائلة الرزاز في جبل اللويبدة بعمّان.

أكثر من مجرد هاوٍ للرسم

تلقى مؤنس دروسًا في الرسم في سن مبكرة عام 1965 بعد انتقال أسرته للإقامة في دمشق، حيث التحق بمعهد للفنون يقدم دروسًا خصوصية في الرسم. وكان أستاذه فنانًا روسيًا ألزمه بتعلّم الرسم من الواقع، مثل المناظر الطبيعية أو «الطبيعة الصامتة» حيث توضع أمامه -مثلًا- مزهرية أو وعاء مليء بالفواكه.

لكن هذه التجربة لم تستمر طويلًا إذ اضطر المعلم الروسي إلى الاعتذار عن استكمال دروسه لأن مؤنس، رغم محاولاته الحثيثة للرسم من الطبيعة والحرص على الدقة في نقلها، إلا أنه كان سرعان ما يشعر بالضجر. يقول شقيقه عمر إنه «كان يحول الفرشاة من أداة دقيقة إلى مدفع هاون، يهدم كل ما كان قد رسمه»، وكانت تلك آخر محاولاته لتعلّم الرسم.[4] ويرى عمر أن مؤنس لم يقدم نفسه رسامًا، لربما كان ينظر إلى نفسه كهاوٍ فحسب، حيث مارس الرسم على هامش الكتابة الأدبية والصحفية التي عمل عليها بدايات حياته.

مزهرية، رسم من البدايات

غير أن المتأمل في رسومات مؤنس يكتشف أنها تتجاوز محاولات الهواة، إذ تشكل مرآة لمحطات ومواقف من حياته المبكرة كما لو أنها أصداء تجاربه العامة أو الخاصة. وهنا يجب أن نتذكر أن مؤنس هو الإبن الأكبر لمُنيف الرزاز الذي سُجن لسنوات في معتقل الجفر (1957-1963) بصفته أحد أقطاب حزب البعث العربي الاشتراكي في الأردن، إلى جانب مئات قادة الأحزاب المعارضة في الخمسينيات، وكان لذلك الاعتقال الطويل أثرٌ بالغ على مؤنس الطفل والفتى. لذا لم تكن مصادفة أن إحدى أقدم أعماله الفنية تجسد تلك التجربة، حيث صوّر وجوه عدد من المعتقلين السياسيين من خلف قضبان سوداء تقطع اللوحة طولًا وعرضًا حاملة اسم «الجفر».

رسالة مؤنس الطفل (12 عامًا) الى والده في الجفر.
لوحة الجفر.

ثم وقع الانقلاب العسكري في 23 شباط 1966 مطيحًا بالقيادة القومية لحزب البعث الاشتراكي الحاكم في سوريا، وكان من بين أعضائها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز.[5] وكان لهذا الانقلاب أثر مباشر آخر على مؤنس الرسام فجسّد الحدث في لوحة خاصة تظهر «تجبّر الرفاق بالرفاق» والحكم على فريق القيادة القومية بالإعدام، كما رسم لوحة ثانية رمزت إلى وحشية الانقلابات في سوريا وما رافقها من تصفيات وتعذيب.

لوحة سورية: ملحمة الانقلابات والتعذيب والتصفيات.
لوحة حكم الرفاق للرفاق بالإعدام.

وفي العام التالي، عقب حرب حزيران 1967، رسم مؤنس لوحة ترمز إلى ما أسفرت عنه الهزيمة من دمار وهجرة ومخيمات، لتتكرّر لاحقًا «ثيمة» الرحيل في رسوماته دون أن نعرف ما كانت ترمز إليه؛ أهو الرحيل بسبب الهزائم في الحروب مع الاحتلال الإسرائيلي أم الرحيل بسبب الصراعات السياسية الداخلية؟

لوحة الترحال.
لوحة دمار تهجير وخيمة: حرب 1967

أما بعد عودته إلى عمّان عام 1982، فجسّدت رسومات مؤنس بعض المشاهد العمّانية والطبيعة الأردنية الأكثر هدوءًا والأقل صخبًا، متضمنة موضوعات غير سياسية مثل لوحاته عن «قلعة الأزرق» و«غابات دبين» و«منازل جبل اللويبدة» مرتع طفولته ويفاعته.

لوحة جبل اللويبدة.
لوحة غابات دبين.
لوحة قلعة الأزرق.

كما نجد له أعمالًا تحتفى بمناسبات معينة مثل لوحة «طريق الغابة الأخضر» و«مؤنس وصديقه في حديقة السنترال بارك»، فضلًا عن أعمال تنتمي إلى زمرة «الطبيعة الصامتة» مثل رسومه للمزهريات، ولوحة أخرى أقرب إلى التعبيرية التجريدية حملت اسم «شمس الصحراء».

لوحة طريق الغابة الأخضر.
لوحة شمس الصحراء.
لوحة المزهرية ذات الألوان الزاهية.
لوحة مؤنس وصديقه في السنترال بارك.

غير أن ما تبقى من أعماله يستعيد أجواء الاكتئاب الذي لازمه معظم حياته، وهي حالة لم تفلح الأوضاع السياسية العامة في العالم العربي في تحريره منها بل زادتها سوءًا، خصوصًا مع استمرار التضييق والتطاول على الحريات العامة كما حدث في النصف الثاني من الثمانينيات في الأردن.[6]

لوحة مؤنس وضده.
لوحة فاصلة في آخر السطر.

أما في الأعمال التسعة المتبقية فتتكرّر فيها صور أشخاص ترمز الى مؤنس نفسه أو إلى شخصيات رواياته. في إحداها نرى «مؤنس وضده»، وفي أخرى وجهًا مدمى يحدق بالمتفرج وقد حملت عنوان أحد أعماله الأدبية «فاصلة آخر السطر»، ونراه في ثالثة خلف القضبان، هو الذي لم يدخل السجون في حياته، وقد حملت اللوحة عنوان «إنه مؤنس لوحده، أو عبد الله الديناصور – سجين أحلامه التي لم تتحقق بعد». وفي لوحة أخرى نرى وجوهًا تتقاطع ملامحها لـ«شخصيات من روايات مؤنس، منفصمة على نفسها، في مجتمع يعاني من فصام جماعي».

لوحة شخصيات منقسمة على نفسها
لوحة «إنه مؤنس لوحده، أو عبدالله الديناصور»
لوحة تكميم الافواه

أما «الاستبداد» فقد حظي بلوحة خاصة صوره فيها مؤنس على هيئة شبح يراقب من الخلف مجتمعًا مرعوبًا بوجوه فزعة (انظر لوحة تكميم الافواه). كما جسّد الاستبداد في لوحة أخرى على صورة بسطار عسكري يحتل معظم مساحة اللوحة، ويحجب من خلفه نصف وجه بشري، يبدو كما لو أنه وجه مؤنس نفسه وقد توارى خلف بسطار المستبد.

لوحة الحذاء العرفي.

لم يخفِ مؤنس في لوحاته، كما في كتاباته، لجوءه إلى الخمر للتغلب على حالات الكآبة التي تناوبت عليه بين الحين والأخر. لكن زجاجات الخمر في لوحاته انطوت على إحالة رمزية للحالة العامة في عالمنا العربي، فنرى الزجاجة تفيض أسى وحزنًا أو تنزف دمًا.

وأخيرًا، لمؤنس لوحة فريدة تصوّر شخصين في ثياب تقليدية، وتبدو على سيماهم الجدية والرصانة، ولا أعرف إن كان مؤنس أم أخيه عمر من أعطاها عنوان «في زمن الفعل».

لوحة زجاجة الخمر تنزف دمًا.
لوحة الزجاجة فاضت.

تجدر الإشارة إلى أن معظم أعمال مؤنس منفذة بالألوان الزيتية على خشب «التربلاي»،[7] وقد غلبت عليها الألوان القاتمة. وهي تشكل وثائق بصرية عن الحالات النفسية التي عاشها مطلع حياته وتحيل إلى تأثره بالأحداث التي عاصرها لا سيما اعتقال والده في وطنه، وملاحقة الأخير جرّاء حالات الانقسام والصراع الحزبي إبان إقامته في سوريا، ثم ما رافق إقامته في بغداد -وهو نائب الأمين العام للقيادة القومية آنذاك- من مشاهد إعدام وتصفية لرفاقه في الحزب، والتي اختتمت بوضعه هو نفسه في الإقامة الجبرية ثم وفاته تحت تأثير السم.[8]

أهمية رسومات مؤنس

رسم مؤنس انطباعاته عن الأحداث التي عاشها بأسلوب شخصي لا مدرسي، فغلبت عليها التخطيطات وعبّر عن الأفكار والموضوعات بصورة رمزية مقتضبة ومباشرة. وهكذا لم تكن أعماله بحاجة إلى تذييلها بتوقيعه؛ «م.الرزاز» إذ كانت تحمل بصمته الخاصة على اختلاف موضوعاتها أو فترات تنفيذها.

وقد يرى البعض أن الأعمال التي خلفها مؤنس لا تمنحه صفة «الرسام» رغم جديتها واتسامها بأسلوبه الشخصي الخاص، غير أن أهميتها تكمن في كشفها عن جانب غامضٍ في شخصيته؛ أي ممارسة الرسم إلى جانب الكتابة الإبداعية، كما ترفع الغطاء عن حساسيته تجاه الأحداث في محيطه الضيق (الأسرة) والواسع المتعلق بالشأن العام، وقد سبقت بعض أعماله الفنية مؤلفاته المكتوبة ليعبر عن موقفه الصارم ضد الاستبداد والظلم وتمسكه الشديد بالحريات العامة والخاصة ورفضه المساومة عليها.

وبطبيعة الحال لم يكن مؤنس حالة استثنائية في الجمع بين الأدب والرسم، إذ تجلت هذه الظاهرة في العديد من الساحات الأدبية العالمية والعربية، ولعل أبرز من عرفوا من الأدباء العالميين بممارستهم الرسم الفرنسي فيكتور هيجو، والشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، وكاتب الرواية الكابوسية التشيكي-الألماني فرانز كافكا، والأديب الروسي ذو المواهب المتعددة -بما فيها الموسيقية- ألكسندر بوشكين، والفيلسوف والشاعر الهندي رابندرانات طاغور، والروائي الأمريكي هنري ميلر، وجبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وغيرهم.

لقد كان لكل واحد من هؤلاء الكتاب، ممن اشتغلوا بالرسم إلى جانب الأدب، مقاربته الشخصية للرسم والتشكيل، ومن المؤكد أن لكل واحد منهم أسبابه الخاصة لذلك، لكن المشترك بينهم هو شعورهم بالحاجة إلى التعبير عن النفس عن طريق الفرشاة والألوان، وكأن الكتابة -بشتى أشكالها- لم تكن لتشبع حاجتهم لنقل أفكارهم ومشاعرهم في لحظات معينة من التوتر أو التجلي.

لم ينظر مؤنس إلى نفسه كفنان تشكيلي، وإن كان يحتفي برسومه المبكرة، ولا يمانع عرضها ومشاركتها مع الآخرين في معرض جماعي، لكن الملفت أنه لم يتحدث أو يكتب عنها. وإن كان من المتعارف عليه أن الرسم هو نوع من «العلاج» أو «الترياق» لشقاءٍ ما، فإن مؤنس لجأ إلى الرسم كما يفسر شقيقه عمر لأنه «كان ملاذًا يهرب إليه عندما يخذله القلم (..) الرسم بالنسبة إلى مؤنس كان في غالبيته تعبيرًا عن وجع وألم حاد»،[9] ولم تكن لديه في السنوات الأخيرة من حياته المساحة الكافية ولا الوقت اللازم لممارسة الرسم بصورة منتظمة.

لكن، يبدو أن مؤنس وجد ملاذه الفعلي في المذكرات أو ما كان يسميه بـ«أدب الاعترافات» مثلما فعل في «اعترافات روائي» و«سيرة جوانية»، فضلًا عن مواجهة الكآبة باللجوء إلى بعض الأصدقاء الذين ربما حموه من الانهيار كما يقول عن نفسه.

ولعل أفضل ما نختم به هذه المقالة هو ما ينقله عمر عن محادثة جرت بين مؤنس وسيدة ميسورة الحال كانت قد شاهدت لوحاته المبكرة، فسألته: لماذا ترسم باللون الأحمر الفاقع؟ ولماذا هذه المشاهد المرعبة في لوحاتك؟ لم لا ترسم مشاهد من الطبيعة؟، ابتسم مؤنس قائلًا لها: هذا تمامًا ما أفعل، أرسم «الطبيعة» التي ترعرعت فيها: حروب وهزائم وانقلابات الرفاق على الرفاق وتكميم الأفواه هنا وهناك. أنا لا أرسم يا سيدتي سوى «الطبيعة» التي تحيط بي، وهي الطبيعة الوحيدة التي أعرفها.[10]

شاهد أيضاً

هواجِس: كتابة الألم.. وفضاء الأمل

(ثقافات) هواجِس: كتابة الألم.. وفضاء الأمل د.أماني سليمان بِحروفٍ مُوجِعةٍ تَعْبُرُ كلماتُ الأديبِ طه درويش …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *