*عبده وازن
كان محمد الماغوط أقلّ شعراء مجلة «شعر» ثقافة. وفي معركتها الحداثية التي خاضتها، ظلّ دوماً في موقع الشاهد، ليس في متناوله سوى قصائده وحدها. لم يشارك في «التنظير» ولا في النقاش النقدي ولا في الدفاع حتى عن قصيدته النثرية التي تفرد بها. بل هو لم يتكبّد مشقّة الرد على الشعراء التفعيليين الرواد الذين استهجنوا شعره فهاجموه، وفي طليعتهم نازك الملائكة. وهو أصلاً لم يألف منهم سوى بدر شاكر السياب، شبيهه في البؤس، وقد رثاه في قصيدة هي أطرف ما يمكن أن يُكتب في الرثاء، وختمها قائلاً بسخرية مرة: «لن تبلغ الجنة أبداً/ الجنة للعدائين وراكبي الدراجات».
ارتأى شاعر الحياة المهمشة أن يكتب بحرية تامة خارج النظريات والبيانات الشعرية. فهو الآتي من أطراف البادية السورية، آثر أن يظل بدوياً ولكن «أحمر». حافظ على سليقته الصافية وعلى غريزته الشرسة التي جعلته يقتحم غابة الشعر بجرأة وعفوية. لم يلجأ الماغوط الى الثقافة ليجعل منها خلفية لصنيعه الإبداعي، لم يفتش في كتب الأساطير عن رموز وأبطال كما فعل الشعراء «التموزيون»، ولم يتكئ على الترجمات الشعرية، هو الذي لم يكن يجيد سوى العربية، ليوسّع آفاقه ومصادره. كان شاعراً حديثاً كل الحداثة ولكن على هامش الثورات الشعرية العالمية. كان في قلب العصر وخارجه، بدوياً يدخن ويشرب ويدمن الجلوس في المقاهي، مراقباً العالم من حوله. ولما كانت تضيق الحياة في عينيه وتتسع دائرة وحشته، كان يمارس فعل الصعلكة داخل القصيدة أو على الأرصفة، متشرداً ومتسكعاً مثل شخص أعزل طرده العالم وتخلت عنه الجماعة والقبيلة والطائفة… وبلغت به الجرأة في ذم شخصه حتى ليقول في إحدى قصائده: «أنا حذاء، أين طريقي؟»
لم يكن يضير محمد الماغوط أن يكون شاعراً على حدة. بل لعله كان يرحب بهذه «الحدة». انتمى الى حركة مجلة «شعر» ونشر فيها أجمل قصائده، ثم لم يلبث أن سخر من حداثتها. التحق بصفوف الحزب القومي السوري ثم انسحب منه وسخر أيضاً من فكرة انتمائه إليه. كان الماغوط يدرك أن الجيل اللاحق الذي تأثر به وخرج من «غرفته» التي «بملايين الجدران» حمل قضيته ورفع لواء شعره وانتقم له من المنظرين ونظرياتهم. لكنه لم ينتبه الى أن مريديه لم يقفوا على بابه طويلاً، فهم سرعان ما انطلقوا الى حقولهم وملاعبهم، وباتوا إذا شاؤوا أن يسترجعوه، ينظرون إليه كما لو أنه وراءهم. لكنّ ابتعادهم عنه لم يعن أنهم أصبحوا أهمّ منه أو أشعر. إنهم الأبناء مهما خانوا اباهم. فتح أمامهم الطريق ليواصلوا مسارهم كل في جهته. ظل الماغوط هو الماغوط، أما الماغوطيون فما لبثوا أن تخلوا عن الأثر الذي وسمهم به في بداياتهم. ولا أعتقد أن شاعراً جديداً أو شاباً كتب من دون أن يعبر غابة الماغوط. كل شعراء الأجيال اللاحقة تعمدوا في جرن مائه. وأصلاً لا تكتمل البدايات، إذا لم تنهل من معين صاحب «حزن في ضوء القمر».
في الذكرى العاشرة لرحيله، يحضر الماغوط وكأنه لم يرحل. الشعراء المتعاقبون يطرقون بابه ويوقظونه من نومه، وهو لا يتبرم بهم بتاتاً. كان أليف الشعراء الشباب وما برح أليفهم في غيابه. هذا قدر الماغوط: أن يظل شاعر الشعلة الأولى التي توقد نار المستقبل. والعودة إليه تظل حاجة لدى الجميع، «القدامى» والمخضرمين والجدد. العودة إليه ضرورة ولو أضحت فعل استذكار وتذكر. تشعر أنك، بصفتك قارئاً، استنفدت قصائد الماغوط، أنك اكتشفتها كلها وعرّيتها، وأن ما من زاوية في عالمه لم تلق عليها ضوءاً. أنت لا تعاود قراءته لتكتشفه مرة أخرى، بل لتستعيد رعشة القراءة الأولى واللذة التي أحدثتها قصائده، في ذائقتك ووجدانك. شعر الماغوط لا يُخفي مقدار ما يفصح. شعره لا يُضمر كثيراً ولا يستبطن ولا يدعو قارئه الى المزيد من التأمل والتأويل. وهنا سر فرادته. قصيدته قصيدة الدفعة الواحدة. تُسكرك للفور وتمنحك أسرارها وتسلمك مفاتيحها. قصيدة تلقائية، عفوية، جارحة، مؤثرة، لا تتقنّع ولا تتجمّل ولا تصطنع… قصيدة لا تتوسل البلاغة المفتعلة ولا الفصاحة المتكلفة. قصيدة لا تخشى العامي واليومي والهامشي والنافل ولا تهاب الركاكة والفجاجة والإطناب في أحيان، ولعلها تتقصدها كلها لتتفرد وتنفرد بنفسها.
عشرة أعوام على غياب محمد الماغوط. عشرة أعوام على حضوره الذي يزداد توهجاً.
_____
*الحياة