-
أمير تاج السر
في حوار افتراضي، أجري معي مؤخرا، بعد أن تحولت الحوارات الافتراضية عبر الإنترنت بعد العزلة القسرية، وصعوبة السفر والقوانين التي نشطت للحد من انتشار الفيروس اللعين، كورونا، إلى مادة دائمة ومنتشرة، سألني أحد الشباب:
متى يحصل الكاتب على حقوقه المادية من جراء نشر كتبه؟ وهل هي حقوق مجزية؟
السؤال طبعا محترم، ومشروع مع وجود مادة تنتج بجهد كبير، ومتلقف لتلك المادة، يروج لها ويبيعها، غاضا الطرف عن المنتج الأصلي لها، أردت أن أخبر الشاب بأن ذلك موضوع كبير يحتاج الخوض فيه إلى برود كبير، وقمع لنشاط الغضب في النفس، وأدوات أخرى كثيرة، لكنني فضلت أن لا أجيب في وقت السؤال، وآثرت أن أفكر في رحلتي الطويلة مع الكتابة والنشر، وهل كان الكوب مملوءا، أم فارغا، أم نصف مملوء ونصف فارغ؟
في الماضي كان عدد دور النشر قليلا جدا، ثمة دور نشر في القاهرة وبيروت وبغداد، وغيرها من المدن العربية، بعضها أهلي وبعضها تملكه الدولة وتقدم من خلاله سلاسل شبه مجانية دعما للقراءة، وأغلب من كانوا يحررون تلك السلاسل، هم في الأصل أدباء جربوا الطحن المعنوي، حين كانت كتبهم تباع هنا وهناك ولا عائد كبيرا كان أو صغيرا، في زمن كانت القراءة فيه هي السلوى الوحيدة، ووسيلة الترفيه التي يسهل الحصول عليها، بعكس السينما والمسرح، وكرة القدم، التي كانت كلها وسائل ترفيه، لكن الوصول إلى أماكنها يتطلب جهدا ومالا أكثر.
الذين كانت أسماؤهم موجودة في قوائم دور النشر آنذاك، مبدعون لم يعبروا هكذا مصادفة، إنما تمت غربلتهم، وأقنع أسلوبهم مالكي دور النشر، ومن ثم نشروا لهم واستمروا ينشرون لهم، وما زالت بعض دور النشر الموروثة في العائلات، تنشر لأولئك حتى بعد أن رحلوا، وذابت العقود التي وقعوها، وستستمر المسألة ما دام يوجد كتاب مصفوف، وحبر، وماكينات، ولا أحد يسأل عن حقوق، وإن سأل، لا جواب.
أنا درت بمخطوط روايتي الأولى على أولئك الناشرين المعدودين في مصر آنذاك، دخلت مكاتبهم، وحدثتهم عن الرواية، وكنت في ذلك الوقت صغيرا وطموحا، وعندي يقين بأنني قد أكون أنجزت شيئا مختلفا، تماما مثل اليقين الذي يملكه الشباب المبتدئون هذه الأيام، وعاديا جدا أن تجد شابا لم ينشر كتابا بعد، اسمه ياسوناري كواباتا العربي، أو يوسا الجديد، أو ماركيز الزمن الافريقي، وقرأت مرة نصا بدائيا جدا، لواحد سمى نفسه بول مندو الرواية، على الرغم من أن جان بول بولمندو كان ممثلا فرنسيا لا علاقة له بالرواية من قريب أو بعيد.
أنا لم أنشغل بأي لقب ولا كنت مقتنعا بأن حمل الكاتب حتى لو كان مبدعا لاسم كاتب آخر، تميزا، إنه ذوبان في شخص كاتب ما، وأمنية غير جديرة بالنهوض بها، أن يصبح مثله، صحيح أنني كنت أحب غابرييل غارسيا ماركيز، أحب خياله غير المحدود، وقدرته على بث الدهشة في أوصالي وأنا أقرأه، حتى في المقالات العادية، لكن في النهاية سعيت لامتلاك خيالي وحدي، ومحاولة إنضاج تجربتي، من دون أن أحس بأنها مهمة، أو سيسعى أحد للتفاعل معها.
إذن للذي يريد أن يستمر كاتبا، عليه أن يصمد في وجه شح المصادر المالية، عليه أن يتمسك بمهنته حتى لو كانت مهنة بسيطة، وتأتي بعائد بسيط، إنها في النهاية هي الحقوق التي سيحصل عليها آخر كل شهر. إنها النصف الممتلئ من الكوب الذي عليه التمسك بمنظره.