فخري صالح *
يبدو عمل الروائي الصديق الراحل مؤنس الرزاز راهناً في هذه المرحلة من حياة العرب المعاصرين. ويمكن النظر إلى تجربته بوصفها تفكرا في العالم والوجود العربي، من خلال السرد والكتابة؛ فهو لم يسع إلى إمتاع قارئه بما يحكيه من حكايات بل آثر إقلاق راحة هذا القارئ دافعا إياه إلى مشاركته التفكير في ما آل إليه حالنا، وفي الأسباب البعيدة والقريبة التي جعلت العرب يواجهون مأزقا وجوديا معقدا في الزمان الحديث.
روايات مؤنس الرزاز مسكونة بهاجس الكشف عن المشكلات العميقة التي يواجهها عرب هذا الزمان. ولهذا كانت ظاهرتا الاستبداد والعسكريتاريا، والتحام هاتين الظاهرتين معاً، الثيمة الرئيسية التي تركزت حولها تلك الروايات ، خصوصا في أعماله الثلاثة الأولى: أحياء في البحر الميت، واعترافات كاتم صوت، ومتاهة الأعراب في ناطحات السراب، التي يمكن عدها ثلاثية روائية تسعى للكشف عن بنية الاستبداد وانهيار المشروع النهضوي العربي نتيجة تحالف العسكر مع العصبيات والانتماءات الطائفية والقبلية الضيقة وأصحاب المصالح والتبعية الظاهرة والخفية لأنظمة الغرب الاستعمارية. ويستحدم مؤنس في هذه الروايات، لتحقيق غاياته الفكرية، تقنيات حداثية وأشكالا متداخلة ومتقاطعة من الحكي، جاعلا الراوي يتدخل في السرد لينتشل القارئ من وهم السرد، منبها إلى أن ما يجري هو تخييل لا حقيقة متعينة. لكنه من خلال لعبة كشف أقنعته السردية، أو ما يسمى في تصنيف الأشكال السردية الميتاـ سرد أو الميتافيكشن، يعمل على التشديد على تعالق السردي والفكري، أو تنبيه القارئ إلى مسعاه لتأويل الحالة العربية، والوقوع على البنيات الشعورية واللاشعورية التي تقيم في أسس الدوافع السلوكية، الفردية والجماعية، للجماعة العربية في الزمان الحديث.
بالتوازي، أو ربما بالتقاطع مع المسعى السابق، انشغل مؤنس في رواياته بقضايا الحداثة والنهضة والتقدم، بوصفها هاجسا روائيا أولا، وفكريا في المرتبة الثانية. ولعل هذا الهاجس هو ما يلحم ثلاثيته الروائية برواياته التالية التي كرسها لقراءة التحولات الهجينة التي ضربت بعصاها مدينة عمان في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، محولة مدينة صغيرة هادئة إلى مدينة استهلاكية حديثة ذات علاقات اجتماعية واقتصادية مشوهة. ويستخدم مؤنس، لجلاء هذه التحولات، شخصية «أبله العائلة»، في «جمعة القفاري» على سبيل المثال، ليعرض من خلال عيون بريئة كيف يتغير البشر وتتغير علاقاتهم وتعصف بهم شهوة الثروة.
إن في إمكاننا أن نلاحظ، سواء في روايات مؤنس أو قصصه أو مقالاته، خيطا ناظما يتمثل في انشغاله بقضية تقدم العرب وخروجهم من قبضة التخلف والاستبداد السياسي المقيم بين ظهرانيهم ينغص عليهم عيشهم ويمنع دخولهم العصر الحديث. وقد حاول في رواياته البحث عن تأويل سردي لهذا المأزق الذي علق العرب في شبكة خيوطه المعقدة، فاستخدم نظريات كارل غوستاف يونغ النفسية ودوافع السلوكين الفردي والاجتماعي لدى إريك فروم، وقوساً واسعا من النظريات الفكرية والسياسية التي استلهمها في تفسير أسباب هذا المأزق ودوافعه.
كان مؤنس مهموما بحل معادلة التقدم والحداثة في الحياة العربية المعاصرة، راغبا في التعرف على أسباب العطالة التاريخية، والمأزق الحضاري الذي يعبره العرب المعاصرون: لماذا تقدم الآخرون وتأخرنا نحن؟ لكنه لم يسع إلى النظر إلى ذلك من خلال البحث الفلسفي أو السوسيولوجي، بل من خلال الرواية، عبر تشييد عالم من البشر والأحداث. دفعه إلى ذلك معرفته بأن الشكل الروائي يوفر أدوات ملموسة للإجابة على الأسئلة المجردة، فالرواية هي الشكل الذي يقوم بتحويل المجرد إلى ملموس، فيما الفكر يحول الملموس إلى مجرد. وقد كان مؤنس ميالا إلى رؤية الأشياء والأفكار وهي تتحول إلى وقائع وأحداث تسيل حياةً وعواطفَ وصوراً تضيء الأفكار وتقدم تأويلات متعددة لها، وشرحا مواربا لدلالاتها ومعانيها.
– الدستور