هواجِس: كتابة الألم.. وفضاء الأمل

(ثقافات)

هواجِس: كتابة الألم.. وفضاء الأمل

د.أماني سليمان

بِحروفٍ مُوجِعةٍ تَعْبُرُ كلماتُ الأديبِ طه درويش وتَتَراصُّ بتماسُكٍ في نصوصٍ تَئِنُّ حنيناً وأَلَماً، نصوصٍ تَتَأَمّلُ فيها الذاتُ ذاتَها، وتمتدُّ لتتأمّلَ العالمَ حولَها، كأنما يَنْسَرِدُ العالَمُ مِنَ الذّات، وتَنْسَرِدُ الذّاتُ مِنَ المحيط، في لوحاتٍ لغويّةٍ تَشِفُّ عن مخزونٍ رَحْبٍ من الوَجْدِ والصّوفية، نصوصٍ يواجهُ بها الأديبُ صَخَبَ الحياةِ وخرابَها وَتَهَشُّمَها في محاولةٍ للتغطيةِ على هشاشةِ الذاتِ المعذَّبةِ التي لا تملكُ حِيالَ العالَمِ شيئاً، كأنّما يبحثُ عن راحةٍ ما تَعْقُبُ البَوْح.

ومنذ عنوان الكتاب: (هواجس: كتابةُ الألم ومَخاضُ الكتابة)، يستشرف القارئُ ما ستنطوي عليه كلمةُ (هواجس) من أفكارٍ مُلِحّةٍ على عَقْلِ الأديبِ وإحساسِهِ مَشوبةٍ بالمخاوفِ والقلقِ وعدمِ اليقينِ يضيقُ المهجوسُ بها ولا يستقرُّ أو يرتاح، لتكونَ مَناطَ بَوْحِهِ ومُساءَلته، فالأديبُ طه درويش مسكونٌ بمجموعةِ أفكارٍ تُشكِّلُ في كُلِّيّتِها فكرَهُ ورُؤاهُ ومشاعرَهُ وانفعالاتِهِ تجاه مفرداتِ الكونِ والحياةِ مِنْ حَوله، وتُسَبِّبُ له أَلَماً يُحاولُ أنْ يكتبَه، وتبدو كتابتُهُ موجِعةً كما لو كان حالةَ مَخاضٍ يُنتظرُ بعدها ولادةُ حياةٍ جديدة.***

حين نتأمَّلُ إهداءَ الكتاب يتبدّى إحساسُ الأديبِ بالقضايا الإنسانيةِ العامة والوطنيّةِ الخاصّة، ويتجلّى تماسُّهُ مع المأساةِ التي لا تزال تنزِفُ قريباً مِنّا؛ مأساة غزّة، حيث يُهدي كتابه: (إلى الطبيبةِ آلاء النّجار وأرواحِ أقمارِها التسعة، …) التي تُمثِّلُ حالتُهم نموذجاً مِنْ نساءِ غزَّةَ اللاتي فَقَدْنَ فلذاتِ أكبادهنَّ جميعهم في حَرْبِ الإبادةِ التي اقْتَرَفها العدوُّ الصهيونيُّ الغاشم، وهي مثالٌ صارخٌ على وَجَعِ الإنسانِ الغَزِّي/ الفلسطينيّ، وعلى ضياعِ الإنسانيّةِ والتّعاطفِ في هذا العالَم البائس، يُقفِلُ طه درويش جملةَ إهدائه بسؤالٍ استنكاريٍّ أَوْجَبَهُ واقعُ الحال إذ يقول: (فهل تُجدي الكلمات يا آلاء؟!).

***

يَجمعُ الكتابُ بين نصوصٍ خاطِراتيّةٍ، ومقالاتٍ أدبيّةٍ نقديّةٍ مُكثّفةٍ تُمسِكُ في عمومِها بقضيةٍ ما أو بِهَمٍّ إنسانيٍّ؛ فتتأمّلُهُ، وتُسائِلُهُ، وتُبدي موقفَها أو رؤيتَها منه، وهي في جُلِّها تُمثِّل حالاتِ بَوْحٍ إنسانيةٍ شفيفةٍ يَلْمَسُ فيها الأديبُ السَّلْوى والرّاحة، كما تُمثِّلُ خُلاصاتٍ فكريةً شعوريةً تُعبِّرُ عن التجربةِ الذاتيّةِ الواقعيّةِ بأسلوبٍ أدبيٍّ سَلِسٍ يَنوءُ عن التّعقيدِ والتركيبِ، بلغةٍ عذبةٍ، متماسكة، تتلمَّس البلاغةَ والمجازَ وتقتربُ من الشِّعرية، تُساجِلُ الشعراءَ والأدباءَ حيناً وتَمْتَحُ مِنْ إبداعِهم أو تَتَناصُّ معه حيناً آخر، فتصنعُ تَوْليفةً تَشي بالشّراكةِ في الأَلَمِ وفي التّعبيرِ عن هذا الألمِ عَبْرَ كتابَتِه.

يقول طه درويش: “في الغرفةِ رقم 226 تكتبُ كي لا تموت” ولعلّهُ في عبارتِهِ تلكَ ما يُجيبُ فيها ذاتَهُ عن جَدْوى الكتابة، فتكون هي سَلْواه وحِرْزَه ضِدَّ المَوْت. كما تأتي الكتابةُ بوصفها شكلاً مِنْ أشكال المُناجاة؛ إذ يقول: “في الهزيعِ الأخيرِ من الغربة، تُلقي القبضَ على ذاتِكَ إذ تُناجي ذاتَكَ: كيف تَجَرَّعْتَ بِئْرَ الألمِ ذاك، من دون قَطرةِ فَرَح! وكيف احْتَسَيْتَ قهوةَ الغُربةِ المُرّة، من دون حبّةِ سُكّر”.

***ومما يَلْفِتُ في الكتابِ وقوفُ الأديبِ في تأمُّلاتٍ وجْدانيّةٍ في البلاد التي عَبَرَها والأمكنةِ التي مَرَّ بها، كما تَبْرُزُ نظرتُهُ الشّعريةُ الشاعريةُ إلى تجربتِهِ الذاتيّةِ إِثْرَ ابتعادِهِ عن أحداثها زمانيّاً ومكانيّاً، كأنّما يُعيدُ بذلك النَّظَرَ فيها بِعَيْن الطّائِر، ولعلّ ثنائيةَ (الآن/ هنا) هي معضلةُ الإنسانِ منذ خُلِقَ؛ فهو يسائل في نصوصِهِ الزمانَ حيناً والمكانَ حيناً آخَر، ويحكي عنهما وعن أحداثٍ جَرَتْ فيهما يَمْتَحُها من الذّاكِرة بكلِّ ما فيها من أَنينٍ وحَنينٍ وأوجاعٍ وهَواجس، فيذكُرُ أزمنةَ الأحبّةِ والأصدقاء، وأزمنةَ الغُربةِ والبحثِ عن الذّات، عن سنواتِ التّيهِ في صحارَى العالمِ وأعوامِ الضَّياعِ في المدنِ القاحلةِ بحثاً عن الفردوسِ المفقود.

سنواتٌ بَدَتْ عِجافاً، تَرَحَّلَ فيها الكاتِبُ بين الغُرَفِ البعيدةِ الباردةِ فَلَمْ تُصِبْهُ بالحنين، قِبالةَ ما أدْرَكَهُ من دلالاتِ أمكنةِ الذّاكرةِ الجميلةِ التي نَأتْ لكنّها سَكَنَتْهُ إلى الأبد، يقول طه درويش: “تأتي المَنزلَ/ المكانَ مُحايداً، بارداً، لَمْ تأتِهِ يوماً مدفوعاً بِحُبٍّ أو مُهروِلاً صَوْبَهُ بحنين، تأتيه مدفوعاً بالحاجةِ إلى سَقْفٍ يُؤويك، وأرضٍ تَحْويك، وجُدرانٍ تَقيك…” قِبالة ذلك يقول بما يذكِّرُنا بجماليّاتِ المكانِ عند غاستون باشلار: “المكانُ الذي لَكَ وحدكَ، في بقعةٍ من هذا الكونِ لَكَ وحدكَ، تقذفُ فيه روحَكَ وحدكَ، وتزرعُ فيه تضاريسَ قلبِك وحدكَ.. تغرسُ في جدرانِهِ مساميرَكَ وحدكَ، وتُعلِّقُ عليها صُوَرَكَ وحدكَ…المكانُ الذي يُخَربِشُ أطفالكَ كلماتِهم.. ضحكاتِهم.. أحرفَهم.. أحلامَهم على جدرانِهِ كي تبقى، كي لا ترحلَ وتتركَها لغرباءَ مِنْ بعدِك”.

***

لقد عمد طه درويش إلى تشخيص ذاتٍ من ذاتِه، وكثيراً ما خاطَبَها بـ: (صديقي)، فأفْصَحَ عن كلِّ ما يجولُ في دواخلِهِ المتراكبَةِ بالأحلامِ والأحزانِ والتّجربة: “كأنّي بكَ يا صديقي تَفِرُّ إلى “الكهف” بعيداً، بعيداً عن البشر… بعيداً عن سَوْءاتِ أَرواحِهم”.. وقد تَجَلَّتْ آهاتُهُ في أعاليها ليؤكِّدَ لنا بأنه كتابٌ يفيضُ بحَقْلِ الألم، وذلك بما تَمَظْهَرَ فيه من تكرارٍ للفظةِ الألمِ حتى في العناوين الداخليّة للكتابِ كأنها العمود الذي يدور حوله مَتْنُهُ وثيماتُه؛ مِن مِثل: (كانون والآلام، أرخبيل الآلام، قمة الألم،…). وبما تجلّى فيه كذلكَ من ألفاظٍ وتعابيرَ واستعاراتٍ مَثّلتْ الوَجَعَ والحزنَ والسّوادَ وشكَّلَتْ حقلاً دلاليّاً خاصاً بها مِنْ مِثْل: (أحزان، ضجر الروح، بؤس الأرواح، ناصع السواد، جحيم المعرفة، تَبْيَضّ عيناك عليه من الحزن، سنوات التيه، أعوام الضياع، المدن القاحلة، رعب، أوهام، القلوب الأقسى، تحنيط الكآبة، تهرس القلب، الموت، تبكي، تنوح، عرس الدم، بِصَمْت كسيح، عجز أبكم، خزائن الأوجاع).

إنّها بلا شَكٍّ كتابةُ أَلَمٍ نالَ صاحبُها منه الكثيرَ ممّا تراكَمَ عَبْرَ السنين ونَضِجَ حتّى آنَ مَخاضُ كتابَتِه، فكان كتاب (الهواجس).

شاهد أيضاً

روبين داريّو؛ أمير الأدب الإسباني الذي تغنّى بفلسطين

(ثقافات) روبين داريّو؛ أمير الأدب الإسباني الذي تغنّى بفلسطين في ذكرى ميلاده 1916/1867 ألمتوكل طه *** …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *