محمد الماغوط… حطّاب الأشجار العالية

محمد الماغوط… حطّاب الأشجار العاليةِ

فاطما خضر

 

صدرت عن «دار كنعان» في دمشق الطبعة الثالثة من كتاب «محمد الماغوط – حطّاب الأشجار العالية» من تحرير وتقديم الروائيّ والصحافي السوري خليل صويلح. تميّزت هذه الطبعة عن الطبعتين السابقتين بتعديلات في التحرير بما فيها العنوان القديم «اغتصاب كان وأخواتها»، إضافة إلى قراءات جديدة في تجربة الماغوط بعد رحيله، حيث يُقسّم صويلح كتابه إلى مُقدّمة وستة أقسام، يستعرض عبرها أجزاءً من حوارات مختلفة مع الماغوط، قام بتحريرها، ومُقتطفات من أشعاره، وسرديات من حياته.

ينطلق صويلح في المُقدّمة بخمسة أسئلةٍ، وكأنّها تلخيص كثيف لسيرة شاعرٍ تفرّد في إبداعه، والتزامه بالمبدأ والفعل، وتمرّده في اللغة والحياة، ليكون في النّهاية أنموذجاً استثنائيّاً ليس فقط شعريّاً وفكريّاً بل وإنسانيّاً. ويُتابع صويلح بعد هذه الأسئلة في سَرد مُقدّمته المُكتنزة بمديح شاعرٍ استطاع منذ أوّل مجموعة «حزن في ضوء القمر» أن يخلق معادلةً شعريّةً جديدةً، وأن ينأى بنفسه عن رأي النُّقاد، ليستكمل في مجموعته الثانية «غرفة بملايين الجدران»، فالثالثة والأخيرة «الفرح ليس مهنتي» مسيرته الشّعريّة القصيرة لكن العالية، وليستحقّ وفق صويلح لقب «حطّابٌ لغوي». إذ احتطبَ الماغوط من غابة الشِّعر الأشجار العالية فقط، ثمّ أضرم بها نارَه التي أحرقت غابة الشِّعر التقليدية بكل ما فيها من موروثٍ وبحورٍ وقوافٍ؛ ودخل صالون الشِّعر ببيجاما، مُتدثّراً بمعطفٍ ثقيلٍ من الأحزان، وحاملاً في صوته صرخة الضّعفاء، وفي أصابعه رائحة البراري والبُسطاء.

ينتقل صويلح في القسم الأوّل «نصوص مُلتبسة في الجريمة» إلى سرد تفاصيل أوّل لقاءٍ صحافيٍّ له مع الماغوط أوائل التسعينيات، حين قصد منزله برفقة أحد أصدقائه، ووضعا آلة تسجيل سرّاً تحت الطاولة، لعلمهما برفضه التام للاستجواب، ويعترف صديقه في نهاية السهرة بأنّهما قاما بتسجيل الحديث كاملاً، فيُصادر الماغوط شريط التسجيل، ويبقى لهما من الجلسة الكثير من إجابات الماغوط العالقة في ذاكرتهما، والتي تُميّزه بأنّه يختزل فيها أكبر قضيّة أو مسألة باقتضابٍ مُقترنٍ بهجاء. ثمّ يستعرض لنا أوّل مرّة تعرّف فيها إلى اسم محمد الماغوط، وأوّل كتابٍ للماغوط اقتناه، ثمّ رهبة الاقتراب منه، واللحظات التي صادفه فيها عائداً من «مقهى الشّام»، ثمّ كيف أصبح صديقه، وعمل معه، ثمّ ينقل لنا تفاصيل من حياته وأمزجته ومرضه، ثمّ كيف تحقّق حلمه بالاطّلاع على أرشيفه الصّحافيّ: «صرفتُ أكثر من عشرين ساعةً متواصلةً تقريباً، في قراءة الحوارات المنشورة في صُحف ومجلات عربية مُتفرقة، وهي تفوق الأربعين حواراً، أُجريت مع الماغوط في مناسبات مُختلفة، ولعلّ الأمر اللافت هُنا، أنّ هذا الشاعر الاستثنائي، لم يُغير أقواله أبداً، منذ أوّل حوار إلى آخر حوار معه، وكأنّه يُوقّع على محضر شرطة في قضية اتّهام».
ويُحدّثنا في القسم الثاني «وصفة جاهزة لحساء الحريّة المُشتهاة»، كيف تركَ الماغوط برحيله، ميراثاً من الغضب والتّمرد والثّورة للأجيال التي جاءت بعده، عبر كلّ ما كتبه. كان ذلك بمنزلة الوصفة الجاهزة لحساء الحريّة المُشتهاة، ويستعرض لنا أعماله في مختلف الحقول الإبداعيّة وما اكتنزته من كوميديا سوداء، وذكاءٍ عالٍ، ومفرداتِ سُخطٍ، ومظالمَ النّاس، من دون أن ينأى عن فكرة الأمل. ثمّ يعود ليؤكّد خصوصية تجربة الماغوط بوصفه أباً شعريّاً لقصيدة النّثر بامتياز: «لا يوجد شاعرٌ سوريٌّ ممّن اتّجهوا إلى قصيدة النّثر، في سبعينيات القرن المُنصرم وما تلاها، لم تُصبه لعنة محمد الماغوط بجُرحٍ بليغٍ في الرُّكبة، أو ندبةٍ في الجبين، أو بلطخة حبرٍ في الأصابع. بثلاث مجموعات شعريّة استولى على أرضٍ شاسعةٍ وأحاطها بمفرداتٍ مُدهشةٍ رغم بساطتها الخادعة». ثمّ ينتقل لاستعراض بعض الأسئلة المطروحة خلال حوارات أُجريت معه، والتي تتعلّق بمجملها بطفولته ونشأته ومدينته السّلمية.

يستعرض في القسم الثالث «سجن المَزّة متحف الرُّعب»، أسئلةً طُرحت على الماغوط تتعلّق بمجملها بثلاث نقاط أساسيّة: اعتقاله وحياة السّجن – حياته في بيروت ومجلة شعر – قصيدة النّثر وشعراء جيله. ومن بين هذه الأسئلة: «من هو معلّمك الأوّل في الشعر؟ لا أنكر أنّ سليمان عوّاد كان معلمي الأوّل. وقتها كان ينشر في الآداب والأديب. وهو من عرّفني إلى الشِّعر الحديث، قرأ لي رامبو مُترجماً، وهو من أوائل من كتبوا قصيدة النثر».
نقرأ في القسم الرابع «عصفور أحدب يستوطن غرفة بملايين الجدران» أسئلة من حواراتٍ عدة، تتعلّق بالنقاط: الغرفة الواطئة التي اختبأ فيها مدة كان مُلاحقاً – «العصفور الأحدب» كقصيدةٍ ثمّ كمسرحيّةٍ – المسرح العربي ومسرحيّاته – زوجته سنيّة صالح – الحزن والحريّة في كتاباته وحياته – تفاصيل من حياته الشخصيّة: طقوس الكتابة، التّدخين، الموسيقى…
ننتقل في القسم الخامس «من مقهى أبو شفيق إلى الشانزيلزيه» للقراءة عن الأرصفة والمقاهي التي عرفها الماغوط وعرفته «الأتوال، الهافانا القديم، أبو شفيق في الربوة، مقهى الشّام»، ثمّ إلى أسئلة عن ثلاث مُدنٍ عاش فيها: «دمشق مدينة أنتَ تُحبّها، وهي لا تُحبّك…» و«بيروت احتضنتني، أكثر ممّا احتضنتني أمّي…»، و«باريس باختصار، نداءٌ لكلّ فقراء وبؤساء العالم أن يظلّوا حيث هُم…». ويختار لنا في القسم السّادس والأخير «صورة جانبية في خمسين مرآة»، خمسين اقتباساً للماغوط، تُمثّل بمجملها مُلخصاً عن نظرة الماغوط للغة والحياة: «أخذوا سيفي كمحاربٍ، وقلمي كشاعرٍ، وريشتي كرسّامٍ، وقيثارتي كغجريٍّ… وأعادوا لي كلّ شيء وأنا في الطّريق إلى المقبرة. ماذا أقول لهم أكثر ممّا يقوله الكمان للعاصفة؟»
«حطّاب الأشجار العالية» كتابٌ أعدّه القدير خليل صويلح، كفيلٌ بأن يحكي لك عن ابن الفَلوات، مَن لا تعترف قصائده بصالونات الشِّعر، ولا أفكاره بربطات العُنق، لأنّها مثله حُرّة، أتقنت القفز فوق أسوار العِرف والموروث والضّعف والاستبداد.

  • عن الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *