حسب توقيت باريس

(ثقافات)

حسب توقيت باريس

خلود الواكد

هنا، لا شيء يتحرك، حتى المنديل الورقيّ لا يجدُ نسمة تحركُه، أو ضوء شمعةٍ ينفذ منه، هناك عالمٌ صاخبٌ، أضواءٌ تحوّل اللّيل لِنهار، إنّ الحياة هناك كنهرٍ لا ينضب، ورائحة الحكايات فيه طازجة.

خرجتْ إلى الشرفة بعد أن ألقتْ على كتفيْها روبها، وانتعلتْ خفًّا ناعمًا، تنفّستْ بعمق برد الليل وصمته، على أريكة مددتْ جسدها النحيل، الذي استحال إلى وردة فقدتْ لونها بين دفتيْ كتاب، كانتْ جميلة في ذلك الزمن وهي الآن كذلك بطريقة ما. ما زال صوت Edith piaf يأتيها من آلة التسجيل ناعماً شفيفاً كسربِ حمامٍ يحوم في سماءٍ ساعة غروب، non, jene regrette rien  الأغنية التي لا تملّها ابداً، تسافر بها كحلم.

عيناها العسليّتان النّاعستان كانتا ساهمتين، عادتْ مسافرةً إلى الماضي، تعيش الحاضر مغمورةً بالحنين، تنفقُ أحلامها في عذاباتٍ لا شفاء منها، تحاول أن تصل إلى الذكرى التي تريد، لم تكن ذكرياتها مختلطة، فهي تخزّنها في ترتيبٍ دقيقٍ على رفوف الوفاء، مع التغلغل في الذاكرة كان صوت Edith يحلق بها كريشة.

في صندوقٍ صغيرٍ عتيقٍ تُخبّأ جزءاً من الحكاية، صور باهتة الألوان، وبطاقات معايدة بتواريخ لا تُذكر، أشباح ورود مجفّفة فقدتْ عطرها. لكنّ صورته رغم تآكلها كانتْ تزداد تجدداً.

كانتْ تصلها منه رسائل كثيرة، حتى أصبحتْ أكثر تباعدًا وبروداً، ثم لم تعدْ تصل، حينها كبرتْ أكثر من أيّ وقت مضى.

كانتْ ترتدي روبها الحريريّ، وتضع العطر الفرنسيّ الذي أهداه لها ذات لقاء باريسيّ، ولم تخنْهُ باستخدام عطر آخر، كانتْ تُرتب شؤونها بحسب توقيت باريس، بفارق عدة ساعات وفصلين وكثير من العمر.

كانتْ الأغاني الفرنسية تتدفق تباعًا من آلة التسجيل، وكان أشباحُ من تستحضرهم يستريحون على آرائك الصالة، وأصوات ضحكاتهم وأحاديثهم  تتقاطع مع صوتِ الأغاني، دخلتْ الى غرفتها بدّلتْ ثيابها بثياب تليق باللقاء، أخرجتْ بذلته التي اشترتها من أجله، عندما أخبرها منذ زمن بعيد أنه سيدعوها إلى الرقص في عيد الفالنتاين، ولم يأتِ، نفضتْ عنها الغبار، علّقتها على المشجب.

 ارتدتْ فستانها الأحمر، سرّحتْ شعرها، دسّتْ فيه وردة جورية حمراء على عجل، تأمّلتْ نفسها طويلاً في المرآة، تلّمستْ بأناملها خطوط تشكّلتْ على جانبيْ عينيْها خلسةً، تناولتْ كُمَّ البذلة، والكُمّ الآخر ألقتْهُ على كتفها، تمايلتْ في الصالة، رقصتْ، دارتْ حول نفسِها، قدمّتْ خطوة، أخّرتْ أخرى، والموسيقى تأخذُها إلى ذلك اللقاء الذي لم يكتمل، وأطياف الحاضرين تصفّقُ من حولها، والعطر يُداعب ذاكرتها الحزينة، ويسرقها من هنا إلى هناك.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *