الواحد في تعدديته

*إلياس فركوح 

اسمحوا لي، ومنذ البداية، أن أخرجَ عمّا أظنّ أني مُطالَبٌ بكتابته لتقديمه في هذا المؤتمر. أن أخرجَ من لزومات “ورقة بحثيّة” – كوني لستُ باحثاً أو مؤرخاً، لأفردَ أوراقاً قد تبدو مبعثرة للوهلة الأولى، أسجِّل فيها ما أراه امتزاجاً ثقافياً فيَّ كذاتٍ تحاول أن تعي تكوّنها. ذات استوت شخصيتُها ونضجت وسط فضاء عربي اتسمَ بالانفتاح على العالم ذاك الزمن، فما كان منها سوى أن تلقَّت ما أُعطيَ لها من غير توجسٍ بُني على الخوف من “الغريب”. أو ريبةٍ أُسست وفقاً لإيمانات مغلقة ترى أنّ “الحق والحقيقة” مُلْكيَّةٌ خاصّةٌ، حُصِرَت في قومية ما، أو ديانة ما. أو رفضٍ مبعثه التحريض ضد كلّ ما لا نعرف، وبذلك يتحوّل الجهل إلى واحدة من آليات الدفاع عن الذات: ينقلبُ عَماءُ المعرفة وفقرها إلى فضيلة!

هي أوراقٌ شخصيَّة أعملُ على استلالها من أرشيف الذاكرة المكتظ، وبالتالي هي مُنتقاة من عدة محطّات مررتُ بها. ولعلّي أظفرُ بجوابٍ عن سؤالٍ، أو أكثر، عند تأملي بما أستدعيه، فأستعيده على رصيف كلّ محطّة.. فأراني.

ورقة الأنساب ومحطّتها

أراني على نحوي أنا: إلياس، ابن جورج، ابن باسيل سيدراكودس! واستتباعاً لهذا التتابع القصير، الموثق في أوراق رسميّة محفوظة، يمكنني الزعم بأني جئتُ إلى العالم من صُلب أبٍ لأبٍ يونانيّ لم أعرفه أبداً، إلّا بوصفه “صورة”: صورة مطبوعة على بطاقة عتيقة مقواة شابها لونُ الاصفرار، لكنها ما زالت محتفظة بتماسكها. تماسكُ البطاقة في اليد وتحت الأصابع وداخل صندوق قديم، وتسلسل صريح للأسماء. لكن هذا التماسك، في إشارته إلى “المَنْبَت” والتأكيد الدائم على “الأصل”، وعند تأملي له الآن، أجده يتفكك متحللاً إلى “حكاية” ظريفة تُروى فتثيرُ الدهشة وكأنها ليست حكايتي الشخصية، وشَبَحٍ يتوارى في خلف الخلف هناك في عَطْفةِ تاريخٍ منمنم مثل قطعة أرابيسك. أو، في أحسن الأحوال، يختلط في النَّسَب اللاحق الذي بِتُّ أُعْرَف به: فركوح.

ما “الحكاية”، وما الظريف المدهش فيها؟

تقول الحكاية إنَّ طبيباً يونانياً/ عثمانياً قَدِمَ إلى دمشق ضمن إحدى وحدات الجيش التركي، واستقرّ هناك بعد تعرفه إلى فتاة من حِمْص والاقتران بها. لكنه، وبسببٍ من عجزه عن احتمال قوة شخصية زوجته وسطوتها، هو اليوناني العنيد المعتدّ بنفسه، ونشوب الخلافات بينهما، دأبَ على الرحيل الطويل المتواتر إلى مصر، كأنما كان بذلك يهرب بحريته المهددة! يغيب مُدداً طويلة تاركاً وراءه ابنتين سماهما: أولغا، وخركليا، وابناً اسمه جورج، وزوجة “عفيفة” لم تيأس من “استعادته” بوساطة الكنيسة الأرثوذكسية و”إحضاره” إلى دمشق كلّما طالت غيبته! أنا لا أعرف بالضبط تاريخ قدومه إلى الشام، ولا تاريخ وفاته، لكنّ الحكاية تستطرد لتفيدني بأن الزوجة/ جدتي تكفلت بتأهيل الابنتين والابن ليصبحوا ممتهنين للخياطة النسائية؛ فالرجل/ جدي لم يترك إرثاً يعتاشون عليه. هل بددَ كثيرَ مالِهِ أو قليلَهُ خلال رحلاته تلك؟ كلُّ الاحتمالات واردة، وليس مَن يؤكد أيّ شيء.

طفقَ النَّسَبُ اليونانيّ (سيدراكودس) يتراجع من التداول اليومي، وينسحب من الأوراق الثبوتية الرسمية، رويداً رويداً، ليجاوره النَّسَبُ العربي أولاً، ثم ليحلَّ محله نهائياً في العقدين الأخيرين (فركوح)، عائلة جدتي السورية الحِمْصيَّة: المرأة المعتدة، بدورها أيضاً، بسلالتها التي لم يعصف بعراقتها انعدام ما يشير إلى ثروةٍ كانت تُسندها، هي الأرملة وأبناءها الثلاثة. غير أن تحوّلاً أشبه بالأقدار الإغريقية استدعاها إلى الأردن، إلى جنوب سورية؛ إذ اكتشفت أنّ لها حِصصاً من أراضٍ واسعة، في قرية كان اسمها (وما يزال) “زبدة فركوح” –  إنْ لن تعمل على تثبيت أحقيتها بها، فإنَّ هناك مَن “سيبتلعها”! وهكذا باتَ عليها، هي هذه المرّة، أن تغيبَ مراراً رفقة محاميها في رحلات مكوكية بين دمشق وإربد، كبرى حواضر شمال الأردن، لتخوضَ معاركها القانونية عبر جلسات متتابعة في محكمتها إلى أن ظفرت بحصصها! بذلك، وبناءً على ما استتبعَ تحولاً كهذا من انتقال في الجغرافيا فالاستقرار فيها، انتقلت الأسرة الصغيرة من كونها يونانية/ سورية، لتصبحَ سورية/ أردنية، ثم استقرّت نهائيّاً لتكون أردنية.

وها أنا أمامكم، بهذا التسلسل المتتابع، لأشهدَ على مقدارٍ من دم يونانيّ يسري فيَّ، ممتزجاً متآلفاً مع دمٍ عربيّ، دون أن أجدَ نفسي “منحازاً” لأحدهما على حساب الآخر؛ إذ لستُ سوى “خُلاصتهما”: خُلاصة راضٍ بها، غيرُ متعصِّبٍ لها، وقابلٌ لأن تعتريها تحوّلاتٌ أخرى تلحق بها في المستقبل، عند اقتران كلِّ ابنٍ من ابنيّ بزوجة أجهلُ ماذا تكون أصولها. ها أنا أمامكم بدمٍ يونانيّ تضاءلَ وانخفضَت نسبته؛ إذ إنّ أُمي عربية سورية حِمصيّة كجدتي. أما زوجتي، فأردنية جاءت سلالتها من سهول حوران، السورية أيضاً.

ما أريد إبلاغكم به هو ما استخلصته مما سبق:

أنّ الامتزاج بين الأوروبيّ الممثَّل بجدي اليوناني، المُجَسِّد بدوره لِبُعْدٍ ثقافيّ ما، والعربي الممثَّل بجدتي السورية، المُجَسِّدة لِبُعْدٍ ثقافي آخر، كان أن “خلقَ” مني إنساناً إذا ما حدثَ وأنْ تساءل عن “هُويته”؛ فإنما يفعل هذا من دون قَلَقٍ، أو خوف، أو تعصُّب. كما أنّ “مسيرة” الأنساب وتحولاتها، بحسب ما ذَكَرْتُ، أبعدتني بعفويةٍ وإلى حد كبير عن التباهي الذكوري واستعلائه؛ فها أنا أحملُ النَّسَب الأموميّ، لا الأبويّ، وكأني أشطحُ باتجاه الرؤية المنادية بالطبيعة أُمّاً أُولى ألتحقُ بها.. وأفتخر.

ورقة الصلاة باللاتينية واليونانية ومحطّتها

لأسبابٍ تخصّ الأسرة الصغيرة المقيمة في عمّان، أُرْسِلْتُ وأخي الأصغر للدراسة كطالبين مقيمين في القسم الداخلي لمدرسة تابعة لإحدى الإرساليات الكاثوليكية في القدس، في حين أُلْحِقَت شقيقتاي بالقسم الداخلي في مدرسة تديرها راهبات في عمّان. المشترك في الحالتين هو وجود كنيسة صغيرة في المدرستين، وفروض صلاة يومية واحدة تتبع طقوساً تختلف عمّا اعتدناه في كنيستنا الأرثوذكسيّة، ومنها صلوات باللاتينية. كنا نردد كلماتها كمحفوظات مقتطعة من سياقٍ لغوي نجهله تماماً، ككثير من الصلوات التي يتلوها الخوري اليوناني بلغته الغريبة علينا هي أيضاً. عالمان حافلان بمجموعة رموز، وإشارات، وأيقونات، كان عليَّ أن أتوازن بينهما، وكِلاهما لا ينبعان من قلب الأرضية الثقافية العربية وبيئتها حيث أعيش. وإني، حين أستعيدُ نُتَفاً من تلك الأيام، أراني متلقياً لهذه الازدواجية بقدر غير قليل من اللامبالاة الداخلية، والإهمال، أو على نحو أدقّ: بحيادية باردة. وقد جافيتُ، بإعراضي عن ممارسة تلك الطقوس بوجهيها الأرثوذكسي والكاثوليكي، منتهزاً فُرَص التفلُّت المُتاحة، “الالتزامَ” بسلوكٍ محدد أُظْهِرُ من خلاله “إيماني”.

ربما تتضمن هذه الاستعادة قدراً غير محسوب من الدِّقة، غير أنّ الأمر المؤكد أنّ أجواء العالمين المختلفين بلغتهما، ورموزهما، وأيقوناتهما، وبَخورهما، والتشكيل المعماري لداخلهما المكاني وكيف يتمركز “الهيكل” في عُمقهما، وحتّى إيقاعات صلواتهما بلغتين غريبتين غير مفهومتين؛ أقول: كلُّ ذلك، دون إرادة مني أو وعي، تسربا إليَّ وباتا جزءاً من تكويني الشخصي وتاريخي، ثم أخذا بالتجلّي في عديدٍ من نصوصي القصصية والروائية وتلك الذاهبة باتجاه الشِّعر، وقد اكتسبا ألواناً ومذاقات جديدة.

أما الجدير بالملاحظة في هذه المحطّة المبكرة، وفقاً لما أشرتُ إليه، أنّ نسبة ما، ربما ليست بسيطة من وقائع غير مستساغة مرَّت بالواحد منا كونها لم تلائم أعمارنا آنذاك، كان أن حفرَت دهاليز سريَّة في أعماقنا. دهاليز ما لبثت أن طفرت بمدفونها! طفرت لتترجم نفسها عبر نصوصٍ عربيّةٍ أدبيّة تصادَت مع شذرات نصوصٍ صلواتية، يونانية ولاتينية، كانت مجرد أصوات تتعالى فوق سُحُب متقطعة من بَخورٍ رائحته واحدة!

ورقة الترجمة ومحطّتها

كما الحياةُ في وقائعها اليومية عندما تُدْخِلُ المرءَ في مساربَ لم يتقصَّد ولوجَها، وإذ به يواجهها شرطاً لاستمرار عيشه؛ كذلك هي الحياةُ في الأدب. حياةٌ ما إنْ تبدأ بشق طريقك على أرضها بوصفكَ كاتباً للقصص والروايات، حتّى تجد نفسكَ تتعرضُ لتجاذباتٍ أشبه ما تكون بنداءات “سيرينات البحر” الغامضة، لإغواءات اكتساب “المعرفة الأكثر” – إنْ أنتَ أجهدتَ نفسكَ بطرق أبوابِ لغتها الأولى. أن تقرأ نصوصاً لكتّابٍ وكاتبات لم يتوفر لكَ الحصول عليها بلغتك. عندها، وإثر انتهائك من قراءتها، يتعالى في نفسكَ “الأمّارةِ بالمزيد”، نِداءٌ مباغت: لماذا لا تترجمُ النصَّ الذي أحببتَ؟ تأخذكَ المفاجأةُ في بداية الأمر؛ إذ لم يخطر ذلك على بالكَ أبداً! تتردد، تقلِّبُ المسألة في رأسكَ، تتشكك في قدرتك على الإتيان بالنصِّ من لغته الغريبة على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، والتي لا تجيدها ولا تُحسِنُ قواعدها، إلى بواديكَ وصحاريكَ وجبالكَ بكلّ تعقيد لغتكَ وتقاليدها. إنها اللغة أولاً وأخيراً. واللغةُ بحرٌ، محيطٌ، قارّةٌ تصطخبُ فيها كلُّ مسارات التاريخ ومصائر الشعوب وأصواتُ ثقافاتها المحمولة في بواطن الكلمات؛ فهل أنتَ قادرٌ يا أنتَ؟ لكنّ نفسكَ “الأمّارةَ بالمزيد” تشيرُ عليكَ بالقواميس المصطفة على رفّ مكتبتك! فتُغْوى!

ترتكب حماقتك الأولى متردداً، ثم بشيء من الوقاحة، ثم بقليلٍ من التوجس، ثم بقدرٍ من الثقة، ثم تتمادى وتتمادى، وها أنتَ منخرطٌ في المسألة وقد راكمتَ كومةً من “الخيانات” (فالترجمة خيانة – يُقال) عددُ كتبها يفوق عددَ ما كتبتَ من مجموعات قصصية، وروايات، ونصوص شتّى! فلماذا فعلتَ هذا، مع أنكَ تتلافى التعريفَ بكونكَ مترجماً؟

سُئلتُ عن الأمر مرّات ومرّات، وفي كلّ مرّة أجيبُ بما معناه، وبتكثيف:

الترجمةُ انتقالٌ واعٍ أقومُ به، وبمحبَّة خالصة، من ثقافةٍ أملكها إلى أخرى أريد امتلاكَ بعضٍ منها، ثم أعودُ لتخصيب نصّي الخاصّ بآثارها عليَّ.. وفيَّ. عمليةُ الترجمة في ذاتها، بالانتقالات البطيئة الحذرة بين فقرات النصوص، دروسٌ متصلة تعلّمني الدِّقَّة في بناء الجُمَل، وتسلسل الفقرات، وتماسك النصّ بكليته، والأهمّ: المعاني المتعددة المُخَبأة في ظلال الكلمة الواحدة. وبذلك، رغماً عن الرغبة وبسببها في آن، يحدث ما يُطلقون عليه “التثاقف”، فالاغتناء، فالتعارف الحضاري، فإعادة معرفة الذات في مرايا الآخرين.

ذاتي أنا التي أدخَلْتُ إليها وإلى نصوصها، بوعيٍ يقظٍ غالباً وأحياناً بدونه، عناصرَ من ثقافة أخرى، هي أوروبية عموماً.. وإنْ كان بعضها ينتمي إلى القارّة الأميركيّة بمذاقه الخاصّ.

*   *   *

تقول الأسطورة، بحسب المؤرخ اليوناني هيرودوت، إنّ أوروبا، ابنة ملك صور الفينيقي أجينور، فَتَنَت بجمالها كبيرَ آلهة الأولمب زيوس فطمع بها؛ فما كان منه إلّا أن تحوَّل إلى ثور ضخم بقرنين هلاليين. جاءها وهي على الشاطئ وتمسَّح بها حتّى أغواها فامتطته. عندها اتجه للبحر مختطفاً إيّاها إلى بلاد الإغريق على الجانب الآخر. وتُستكمل الأسطورة بأن إخوة أوروبا عبروا إلى هناك بحثاً عن شقيقتهم، وأثناء مكوثهم علّموا الأقوامَ الأبجديةَ الفينيقية التي باتت، مع مرور الزمن، كتابة لغات تلك القارّة التي تسمَّت باسم الأميرة الفينيقية – أوروبا.

هكذا إذَن يُكتب التاريخ الثقافي: من شاطئ بحرٍ في الشرق إلى شاطئ البحر ذاته في الغرب، ثم يحدث العكس، إلى ما لا نهاية من بحارٍ ومحيطاتٍ وشواطئ. تنتقلُ المعارف والثقافات وتتخصَّبُ بتمازجها. وإذا ما تَمَعَّنا بهذه الصيرورة الحادثة، عندها نستبصرُ المعنى العميق للتعدد: التعدد في الذات الجماعية، والتعدد في الذات الواحدة.

 …..

*االمقال هو نص الشهادة التي قدمها الكاتب في المؤتمر الدولي الثالث للغة العربية وثقافتتها، في الجامعة الكاثوليكية، في ميلانو. ومحوره: العرب وأوروبا: تمازج الثقافات. من 9 إلى 11 مارس/ آذار.

 __________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *