نثارات النص الرحلي والسرود المحكية في وجوه طنجة

نثارات النص الرحلي والسرود المحكية في وجوه طنجة

رحلة البحث عن الموريسكيين لصبحي موسى

في نصّه (وجوه طنجة) يقدم الروائي المصري صبحي موسى خطابا روائيا منفتحا على منحى إبداعي زلق في تصنيفه، وفي تسكينه إلى فن مستقر به الكثير من الجاهزية. فالنص عند التأمل الدقيق موزّع بين النص الرحلي والرواية، وبين التخييلي والمرجعي. وكل نوع منهما له مسوغات تؤيد وجوده المهم في الانفتاح على الذاتي والفردي، سواء في مقاربة الأشياء التي تقع عليها عين السارد/ المؤلف، أو في معاينة ماضيه من خلال الارتداد والانقتاح على الماضي، فسرد الحاضر الرحلي لا ينفصل عن أحداث الماضي، فهناك دائما، محاولات لفهم الآني أو لتقريبه من خلال عقد مشابهات مع الماضي.
النص بقدر انفتاحه على الآخر المغاير بشخوصه العديدة، وعلى المكان الذي يتمّ تسريده، مهموم أيضا بالحديث والسرد عن الذات والكشف عن بواطنها وعقدها وإشكالياتها الغائرة، وذلك من خلال المثيرات أو المحفزات السردية التي تظهر تدريجيا، وتجعل الحركة موزعة إلى الأمام في حركتها السردية، وإلى الارتداد إلى الخلف من خلال وسائل السرد الارتدادي المعهودة، للكشف عن التكوينات الذاتية والثقافية للبطل أو لصاحب الرحلة. تبدو الرحلة منفتحة على العالم الجديد، لكنها ليست خالصة تماما لهذا التوجه، فهناك جانب يتوازي مع البحث عن الموريسكيين، يتمثل في البحث عن الذات وإشكالياتها وعللها الدائمة. وقد يمهد ذلك للحديث عن مقارنات دائمة بين القاهرة وطنجة.
الانفتاح على عالم الرحلة في مدينة طنجة غالبا ما يأتي متأثرا أو مشفوعا بالتكوين السابق لصاحب الرحلة، فتجربته السابقة تظلّ حاضرة لإثبات التشابه أو الاختلاف، وفي بعض الأحيان تصبح وسيلة لتقريب ما يراه، محدثا نوعا من الإحلال والإبدال بين ما يراه، ويفشل في الإمساك به، وبين ما يختزنه سابقا، فتصبح الإدراكات السابقة وسيلة من وسائل الوعي والفهم. هناك علاقة وثيقة بين هذا النص الرحلي ورواية الكاتب (الموريسكي الأخير)، فهذه الرحلة مهاد مهم للاكتناز والاختزان، فالنص مهموم بالتعرّف على الموريسكيين، وكأن ماعانوه من عذاب وتشريد وإزاحة وتهجير يترك أثره في ملامحهم، وفي أخاديد وجوه أحفادهم.
في نصّ الرحلة نجد أن هناك انفتاحا على التاريخ والجغرافيا، وعلى سيرة المدن، وعلى الأبطال الذين ينتمون إلى تلك المدن. وفي سياق ذلك الانفتاح نجد الكثير من الجزئيات السردية مهمومة بتقديم معلومات تاريخية عن مدن عديدة، مثل طنجة وتطوان وشفشاون وأصيلة، مركزة على تاريخها القديم، وعلى وجودها الخاص الذي يؤسس لها- بالإضافة إلى التعددية أو قبول الآخر الذي يساند فكرة طنجة الدولية- وجودا أسطوريا، لا يقف عند حدود المدن أو المكان، بل تمتدّ فكرة الأسطرة إلى الشخصيات المنتمية إلى المكان، على تعدد هوياتها، فهذه الشخصيات – وقد تعددت في النص- تحمل ملمحا غرائبيا خاصا.
المعاناة الروحية والجسدية التي عاشها الأجداد الأوائل لا تنتهي لأنها تصيب الروح، وتخلّف أثرا يمتدّ متناسلا داخل أجيال عديدة، مؤثرا في قدرتهم وآلية مقاربة الحياة، وفي خياراتهم، وفي نمط حياتهم ومعيشته، وفي انفتاحهم على الآخر. يفترض النص الرحلي أن هذه المعاناة ممتدة في أثرها إلى اللحظة الآنية، ولهذا في جزئيات قليلة من النص يشير السارد إلى حضور خاص لأطياف الغائبين والمعذبين، ويشير إلى أصواتهم المكتومة الحزينة.
نثارات الواقع وأفق التخييل
الفن يمكن أن يكتسب- بسبب واقعيته وأفقه الرحلي- نوعا من البراح الذي يتشكل من المادة الخام قبل دخولها إلى عملية التخييل في عمل روائي تم إصداره سابقا، وكأن نصّ الرحلة هذا يمثل نثارات الواقع الأولى قبل أن تخضع للتحوير والتخييل السردي. النص الرحلي في تقديمه لمدينة طنجة يعتمد على نثارات واقعية، منها ما يرتبط بالشخصيات، أجنبية أو مغربية، ومنها ما يرتبط بالمكان، وكل ذلك يوجّه نحو عمل متخيل، يتمثل في رواية (الموريسكي الأخير). فموضوع الموريسكيين- بالرغم من اختلاف المنزع الكتابي- يمثل نقطة الانطلاق في الرواية وفي نص الرحلة.
نص الرحلة يمثل نثارات واقعية مؤسسة للعمل السابق، فمن خلال نص الرحلة- وقد صدرت رواية الموريسكي الأخير قبله بسنوات عديدة- نستطيع أن نلمح مساحات تشابه بين الشخصيات في وجودها الواقعي الملموس- إن أمكن تصور شيء كهذا- والشخصيات في وجودها المتخيل في النص الروائي. النص يتوقف عند شخصيات واقعية، تمثل نواة لشخصيات تخيلية في النص الروائي، بالرغم من أن الأمر في كلا النصين سرد، قد يتماس مباشرة مع واقع أو يبتعد عنه، لكنه في النهاية لا يفقد إطاره الخيالي.
يمثل النص الرحلي بداية اشتباك واختزان وتأطير للشخصيات، فالقارئ لا يستطيع أن يفصل بين (بيسان)- المتطوّعة للعمل في مؤتمر خاص بالموريسكيين، وتنتمي إليهم- عن شخصية (راشيل) في الرواية، كذلك لا نستطيع أن نفصل شخصية (مراد) في النص الروائي عن شخصية (بنيس) في نص الرحلة، خاصة أن نص الرحلة يسير إشارات خاطفة إلى ذلك الترابط بين النثار الواقعي وتحويرات الفن، يقول النص على لسان السارد/ البطل (بدت لي بيسان شخصية تصلح لأن تلعب دور البطولة في الرواية التي لم تكتب بعد، وإن كانت فصولها شبه مكتملة في ذهني، فهي (راشيل) ابنة خال (مراد) الذي يمثل الموريسكي من عائلة موريسكية تاريخية، تمتدّ إلى عبدالله بن جهور، وزير هشام المؤيد، آخر خلفاء بني أمية في قرطبة).
النص الرحلي هنا محاولة لعقد اتصال مبدئي مع الشخوص يقاربها في وجودها العيني، لحظة حركتها، ويعاينها وهي متلبسة بإشكالياتها الموغلة في القدم. فالرحلة محاولة للاقتراب من الموضوع، وكأن معاينة الوجوه، بما تحمله من ترسبات المعاناة أو المحنة القديمة تعدّ بابا لمعرفة حدسية، وسبيلا ناجعة لا تقلّ أهمية عن مطالعة النصوص التاريخية المؤسسة والمرصودة للوعي بحدود هذه الحقبة. فرؤية الوجوه عن قرب تفتح أفق التخييل، لسدّ الفجوات أو القصور في الخطابات التاريخية.
وتأسيس النص لهذا النثار الواقعي يأخذ أشكالا عديدة، لتأكيد بروز وحضور الملامسة مع الواقع بالنسبة للسارد الفعلي/ المؤلف، وبالنسبة لمساحة الرصد أو مجال التعرّف، وتحقيق وجودهما العيني. فمع نثارات السارد يجد القارئ نفسه في مواجهة أحداث واقعية دامغة الدلالة لعقد مساحة ارتباط أو تطابق بين البطل أو المؤلف، بداية من التقديم على منحة (أفاق)، ومرورا بمشاركته بوصفه عضوا فاعلا في مؤتمر قصيدة النثر، وحضور اسم المؤلف محددا (صبحي) لمرة واحدة في النص الرحلي الذي عمل في فترة زمنية مديرا للنشر في الهيئة التي يعمل بها.
أما في مجال التعرّف والرصد للعالم الواقعي بالمغرب، فثمة دلائل كاشفة عن ذلك، منها المدن والأمكنة، مثل فندق (الريتز) الذي يأتي مرتبطا بمحمد شكري في سنواته الأخيرة. فسياق الحركة داخل هذا النص الرحلي منضّد في إطار معاينة ومقاربة مجموعة من الأماكن منضوية داخل سياقات أكبر. ويضاف إلى ذكر المدن والأماكن الكاشفة دلاليا عن مدى رحب، نمط آخر من التحديد والثقل الواقعي ونثاراته، يتمثل في أسماء العائلات المختارة بعناية مثل (بنيس) و(علوش). ذكر أسماء المدن والعائلات يشير إلى معطى واقعي كاشف عن التحديد المقموع ببؤر التخييل الذي يأخذ مسارب عديدة.
لا يطلّ المكان في أي نص- حتى لو كان نصّا رحليا- داخل سياق الواقعية المؤطرة، بل يكتسب قيمته المضافة حتما من سرديات متناسلة عبر التاريخ، وهذه السرديات غالبا ما تعطي بعدا أسطوريا، لبعض الأماكن والمدن. فاكتساب المكان أو المدينة أسطورتها نابع من تعدد سردياتها في تجاوبها وتنافرها، في أصل نشأتها، أو من خلال المقارنة في تمدد طبقاتها العديدة التي تتشكل سياسيا من خلال تغيّر الحكام أو الدول المهيمنة عليه.
هي سرديات تصنع وجودها وقيمتها دون عناية كبيرة بقيمة الصدق أو الكذب، أو الخيالي والحقيقي، فكلاهما منفتح على الآخر، يأخذ ويعطي جزئيات تظلّ حاضرة دائما. إن الوقوف عند سرديات نشأة طنجة أو تطوان أو شفشاون يؤسس لها حضورا لافتا يوحي بالوجود المغاير المشدود إلى فكرة الأسطورة، مثل قول يوسف نوري- واختياره متعمد بوصفه نموذجا غريبا موازيا لغرابة المدينة- مشيرا إلى بداية خلق أسطورتها (إن نوارسها هي التي دلّت نوحا عليه السلام، أن الطوفان انتهى، حين لمح آثار الطين على أقدامها).
لا تكتسب المدينة وجودها الأسطوري من سردية واحدة، بل من تعدد السرديات وتجاوبها أو تنافرها، بحيث يمكن أن تدلّ على الشيء ونقيضه، فالسردية السابقة لطنجة تتجاوب معها سرديات أخرى. ففي بعضها نجدها نشأت – أي المدينة- بسبب صراع بين العملاقين (هرقل) و(أنتي)، وفي سردية أخرى نجدها تمثل أعمدة (هرقل) في الأوديسا، وهي (طنجيس) في أول كتاب لوصف العالم. وقد أدى تعدد سرديات المدينة إلى غزارة المتخيل الخاص بها، فتولدت لها قيمة مضافة فوق قيمتها الواقعية والجمالية. ويتجاوب مع ذلك الوجود السردي المغاير الذي يخلق لها فتنة أو غرابة ميلاد أماكن داخلها تكتسب الهالة الدلالية ذاتها، مثل السوق القديم، ومقهى الحافة، ومسرح الريف، ومبنى القصبة.
وإذا كانت السرديات السابقة تؤسس اختلاف طنجة بوصفها مكانا أسطوريا في نشأته، فإن هناك جانبا آخر من جوانب تفردها، يتمثل هذا الجانب في الشخصيات المرتبطة بها التي تؤسس لها وجودا مغايرا في نموّها. فقد ارتبط بها على مرّ تاريخها عدد كبير من الكتّاب والفنانين، فأوجدوا لها قيمة مضافة دائمة الاستمرار والتوالد. من هؤلاء الكتّاب بول بولز، وجان جينيه، وبرايان جيسين، وتنيسي وليامز، وصمويل بيكيت، وهنري ماتيس، ووليم بروز، وألن جنسبرج، بالإضافة إلى الكاتب المغربي محمد شكري.
ويمكن أن يوضع في السياق ذاته كتاب (وجوه طنجة) للسارد أو الكاتب الفعلي لهذا النص، حيث يدرك أن اهتمامه بها، ليس عارضا، بل هو اهتمام ممتد، وموغل في القدم، حيث يظهر هذا التعلّق والاهتمام من بداية الوعي وطلب المعرفة في المرحلة الجامعية. ففي تحضيره لنصوصه التي سوف يلقيها في أمسية طنجة يقرأ نصّا من ديوانه الثالث بعنوان (هانيبال)، ومن ثم يقول (وجدتني أتوقف عن التفكير، وانتبهت إلى أن كل الخيوط كانت تجذبني من بدايتها إلى طنجة، حيث انطلق منها هانيبال بجيوشه وأفياله الأفريقية). هذا الاهتمام الآني يشير إلى أن أسطورتها المتوالدة بسسب البشر مستمرة.
لم يقف النص السردي بوصفه نصّا يتحرّك في مساحة زلقة بين الرواية والرحلة عند حدود المكان الذي يصنع هوية للمدينة بآثارها ومقاهيها وفنادقها التاريخية، لكنها توجه نحو تقديم نماذج بشرية تخلق تميزها، فهذه النماذج البشرية مثل (بنيس)، أو (إدريس علوش)، أو (يوسف نوري)، أو (عبدالمجيد الفاسي) لها دور آني في تشكيل المكان، فكلاهما منفتح على الآخر بين أخذ وعطاء. وقد يبدو هذا التوجه- في إثبات مغايرة طنجة- في الاعتماد على النماذج البشرية في إضفاء نوع من السحر على المكان، مرتبطا بنماذج مؤسسة، مثل محمد شكري، وبول بولز الذي دفن في طنجة، أو جان جينيه الذي دفن في العرائش.
هذه النماذج القديمة المؤسسة تشير إلى خلق سحر ورائحة للمكان، وربما شاركت في صنع الرائحة والسحر، لكن النص السردي يتعامل مع هذه النماذج على أنها نماذج مفتوحة للتكرار بأشكال وتجليات مختلفة فإدريس علوش أو بنيس أو يوسف نوري نماذج في طور التكوين والتشكيل. ويمكن الوقوف عند بعض النماذج التي تجلّى بهاؤها من خلال علاقاتها بالسارد أو البطل الذي يقدم صورة لهؤلاء تكشف عن تكوين غير عادي، من خلال سمات لها خصوصية تتجاوب مع خصوصية المكان.
النص الرحلي على لسان السارد في تقديمه وتصويره لشخصية يوسف نوري، ظلّ متمسكا بصورة ذلك الأبيض الذي لا يخلو من غموض، فهو صاحب العيون الخضراء التي فتنها سحر الشرق، وكأنه نموذج جديد، يضاف إلى النماذج السابقة، في تشكيل المكان، وطبيعة الارتباط به، يقول النص (بدا يوسف بسكسوكته وعينه الخضراء، وشعره الأصفر، مثل مغامر أتى من لشمال أو الغرب، فاستقر في طنجة، بدا كما لو أنه كان في رحلة، وتورطت قدماه في هذه المدينة).
وربما يجدي الوقوف أو الإشارة إلى نموذج أو نموذجين من الموريسكيين في نص الرحلة، للكشف عن الوجود الخاص الذي يعيدنا إلى منعطفات مؤلمة سابقة، بالإضافة إلى سمات الشخصية المتلبسة بالخفوت، وهي سمة تكتسبها مثل هذه الشخصيات نظرا لتاريخها الطويل مع المعاناة. وهناك- أيضا- سمة الانزواء أو الانطواء بعيدا عن الانفتاح عن الآخر، لأنه في منطق هذه الشخصيات يشكل مساحة غير آمنة، ومساحة ليس بها أمان أو استقرار.
وقد تجلّى ذلك مع شخصية (بيسان) التي تتحرّك في النص الرحلي وفق منطق الخوف من تشكيلات الواقع المحيط والآخر، سواء في لقاءاتها مع السارد أثناء انعقاد مؤتمر الموريسكيين، أو بعد ذلك بالاختفاء السريع غير المبرر. وقد يظهر بشكل واضح من خلال إيماءات السارد في إشارات متوالية إلى حركة (خالد الريسوني) الذي جاء في النص منعزلا وفاقدا للتواصل مع الآخر، حتى ذلك الآخر الذي يثبت ارتباطه به، بل وينتمي إليه. الوقوف عند هذه النماذج على قلتها في النص الروائي، والتطرّق إليها بشكل خاص من التبئير ليس إلا محاولة لجمع المأساة من عيون الأحفاد، وكأن الكوارث الكبرى تترك أثرا وراثيا متناسلا. فتأمل الوجوه يعكس نوعا من الروائح المتراكمة.
النص الرحلي والسرود المحكية
آليات السرد في النص الرحلي لا تختلف بشكل مباين عن آليات السرد الروائي، إلا في انفتاحها بشكل أكبر على السرد الخطي النامي المتوجّه إلى الأمام، ويقلّ في إطار ذلك الجزء الخاص بالارتداد الخاص بالخلفية المعرفية للسارد أو للبطل، وما يوجبه ذلك من انفتاح على زمن سابق، وعلى تكوينات ذاتية وسياسية، لها تأثير في خلق الفجوات المعرفية المتعلّقة بالبطل. فالارتدادات السردية منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو موضوعي عام يلتحم بالسياسة والتكوينات الجمعية المشدودة إلى موازنة ومقارنة مع سياق الرحلة وإطارها المكاني.
والارتداد السردي لتقديم معرفة مستقرة ومقررة لا يرتبط بالخلفية الثقافية للبطل، ففي أحيان ليست قليلة يقدم النص جزئيات معرفية عن طريق الارتداد خاصة بمحمد شكري وبأسلوبه في الحياة، كأن يقصّ أو يسرد عن نشأته في طفولته، أو في حياته في ظل أبيه قاسي القلب، وهروبه منه وعودته إلى طنجة، بعد أن انتقل والده بالأسرة إلى تطوان، وكأن الانشغال بالموضوع أدى إلى وجود صيغة سردية تجمع بين الارتداد والسرد في آن. في بعض الأحيان يمتدّ هذا الارتداد حتى يشعر القارئ أنه سرد، فيقدم لنا روايات متباينة تتعلق بنشأة شكري وإتقانه للغة العربية.
ما يقدمه النص الرحلي عن محمد شكري أو عن بعض الشخصيات الأخرى أو عن الأماكن، خاصة حين يأتي في سياق الخروج أو البتر للسرد النامي، لا يسلم قياده كلية للارتداد أو للارتجاع، بل يمكن أن يكون أقرب إلى الخروج السردي لتقديم معرفة مؤسسة متعلّقة بالشخص أو المكان. لا يشعر القارئ غالبا بالنقلة من زمن إلى زمن، لأن الأمر أثناء القراءة يكون قد تأسس في سياق وحدة بين المكان والشخص المرتبط به، فتصبح هذه الارتدادات أشبه بخروجات التداخل بين الهامش المعرفي والمتن الذي يضيف أو يخزّن معلومة وثيقة الصلة بسياق النص الرحلي وشخصياته التي تطلّ ملتصقة بالصورة الكلية للمكان.
وجود الارتدادات السردية في النص الرحلي مرتبط بوجود الوعي الذاتي للسارد، لأن ما يقاربه من عادات وشخوص وأمكنة، وأشياء أخرى تبدو خارقة للنسق تستحضر المشابه أو المغاير من ثقافته وتجربته السابقة، فهي السبيل الأولى لتقريبها، ولفهمها والكشف عن أثرها. فصوت المرأة الخافت الذي يسمعه بعد منتصف الليل في فندق الريتز- تعرّف القارئ على صاحبته في نهاية الرواية- يذكره بصوت النداهة كما هو مؤسس في المخيلة المصرية، من خلال حكايات الجدّات. ففي هذا النص يعاين القارئ انفتاح ذات فردية بتكوينها وثقافتها على وجود جمعي، عليه أن يفهمه، وليس هناك وسيلة سوى المقارنة مع المؤسس داخل وعيه وثقافته.
ويبدو أن الكاتب قد عاين أمر هذه الخروجات الطويلة، وما تضفيه على النص من نسقية تكرارية واضحة، فنراه في أجزاء كثيرة من النص لا يقنع بهذه الحالة السردية التي تتضمن السرد والارتداد معا لتقديم سيرة للشخصية أو للمكان. فوجدناه ينتقل إلى السرود المحكية عن الآخرين، خاصة إذا كان الأمر يتعلّق بجزئيات مكانية لا يدركها إلا أصحابه من المغاربة. وفي إطار ذلك يتم تحويل الحوار ليصبح سردا محكيا عن الشخص يقدم من خلاله التاريخ والسيرة المكانية.
السرود المحكية التي لا تخلو من جانب معلوماتي في موضوعات عديدة، لها حضور واضح في النص، وجاءت موزّعة على الشخصيات التي يتعامل معها السارد. وقد كشف هذا النمط السردي عن تكرار لافت، خاصة في الزيارات التي قام بها إلى كل من إدريس علوش ويوسف نوري، وكشف أيضا عن الوقوف عند الإمساك بالمعروف والمتداول، سواء في الحديث عن المأكل أو المشرب أو الأماكن، وفي ذلك ابتعاد عن الروحي الخاص بالموريسكيين، ولم يظهر الاهتمام بهذا الجانب إلا في جزئيات بسيطة نادرة.
تتجلّى الحكايات المسرودة عن الآخرين داخل النص بشكل مهيمن، مثل حديث يوسف نوري عن طنجة كاشفا سيرتها وطبقاتها وتاريخها متعدد الطبقات، أو حديث عبدالمجيد الفاسي أثناء جلسة شراب عن سيرة الأمير عبدالقادر الخطابي المدفون بمصر. وإعطاء السرد لشخصيات النص منطلق من منطلقات الرواية الرحلية، خاصة إذا كان الأمر يرتبط بأشياء غير متداولة بشكل واسع. فالسرد المحكي على ألسنة الآخرين يمثل مساحة إفضاء واكتمال لأماكن الرحلة وشخوصها الغائبة والحاضرة.
تتعدد أشكال السرد المحكي أثناء الحوار، وتختلف باختلاف الشخصية التي تقوم بتقديم المعرفة في إطار معلوماتي. فإدريس علوش حين يقدم سيرة لإقليم العرائش المغربي، وتاريخه الاستعماري بالوجود الأسباني أو البرتغالي، أو في وصفه للسوق الصغير أو (السوق الداخل)، يكشف عن سرد معلوماتي مطوّل متاح في مظانه الأخرى بشكل قد يكون أكثر دقّة ووضوحا. وفي سرد الشاعر محمد عابد عن تاريخ وسيرة مبنى بجوار مؤسسة الثقافة، نجد أن هناك تجلية لطبقاته الوظيفية باختلاف الحكّام، فقد كان برجا للمراقبة في عهد المريني، ودارا للاستقبال في عهد السعديين، ودارا للقضاء لها سجن تحت الأرض، ومخزنا عسكريا في فترة احتلال الأسبان.
لكن هذه السرود المحكية تأخذ شكلا مهما إذا كان السرد المحكي يقوم به شخص يمكن أن يكون نموذجا قادما في طور التشكيل، ليصبح رمزا كاشفا عن المكان، في سرده عن شخص أعطى للمكان بعضا من رائحة وقيمة. يتجلّى ذلك واضحا حين نتوقف أمام سرد إدريس علوش عن جان جينيه، فالسرد يكشف بما تجاوب معه من حركة عن حالة توحّد بينهما، فإدريس- في انتمائه إلى لينين وتروتسكي- يقدّر مواقف جان جينيه في سرده عنه أثناء زيارة قبره الموجود في العرائش، يقول النص (وقف إدريس أمام القبر، وكأنه انجذب إلى شيخه الأكبر، ولم أعرف هل كانت التمتمات الصادرة عنه هي قراءة للفاتحة على روح جان جينيه، أم هي تعويذة يطلقها لتحضير روحه الغائبة؟).
النص السردي الرحلي في ظلّ انفتاحه على تقديم المعرفة أو المعلوماتية الخاصة بالمكان أو الشخصيات أو بمنطلقه الفكري الأساسي الخاص بالموريسكيين، يخترع آلياته السردية، في تمرير معلوماته أو معرفته، منها على سبيل المثال- بالإضافة إلى ما سبق- ملخصات أبحاث المؤتمر الخاص بالموريسكيين، أو الحوار المنفتح على السرد الطويل مع مدير مركز الدراسات الأندلسية، أو سائق التاكسي حين يسأله عن المدينة، أو يعود- حين تضيق به السبل- إلى الاستعانة بالشبكة العنكبوتية.
وقد تحوّل النص الرحلي في ظل كل ماسبق إلى سجل للرحلة وحركاتها وانتقالاتها وتبدلاتها، ومع انفتاحه على أفق ثنائي من خلال حضور الذات، وإدخال وعيها الآني والماضي داخل هذا الخطاب السردي بارتداداته، جعل الأمر أقرب إلى تسجيل اليوميات الخاصة بالسارد أو البطل، لأن وعيه ظلّ حاضرا في كل جزئية. وهذا يجعلنا نشير إلى أن النص وضع أمام عينيه الوجود الصلب الذي يسهل الأمساك به والتعبير عنه، أما انكسارات الروح للبشر، وأصواتهم المتألمة، فلم يتمّ التوقف عندها بشكل كامل إلا في بعض الجزئيات النادرة في هذا النص.
أعتقد أن النص ركز على الجزئيات الصلبة الواضحة، وكان الأمر يحتاج إلى البحث عن سمات نفسية داخلية تتطلب خيارات بنائية ومعرفية أخرى، فالتركيز على بعض الموريسكيين مثل (بيسان) أو (بنيس)، أو (خالد الريسوني)، كان يمكن أن يدخلنا إلى الإمساك ببعض السمات لديهما، ولا يتوقف عند حدود الخوف والانعزال. فالنص أوهمنا ببحثه عن الموريسكيين، لكنه لم يستطع الإمساك بالقهر والخوف والذعر أو مجمل الصفات المتعامدة للكشف عن أثر هذا الحدث الشنيع الذي يستمر إلى قرون طويلة وأجيال عديدة.
ربما نجد أن هناك وقوفا عند صفة القلق التي تجلّت في عدم اكتمال الاتصال بين بيسان والسارد، حيث يقول عنها (كانت بيسان قلقة خائفة، لا تريد أن تعطي روحها لشخص لا تعرفه)، أو الخوف المرضي لدي بنيس الذي لم يخبر السارد بكونه موريسكيا إلا بعد أن اكتشف ذلك بنفسه، أو فكرة الانطواء عند خالد الريسوني الذي يقول عنه النص (شخص منطو، لا يكاد يخرج من بيته، يعيش بين كتبه طيلة الوقت، في عينه نظرة ارتياب دائم)، لكن كل ذلك يأتي بشكل عرضي دون الاشتغال عليه بقصدية، ودون تركيز على ظواهر وسمات أخرى تعضد وجودها.
الأمر في تصوير الوجود الصعب للموريسكيين، أو حالتهم النادرة، كان بحاجة إلى الاشتغال على الرائحة، أو البحث عن شيء أثيري مثل الطيف، وجعلهما أساس المعرفة في الوصول إليهم. وقد ظهر ذلك في جزئيات بسيطة من النص في قوله (إلا أنني كنت قادرا على شم روائح الزمن القديم، وكنت أشعر بأنفاس الموريسكيين، وهم يلهثون خارجين من البحر… أحيانا أسمع غناء رفيعا يتهادى بموشح قديم)، أو في قوله (ولا بد أن الأنين المكتوم الذي يطن في أذني، عائد إلى بعض الذين صعدت أرواحهم في الظلام، تاركة أجسادها في الأغلال إلى أن يكتشف الحرّاس موتها).

إن فكرة الطيف أو الرائحة فكرة جيدة، لأن كليهما خارج التأطير والتجسيد، ولديهما قدرة على التمدد والوجود والنفاذ والاستمرار خارج الملموس، بل والتواجد داخل المتخيل الذي يخرق الناموس الطبيعي للزمن أو للإدراك الحسي. وكان من المفيد أن تأخذ هذه الجزئية حيّزا واسعا، بل يمكن أن تتحوّل إلى الخيط الأساس للنص الذي تقلّ في وجوده قيمة أية خيوط سردية واقعية أخرى.

شاهد أيضاً

لطفية الدليمي: سيدة السرد، وصوتُ الروح في ثقافةٍ تتبدّل

(ثقافات) لطفية الدليمي: سيدة السرد، وصوتُ الروح في ثقافةٍ تتبدّل ياس خضير البياتي في بغداد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *