جونتر جراس يتحدث عن تقنياته في الكتابة

(ثقافات)

جونتر جراس يتحدث عن تقنياته في الكتابة

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس

سارة حواس

أصبحتُ كاتبًا نتيجة للظُّروف الاجتماعية التي نشأتُ فيها. كنا أسرة من الطَّبقة الوسطى الدنيا، نعيشُ في شقةٍ صغيرةٍ من غرفتين. لم تكن لي أنا وأختي غرفةً خاصة، ولا حتى زاوية كُنَّا نخصَّصها لأنفسنا. خلف نافذتين، في غُرفة المعيشة، كانت هناك زاوية صغيرة أضعُ فيها كتبي وأدواتي للرَّسم بالألوان المائية وغير ذلك. كنتُ كثيرًا أتخيَّلُ الأشياء التي أحتاجها. وتعلَّمتُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ أن أقرأ وسط الضجيج. وهكذا بدأتُّ الكتابة والرسم وأنا ما أزال صغيرًا. ونتيجة لذلك، أصبحت اليوم أجمع “غرفًا”، فلديَّ مكتب في أربعة أماكن مختلفة، خوفًا أن أعودُ إلى وضع صباي، حيث لم يكن لي سوى زاويةٍ صغيرةٍ في غُرفةٍ واحدةٍ.
كنتُ في طفولتي كذَّابًا بارعًا، ولحسن الحظ كانت أمي تحبُّ أكاذيبي، فكنتُ أعدها بأشياء مدهشةٍ. وعندما بلغتُّ العاشرة، صارت تناديني ”برجينيت”. كانت تقول لي: ”يا برجينيت، أنتَ تحكي لي قصصًا رائعةً عن الرحلات التي سنقوم بها إلى نابولي وغيرها…”. بدأتُ أدوِّنُ أكاذيبي في سن مبكِّرةٍ جدًا، وما زلت أفعلُ ذلك حتى اليوم! بدأتُ، بعد ذلك، بكتابة روايةٍ وأنا في الثانية عشرة، وكانت عن الكاشوبيين، الذين عادوا بعد سنواتٍ طويلةٍ ليظهروا في روايتي ”طبل الصفيح”، حيث آنا، جدَّة أوسكار، كانت كجدَّتي الحقيقية، تنتمي إليهم. لكنني ارتكبتُّ خطأ في روايتي الأولى، فجميع الشخصيات التي قدمتها ماتت في نهاية الفصل الأول! ولم أجد ما أكتب بعد ذلك. كانت تلك أول دروسي في الكتابة: ”احذر أن تقتل أبطالك مبكرًا.”
الأكاذيب التي لا تُؤذي أحدًا، هي التي منحتني أكبر قدر من المتعة، فهي تختلفُ عن تلك التي تُقال لحماية الذَّات أو لإيذاء شخصٍ آخر، فهذا ليس مجالي. الحقيقةُ في معظم الأحيان مُملة جدًا، ويمكن للخيال أن يُجمِّلها بشيءٍ من الكذب، ولا ضررَ في ذلك. تعلَّمتُّ أن أكاذيبي “الرهيبة” لا تأثيرَ لها في الواقع الخارجيِّ. ولو أنني قبل بضع سنواتٍ كتبتُ شيئًا يتنبأ بما جرى مؤخرًا من تطوراتٍ سياسيةٍ في ألمانيا، لقال الناس: يا له من كذَّابٍ!
أنا حذرٌ دائمًا في تقديم تعريفٍ عام لمهمَّة الأدب، فذلك ليس جزءًا من وظيفتهِ، وإن كان في كثيرٍ من الأحيان أمرًا لا يمكن تجنُّبه. أنا لم أختر الموضوعات التي كتبتُ عنها، بل هي التي فُرضت عليَّ. انتهت الحرب وأنا في السابعة عشرة من عمري، وموهبتي، إن جاز لي أن أصفها بذلك، في جوهرها موهبة جمالية، ذات طابعٍ دراميٍّ، ومن هنا بدأتُ.
وأمام هذا الكم الهائل من المادَّة التاريخية شعرتُ بالارتباك، فكان من الطبيعي أن أكتب عنها. فكتبتُ في البداية عن التاريخ الألماني الحديث، ثم عن مرحلة ما بعد الحرب. وقد لاحظتُ مع مرور السنوات أنني صرتُ أُعدُّ كاتبًا معاصرًا بالمعنى المباشر، أكتب في تزامنٍ مع الأحداث نفسها، وهو ما يعتبره كثيرٌ من الكُتَّاب أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
يرتبط الأدب عادةً بمسافةٍ زمنيةٍ، لأنَّه يُكتب بلسان الماضي. لكنني أعلم أن بعض الكُتَّاب الألمان، مثل فونتانه، كتب روايته الأخيرة ”السيد شتِخلين”، وكذلك ”السيدة جيني ترايبل” في تزامنٍ مع الأحداث الجارية، وتحمَّل في المقابل غضب النُقَّاد المعاصرين له.
فعندما يكتبُ الكاتب وهو في قلب اللحظة، من دون مسافةٍ زمنيةٍ تفصله عنها، يصبح مكشوفًا بشدةٍ أمام النقد الآني. ومع ذلك، فهذه مجازفةٌ لا بد من تحمُّلها. ومن هذا التوتر المزدوج، أكتبُ وأنا أعيشُ الحاضر، وفي الوقت نفسه أواجهُ ثِقل الماضي وتبعاته، ومن هُنا تُولدُ أعمالي.
كما أنَّني أؤمن بأنَّه من المستحيل أن نفهم المستقبل أو نمارس تأثيرًا فيه من دون أن نأخذ الماضي في الاعتبار. فالعيشُ في الحاضر فقط يجعلنا، كما هو حال الكثيرين اليوم، ننظرُ إلى الأشياء من بُعدٍ واحدٍ فقط، كما أنَّه يعمي بصيرتنا، ويُجرِّدنا من القدرة على التعامل مع ما هو آتٍ.
بحسب المفهوم التقليدي للقوة، نحن الكُتَّاب، نقبعُ في أسفل السلم. فتأثير الأدب بطيء، ومؤجَّل، وغالبًا لا يظهر إلا بعد قرونٍ. وتحت عنوان “يتبع…” لا تتواصلَ فقط الحكاية الأدبية، بل تتواصل أيضًا محاولات الرقابة ومختلف أساليب القمع. فقمع الأدب والكُتَّاب ممارسة مستمرة حتى يومنا هذا.
لكن ما تكشفه هذه الممارسات، في الوقت نفسه، هو أن للأدب فعلًا قوةً خفيةً تثيرُ الخوف. إذ لا أحد يقمع شيئًا لا يخاف منه. هناك خشيةٌ دائمةٌ من الأدب، ومن قدرته على التوغُّل، ومن إصراره وعناده. فهو يفضح التاريخ بأنَّه ليس كما ترويه الرواية الرسمية، وأننا نكتبُ تاريخ المهزومين، أولئك الذين لا يُسمَع صوتهم في العادة. فالتاريخ يُكتب في الأساس بأقلام المنتصرين، بينما يدخلُ الأدب في الفجوة التي يتركونها، ولهذا فهو مزعج بطبيعته.
حتى عندما لا يقصد الأدب أن يكون سياسيًّا، فإنَّه يقع غالبًا في قلب المسألة السياسية. وأوفيد مثال على ذلك: فهو لم يُنفَ لأنه كتب ”التحوُّلات”، بل لأنه وصف مغامراته الغرامية في شعره، فاستفزَّ بذلك سخط الإمبراطور ونُفي. إذًا السياسة ليست بالضرورة البداية، لكنها النتيجة أحيانًا.
أعارض دائمًا النزعة التي تمجِّدُ لقب “المفكِّر” كأنَّه علامة تميُّز لا نقاش فيها. هناك من كانوا “مفكرين” فظيعين من أقصى اليمين، على سبيل المثال، جوبلز كان مفكرًا يمينيًّا متطرفًا. ولكن هذا ليس أبدًا دليلًا على القيمة الأخلاقية أو الفكرية.
وفي تاريخ الأدب نفسه، نجدُ خُطباء متطرِّفين وديماجوجيين، ونجد أيضًا كُتَّابًا عظامًا لكنهم فشلوا أخلاقيًّا، مثل إزرا باوند أو جوتفريد بن، فهما كاتبان موهوبان للغاية، لكنهما طفوليان سياسيًّا، وقد انساقا إما وراء غرورهما أو تحت تأثير الإطراء، وكانت النتيجة مدمِّرة. ٠وهذا النوع من الانحراف ما زال موجودًا حتى اليوم.
كيف أصبحتُ كاتبًا، وشاعرًا، وفنانًا، دفعةً واحدةً على ذلك الورق الأبيض المخيف؟ أي غرورٍ طفوليٍّ جعلني أقدم على مثل هذه الحماقة؟ كنت في الثانية عشرة فقط حين أدركتُّ أنَّني أريدُ أن أكون فنانًا. وقد تزامن ذلك مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، حين كنتُ أعيشُ في ضواحي دانتسيج.
لم تأتِ فرصة حقيقية لي لتطوير موهبتي إلا في العام التالي، عندما صادفتُ إعلانًا مغريًا في مجلة ”هتلريوجند” بعنوان ”هيلف مت!”أعِنّا! كانت مسابقة أدبية، وفيها جوائز.
لذا فاندفعت فورًا إلى كتابة أول “رواية” لي، واستلهامًا من خلفية أمي، حملت الرواية عنوان ”الكاشوبيون”،
التي لم تَدُر أحداثها في زمن الحاضر المؤلم لتلك الجماعة الصغيرة من البشر، بل في القرن الثالث عشر، في مرحلةٍ بلا ملكٍ، كان هذا الزَّمن كئيب، فكانت تعجُّ الطرق فيه باللصوص وقُطَّاع الطرق، وكان الفلاح يلجأ إلى ما يشبه محاكم الشوارع ليسترد حقه.
بعد مقدمة قصيرة عن أوضاع الكاشوبيين الاقتصادية، اندفعتُ في سيلٍ من الغارات والمذابح بلا حدودٍ: خنقٌ وطعنٌ، وكمٌّ هائلٌ من الإعدامات في المحاكم العرفية، حتى انتهى الفصل الأول وقد مات جميع الأبطال ومعهم عدد محترم من الشخصيات الثانوية، بعضهم دُفن، وبعضهم تُرك نهبًا للغربان. وبما أن إحساسي بأسلوب الكتابة لم يسمح لي بتحويل الجثث إلى أشباحٍ، أو الرواية إلى قصَّةِ رُعبٍ، فقد اضطررتُّ إلى الاعتراف بالهزيمة، وأنهيتُ العمل نهاية قاطعة من دون أي “يتبع…”.
لم تكن تلك الهزيمة نهائية بالطبع، لكنها كانت درسي الأول: في المرة القادمة يجب أن أكون أكثر رحمة مع شخصياتي.
أتذكَّرُ أنَّ أمي، التي كانت تُحبُّ الدعابة، أرادت أن تجعل جارتي ترى مدى انغماسي في القراءة،فاستبدلت قطعة الخبز التي كنت أتناولها وأنا أقرأ بقطعةِ صابونٍ، أعتقد أنها كانت ”بالموليف”، ثم جلست هي والجارة، وأمي في نشوةٍ من الفخر، تراقبانني وأنا أتناولُ الصابون وأمضغه بتؤدةٍ كاملةٍ، قبل أن أستيقظ من العالم الذي كنتُ غارقًا فيه.
حتى اليوم، أستطيع أن أُركِّزُ كما كنتُ وأنا صغير، لكنني لم أقرأ بعدها بتلك الدرجة من الافتتان. كانت كتبنا موضوعةً في خزانة ذات زجاجٍ أزرق مائلٍ إلى الغموض. كانت أمي عضوًا في نادٍ للكتب، لذا اختلطت عندنا روايات دوستويفسكي وتولستوي بروايات هامسون ورابه وڤيكي بوم، بينما كان *جوستا برلينج”. لسِلمَا لاجرلوف دائمًا في متناول اليد. ومن هناك انتقلتُ لاحقًا إلى مكتبة البلدية، لكن شرارة القراءة الأولى انطلقت من مكتبة أمي.
كانت أمي امرأةٌ دقيقةٌ في شؤون عملها. فكانت تضطَّرُ إلى بيع بضاعتها لزبائن يسددون أثمانهم على أقساطٍ متعثِّرةٍ، لكنها في الوقت نفسه كانت عاشقة للجمال: تستمعُ إلى الأوبرا والأوبريت على راديو بسيط، وتُصغي إلى قصصي الصغيرة باهتمامٍ كبيرٍ، كما كانت تحرص على حضور المسرح المحلِّي، وتأخذني معها أحيانًا.
ولست أروي الآن تفاصيل تلك الطفولة البرجوازية الصغيرة لمجرد الحنين، فقد سبق أن رسمتُ ملامحها في أعمال روائية، وإنما لأجيب عن السؤال الدائم: *”ما الذي جعلك تصبح كاتبًا؟”*
القدرةُ على الحلم طويلًا، والِّلعب بالكلمات، والكذب من أجل المتعة لا المصلحة، لأن قول الحقيقة وحدها كان سيُصيبني بالملل، كل ذلك، يُسمَّى عادةً “الموهبة”، وذلك جزءٌ من الجواب على السؤال الدائم ”ما الذي جعلك كاتبًا؟”.
لكن الذي حوَّل تلك الموهبة الطفولية الخفيفة إلى طاقة راسخة ذات عمقٍ، كان دخول السياسة المفاجئ إلى فردوس العائلة، واختلاط البراءة الأولى بظلال التاريخ.
‏‎لقد لازمني الخطر الذي تحدثتُ عنه آنذاك طوال هذه السنوات. ولكن، ما الذي ستكون عليه مهنة الكاتب من دون خطرٍ؟ صحيح أن الكاتب قد ينعمُ بالأمان الذي يتمتَّعُ به موظف في مؤسسة ثقافية، لكنه سيغدو أسير مخاوفه من أن تتسخ يداه بوحل الحاضر. وخوفه من أن
يفقدَ مسافة الأمان، سيضيعُ في عوالم الأساطير والتأملات السامية.كما أن الحاضر، الذي لا يكفَّ الماضي عن التحوُّل إليه، سيلحقُ به في النهاية ويضعهُ تحت المحاكمة. فكل كاتبٍ ؛ شاء أم أبى، ابنُ عصره، مهما ادَّعى أنُّه وُلد قبل أوانه أو بعده. ليس له أن يختار بحريةٍ ما سيكتبُ عنه، فذلك يُختار له. وأنا، على الأقل، لم أكن حرا في اختياري. لو تُرك لي الأمر، لاتَّبعتُ قوانين الجماليات بسعادةٍ تامة، وسعيتُ إلى مكاني بين النصوص الطريفة والخالية من الأذى.
‏‎كيف يمكنُ للكتابة المتمرِّدة أن تكون متفجرةً كالديناميت وذات قيمةٍ أدبيةٍ في آنٍ معاً ؟وهل هناك وقت كافٍ لانتظار انفجار مفعولها المؤجل؟ أليس من الأرجح أن الأدب اليوم يتراجعُ عن الحياة العامة، وأن الكُتَّاب الشباب قد جعلوا من الإنترنت ملعبهم؟ لذلك فأرى أنَّ هناك جمودًا يسري في أوصال الثقافة، يتزيَّنُ بالكلمة المريبة “تواصل”.
عندما أكتبُ مقالات أو خُطبًا، تختلفُ طريقتي وتقنياتي عمَّا أستخدمهُ حين أروي القصص وأؤلف الأحداث، لأنني أواجه في هذه الحالة وقائع لا يمكنني تغييرها. نادرا ما أدوِّنُ مذكراتي، لكنني فعلتُ ذلك أثناء التحضير لكتاب ”من مذكرات حلزون”. فكان لديَّ إحساس بأن عام 1969 سيكونُ عامًا مفصليًّا، يحملُ معه تحوُّلًا سياسيًّا حقيقيًّا، أكثر من مجرد تبدُّل في الحكومة. لذلك، وخلال فترة طويلة من مارس حتى سبتمبر من عام 1969، كنت أحتفظُ بمذكراتٍ وأنا في جولات الحملات الانتخابية. تكرَّر الأمر نفسه في كُلكتا، فالمفكِّرة التي كتبتها آنذاك تحوَّلت لاحقًا إلى كتاب ”أخرجْ لسانك”.
لا يعيشُ الكُتَّاب فقط في عوالمهم الفكرية والداخلية، بل هم منغمسون أيضًا في إيقاع الحياة اليومية. بالنسبة لي، الكتابة والرسم والنشاط السياسي مجالات منفصلة، لكلٍ منها شدَّته الخاصة. أنا ببساطةٍ أكثر حساسيةً وانخراطًا في المجتمع الذي أنتمي إليه. يتداخلُ في كتابتي ورسومي البُعد السياسي، إن شاءت إرادتي أم لم تشأ. لا أضعُ خطة مسبقة لإقحام السياسة في أي نصٍ، بل يحدث أن أعودَ إلى موضوعٍ ما للمرة الثالثة أو الرابعة، فإذا بي أكتشفُ في طيَّاته أشياء أسقطها التاريخ من حسابه. صحيح أنَّني لا أكتب قصصًا موضوعها سياسي مباشر ومحدد، لكنني لا أرى سببًا يدعوني لاستبعاد السياسة من أعمالي، وهي تمتلكُ مثل هذه القوة الحاسمة في حياتنا. فهي تتسرَّبُ إلى كل جانبٍ من جوانب الوجود، بطريقةٍ أو بأخرى.
الرسم والكتابة هما الركيزتان الأساسيتان في عملي، لكنهما ليستا الوحيدتين؛ فأنا أنحتُ أيضًا حين يتاح لي الوقت. هناك علاقة أخذٍ وعطاء واضحة جدًّا بين الرسم والكتابة. أحيانًا تكون هذه العلاقة قوية، وأحيانًا أخرى ضعيفة. لكنها في السنوات الأخيرة كانت قوية للغاية، وكتاب ”أخرجْ لسانك”، الذي تدور أحداثه في كُلكتا، مثال على ذلك. كان لا يمكن أن يولد هذا العمل لولا ذلك التداخل العميق بين الكلمة والصورة.
الكتابة عندي تشبه النحت إلى حدٍّ ما. ففي النَّحت عليك أن تعمل على القطعة من جميع الجوانب؛ فإن غيَّرت شيئًا هنا، وجب أن تغيِّر شيئًا هناك. وفجأةً، حين تعدِّل سطحًا واحدًا فقط، يتحوَّلُ العمل إلى شيءٍ نابضٍ بالحياة، كأن للمادة موسيقى خاصة بها. يحدثُ الشيء نفسه أحيانًا مع الكتابة. فيمكنني أن أعمل أيامًا على المسودة الأولى أو الثانية أو الثالثة، أو على جملة طويلة، أو حتى على نقطة في نهاية سطر. فأنا أحب النقاط، كما تعلم. أشتغل وأعيد وأراجع، وكل شيءٍ في مكانه، ومع ذلك أشعر بثقلٍ غامضٍ، ثم أقوم بتغييراتٍ بسيطةٍ، لا تبدو لي مهمة، وفجأة يسري الانسجام في النص! عندها أفهم معنى السعادة، أو شيئًا قريبًا منها. تدوم لحظتان أو ثلاث، ثم أنظرُ إلى النقطة التالية، وتختفي.
وفي وقتٍ من الأوقات كنتُ قديمًا جدًّا في نظرتي إلى كتابة الشعر. كنت أعتقدُ أنه حين تمتلكُ ما يكفي من القصائد الجيدة، عليك أن تبحث عن ناشر وتصدر ديوانًا، ثم يكون لديك مجلَّد جميل من الشعر، قائم بذاته، مخصَّص فقط لعُشَّاق الشعر. لكن منذ ”من مذكرات حلزون” بدأتُ أضع الشعر والنثر معًا في صفحات كتبي. تحملُ هذه القصائد نغمةً مختلفةً. ولا أرى أي سببٍ للفصل بين الشعر والنثر، خصوصًا أننا في التراث الأدبي الألماني نملك مزيجًا رائعًا من الاثنين. أصبحتُ أكثر اهتمامًا بأن أُدرج الشعر بين الفصول وأن أستخدمه لتحديد إيقاع النثر وملمسه. إلى جانب ذلك، هناك احتمال أن يكتشف قُرَّاء النثر، الذين يظنون أن الشعر “ثقيل عليهم”، أن الشعر يمكن أن يكون أبسط وأسهل أحيانًا من النثر نفسه.
كما أنَّ الكتابة عملية مجهدة ومجردة في جوهرها. حتى عندما تكون ممتعة، فإن متعتها تختلف كليًا عن متعة الجسد في الرسم.
🛑طقوس الكتابة عند جونتر جراس:
كان أول كتبي، بعد فشل الرواية الأولى، عبارة عن مجموعةٍ من القصائد والرُّسوم. تجمعُ عادةً المسودات الأولى لقصائدي بين الرسم والكتابة، وأحيانًا أنطلقُ من صورةٍ، وأحيانًا أُخرى من الكلمات. وبعد ذلك، حين بلغتُّ الخامسة والعشرين وأصبح بإمكاني شراء آلة كاتبة، بدأتُ أكتبُ بإصبعين فقط! وكتبتُ النسخة الأولى من ”طبل الصفيح”* بتلك الآلة الكاتبة. أمّا الآن، وبعد أن تقدَّم بي العمر، عدتُ إلى الكتابة اليدوية في المسودات الأولى، على الرَّغم أنَّ كثيرًا من زملائي يستخدمون الحواسيب في الكتابة. كتبتُ النسخة الأولى من ”الجرذ” في دفترٍ كبيرٍ خالٍ من السطور قد حصلتُ عليه من المطبعة. وعندما كان يوشك أحد كتبي على النَّشر، كنتُ أطلبُ دائمًا من المطبعة نسخةً عمياء، أي نُسخةٍ بأوراقٍ فارغةٍ، لأستخدمها في المخطوط الجديد. لذا، في هذه الأيام تُكتب النسخة الأولى يدويًا مع الرسوم، ثم النسخة الثانية والثالثة تُنجزان على الآلة الكاتبة. كما أنَّني لم أنهِ أي كتابٍ من قبل من دون أن أكتب له ثلاث نسخ على الأقل، وغالبًا ما تكون أربعًا، مليئةً بالتصحيحات.
أبدأَ كل نُسخةٍ من البداية حتى النهاية، بل أكتب المسودة الأولى بسرعة، وإن وُجدت فجوات، أتركها كما هي. أمَّا النسخة الثانية فعادةً تكون طويلةً جدًّا، مليئةً بالتفاصيل ومكتملة، لا فجوات فيها، لكنها جافَّةً قليلًا. أُحاول في النسخة الثالثة أن أستعيد عفوية الأولى، مع الحفاظ على جوهر الثانية، وهذا أمرٌ في غاية الصعوبة
عندما أعملُ على المسودَّة الأولى، أكتبُ ما بين خمس إلى سبع صفحات في اليوم. أمَّا في النسخة الثالثة، فلا أزيد على ثلاث صفحات في اليوم، فالعمل عند تلك المرحلة بطيء جدًا.
لا أؤمن بالكتابةِ في الَّليل، لأن الكلمات تتدفَّقُ بسهولةٍ مفرطةٍ، وحين أقرؤها في الصباح لا أجدها جيدة، فأنا دائمًا ما أحتاج ضوء النهار لأبدأ. وأتناولُ فطورًا طويلًا مصحوبًا بالقراءة والموسيقى بين التاسعة والعاشرة.أبدأُ العمل بعد الفطور، ثم آخذ استراحة للقهوة بعد الظهر، وأعودُ إلى الكتابة حتى السابعة مساءً، عندها أنهي يومي.

جونتر جراس (١٩٢٧-٢٠١٥)

روائي وشاعر وكاتب مسرحي ورسَّام ألماني حائز على جائزة نوبل في الآداب عام (١٩٩٩)

شاهد أيضاً

مؤنس الرزاز رسامًا

مؤنس الرزاز رسامًا هاني حوراني عُرف مؤنس الرزاز (1951-2002) كأديبٍ وروائي أردني بارز، وقد أنتج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *