“أُفُقَان مَرَّا من هنا”

(ثقافات)

“أُفُقَان مَرَّا من هنا”  

 بقلم/ مؤمن سمير. مصر

هوية اللغة الشعرية.. هوية كونية

كل شاعر حقيقي هو مشروع متفرد، شِعري وفني وجمالي ولكل مشروع توجُّه أو شفرة أو نسيج خاص، هذا الوعي الذي يصنع نتاجاً بعينه، له مبنى وعلاقات وتراكيب ومجازات واشتقاقات وألعاب لغوية بالذات، ومعنى إنساني كبير يسعى لأن يشتبك معه بالسؤال أو الاندماج أو الرفض الخ، جماع كل هذا هو الهوية الشعرية التي تدخل في تغذيتها الثقافة والجغرافيا وأحداث السيرة الذاتية ومدى قدرة الخيال على الخلق وحدود اتساع الرؤية وانفتاح البصيرة.. وشئنا أو أبينا يحدث التأثير والتأثر بين الهويات الفنية المختلفة ويجري التلاقح اللغوي والشعري بين التجارب والمشاريع حيث لم يعد المكان ولا الزمان عائقاً معتبراً بعد ثورة الاتصالات والقفزات التقنية والتكنولوجية التي تلهث حولنا.. وأظن أن تأثراتنا كشرق بالغرب، كان يصنعه الاستعمار الوطني الصريح لبلادنا حيث تملأ ثقافة المستعمر الآفاق وتنسرب إلى الوعي سواء ببطءٍ أو بغلظة.. أما الآن فنستطيع بمعنى ما، أن نتعامل مع كوكب واحد يجمعنا ويتجه كل لحظة إلى أن يصير بلا حواجز تقليدية تمنع الاجتماع البشري وبالأحرى اجتماع الثقافات والالتقاء بالتجارب الأحدث والقبض على التنوع المعرفي والجمالي الفني وتعاطيه.. هل تأثرت لغتنا الشعرية الشرقية بفلسفات الحداثة وما بعدها وهل صارت أكثر قدرة على التجريب وأكثر جرأة في طرح اقتراحات شعرية متجاوزة؟ بالطبع.. وصارت موجاتنا ودوراتنا الطليعية محل قبول ونظر ودراسة من حيث الإضافات الفنية أو الولوج لمنتج الأجيال التي كانت تعي فرض الإضافة على منجز السابقين وتجاوز الآباء طول الوقت.. وفي إطار التلاقح الانساني، الفكري والفني، والتماهي والسعي للتضاد وما سوى ذلك من أطر العلاقات، فإن الآخر الغربي تأثر ويتأثر هو الآخر بتجاربنا ولغتنا الشعرية وخصوصيتها وتفردها..

الكلمة ثم الكلمة:            

كنتُ دائماً وأنا أقرأ أتأنى لأقبض السر وألمح الكلمات وهي تحلِّق وكذلك ألوان اللوحة وبلاغتها وهي تحلِّق والنقوش الغائرة في المجسمات وهي تحلق الخ.. كل ما تتوسل به قريحة الانسان لتوصل المعنى والفلسفة و الفكرة، كنتُ أوقن بروحي وعقلي أنه حر طليق يقتحم الأفهام ويدلف إلى ما تحت الجلود.. وكلما تعقدت وسائل التوصيل كان الإيمان بدور الكلمة المقروءة أو المهموسة أو المنظورة يخفت في مقابل الجبروت والغلظة والثقل وكأنها تتزيا بزي شاعري وحالم وبعيد عن الواقعي الجارح المهيمن الذي قد لا يفضل أنه تشاركه قيمة أخرى في فضاءه كدأب كل قاسٍ وأناني.. لكنَّ تاريخنا مع وسائلنا الطيبة الأصدق التي تشبهنا في إنسانيتنا الحقة، يحمينا، ويضمن احتفاظ جدران أرواحنا بذكريات النبل والتأثير الأعمق.. سوف تظل الكلمةُ يماماً ناعماً وقنابل وانفجارات وبراكين في الآن ذاته، كم جمَّعت شعوباً وقبائل وكم فرَّقتهم شيعاً وكم رسمت خرائط للمحبين وكم سطَّرت خططاً للقتل.. لا يستطيع أحد أن ينكر أزمة نشر الكتاب الورقي من جهة صعوبات إنتاج المنتج ككل ولكنَّ وسائل التواصل الحديثة تكفَّلت بالتوزيع وتحقيق الانتشار ولفتت الانتباه بشدة للآليات الالكترونية والصوتيات في خلق واقع جديد ومتطور تصل فيه الكلمة مهما كانت المعوقات المادية والسياسية.. حتى وقتنا الحالي تنطلق المظاهرة الشعبية وترفع كلماتٍ فتجد شعوباً بأكملها ترددها وتفتح بها آفاقاً تخصُّ واقعها هي.. ربما الخطر الأعمق على الكلمة في ظل هذا التجبر الأغبى ومحاولته الدائبة لإيصالها إلى التواري والانكفاء والتنازل عن مساحاتها التاريخية في الوعي، هو نقص الإيمان بقدراتها النورانية على الفاعلية وكونها دائماً وأبداً واحدة من أهم آليات وأدوات النضال البشرى التي قد لا يصيبها البلى إلا من روح اليأس والإحباط.. إنها تطور أدواتها طول الوقت، إنها ممسوسة دائماً وأبداً بكونها من روح الإله، فلا تركنوا أبداً لسرطانات الخوف والإحباط من واقعنا المهزوم والمحبط والمرير، تأبطوا الكلمة وسيروا أيها الأخوة..

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *