لا أظنّ أن هيدغر لاذ بكوخ في الغابة السوداء إلا بتأثير من نيتشه، الذي طالما ردّد بقوة أن الفلسفة هي المشي في الثلوج على قمم الجبال. نيتشه المعروف بعزلته الضارية في غابات شمال إيطاليا، في تخوم جبال الألب المرعبة، حيث أنجز معظم كتبه المريبة.
عندما يتحدث هيدغر عن الغابة، كما في نصه (وحدها الغابة)، إنما يعيد تشكيل صدى ما كتبه نيتشه سابقاً عن التماهي الأنطولوجي بين ذاته القلقة على نحو عاصف وبين العزلة الوحشية في الغابة والمشي على جرف الهاوية لجبال شاهقة تطل من كتف الحياة على القرار المفزع للأودية والسفوح الغائرة
الغابة الحاضرة
في كتابتهما معاً (هيدغر ونيتشه) تتحول الغابة إلى مصدر غامض وعتيد لإنتاج المعنى وصوغ الفكرة الخالصة. الغابة الخفية في مطبخ هذه الكتابة، هي ما يمنح الخطاب صلابته الشبيهة بصلابة أشجار التنوب الواقفة في وجه الرياح والعواصف وعنف الشتاءات القوطية. هي ما يمنح الكتابة نفسها كثافتها المتشعبة. وهي ما يدس في جهات النص المظلمة ثلج الأعالي، وكوابيس الهاوية معاً.
إن الغابة هنا تتراجع إلى الخلف كسرّ من أسرار الخلق، لا تفصح عن نفسها كموضوع أو كأفق جمالي في الكتاب، إنها واقفة في كواليس الخطاب، لا تتلصص على ما يصخب أو يهسهس فيه، بل تنتصب في خفاء كمرآة شيطانية يرتهن إليها وجود الكلمات. تنتصب هناك كحلم يرتهن إليه إيقاع اللغة وهذيان الفكرة. تنتصب هناك كعاصفة مريبة يرتهن إليها نديف المعاني.
وإن غادرت الغابة هذه الخلفية الشبحية لمطبخ الكتابة في نصوص هؤلاء، فإنما لتأخذ شكل النص الذي يحاول أن يتماهى مع أطيافها وصورها وتخييلها.
وغير ذلك، فالقيمة الجمالية التي تتقدم هذه الأعمال، تجد مسوغاً مريباً لها خارج ذاتها، خارج منجزها الفكري والأدبي، خارج ما يتحقق في نصيتها، إذ ترتهن الصورة مسبقاً إلى طقس العزلة. العزلة في الغابة هي الفكرة المريبة التي تسبق العمل والكتاب، الفكرة التي تفتن القارئ، وتضفي أو تسبغ على العمل والكتاب معنى غرابة ما ذات مهابة وإجلال. إنها الفكرة التي تخص الكاتب كشخص غريب، قبل أن تخص الكتابة فيما بعد. الكاتب وملاذه أو أسلوب عيشه. اختياره العجيب وإصراره على نمط وجود مختلف ومدهش. وبالنظر إلى ذلك، فالغابة هنا كملاذ أثير للعزلة، عزلة الكاتب بالذات، ترسم أفقاً بكراً عند القارئ، غاوياً وساحراً، قبل أن يكتشف ما ستثمره العزلة من أعمال، قبل أن يكتشف أفق النص. هكذا يتشابك أفق الغابة بأفق النص، إلى درجة يصعب معها الفصل بينهما.
(حيوانات خفية تركض في هذه الأعمال. طيور خرافية تحلق في سماء خطابها. هسيس ثلج يندف في الهواء بين الكلمة والكلمة أو هسيس خريف تؤثث أوراق أشجاره المتساقطة الممرات المهملة في ظلال الرؤية. شتاءاتٌ تهلوس في وحدة لياليها، في سواد تخومها. نباتات تزحف في البياضات والمسافات التي تفخخ مساحاتها. عواء سمفوني يتردد صداه في سهوبها وأحراجها. دم وحشي يضرج كيمياء لونها. رعب أزلي يخضب طرقها وشعابها. وأما إيقاعها فهو من إيقاع الصمت الدامغ، وأما موسيقاها فمن هذيان الرياح…).
الغابة الغائبة
بالمقابل، هناك كُتّاب لم يطؤوا غابة في حياتهم، ولا عاشوا تجربة العزلة وطقسها في برية أو على جرف حافة شاهقة، أو في صرود جبال سامقة. كُتّاب لم يعرفوا الغابة حقيقية إلا فيما ندر، لكن أعمالهم تتماهى مع روح الغابة. هذا لأن الغابة تعيش في داخلهم دون أن يعوا ذلك. هذا لأن الغابة تسكن مخيلتهم دون أن يدركوا ذلك، هذا لأن الغابة اللامرئية متشعبة في كل ذرة من ذرات كينونتهم دون أن يفطنوا للأمر، والأمر تكشفه أعمالهم التي يتطابق شكلها مع متاهة الغابة. العزلة إذاً في غابة كملاذ لا تعني دائماً الهروب والتوحد في أدغال الأشجار المتناسلة والمتفاقمة على نحو كلي يحجب الرؤية والمدى. لا تعني العزلة في الغابة هذا التوغل والاختفاء في عمق تخوم المتاهة النباتية، كما هي معروفة في الجغرافيا. الغابة أيضاً مجاز شرس، يمكن أن تسكن في الداخل، أن تستشري بمجمل أنطولوجيا أشجارها في مناطق مجهولة في ذات الكاتب، يحملها معه أنى حل وارتحل. إنه منعزل في غابة تنمو بلا انتهاء في أغواره، لا سبيل للحدّ من زحف امتدادها وتغولها. تبتلعه تماماً وتفصله عن العالم الخارجي مهما كان محشوراً في زحام الكثافات البشرية الصاخبة، وفي صحبة أو جوار الكائنات الاجتماعية.
الغابة نصاً
نادرة هي الأعمال التي صاغت شكلها وفق متاهة الغابة، ونادرة هي النصوص التي وافق تخييل كتابتها تخييل الغابة. (سواء تلك التي احتكمت تصاريف حبكتها إلى مناخات بوليسية على نحو ملغز أو مرعب، أو تلك التي هندست حكاياتها وفق معمار ديدالوسي مضلل، وهو الأمر الذي ألمح إليه كتاب قديرون من طراز جيل دولوز وأمبرتو إيكو).
وأما الغابة في السرد العربي، والكتابة العربية عموماً، فغائبة حدّ العدم على نحو حزين ومخجل وفادح. (مع استثناء أكيد، كحالة سليم بركات مثلاً): الغابة المفكر فيها كشكل للنص، كقيمة وكمعنى من جهة، أو كموضوع وفضاء وخلفية من جهة ثانية، فضلاً عن ندرة حالة الكاتب العربي المنذور لعزلة ما، وهو ينجز عمله، إذ قلما نسمع أو نقرأ عن مؤلف اختلى في غابة (أو عاش فيها) وكتب نصاً أو أكثر في تخومها أو على حافة من قمم جبالها، أو على ضفة من ضفاف أنهارها الوحشية… الخ.
وإن وُجد هذا الكاتب، ووُجدت هذه الكتابة، فالنقد العربي أعمى بالتأكيد، منصرف إلى شؤون شائعة، تخندق نظره في حدود ضيقة، بعيداً عن هذه المنطقة المنسية، اللامألوفة، والغريبة تماماً.
ومع ذلك، فثمة غابات رمزية منسية في تراث الأدب العربي، ذات اشتباكات ومدارات عنيفة، تكشف عن تضاعيف متاهيتها حتى في بعض المعاجم والقواميس.
…
وغير ذلك، هناك كتاب نذروا حياتهم للغابة، كمنفى أبدي، ولم يغادروها، بل عاشوا فيها حتى الموت، لم يختاروا الغابة كطقس مؤقت للكتابة، بل كخيار وجودي دائم. أن يتناسخ جسد الكاتب في جسد الغابة، فيما يشبه حلولاً صوفياً، ليس غرضه هو إنجاز عمل فني، بقدر ما هو ضرورة أنطولوجية. هؤلاء الكتاب الأحقاق بروح الغابة، تتكلم الغابة من داخل نصوصهم. تتكلم الغابة عبر كلماتهم. تتكلم الغابة عبر مخيلتهم.
وأما كلام الغابة الآخر، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الصمت الأبدي، فهو المنذور لكتاب انقطعوا عن الكتابة، ونشر النصوص. أعطوا ظهورهم للشهرة وزيف البهرجة وواجهة الضوء، ويمموا بوجوههم شطر الغابة بجسارة. لاذوا بها في غموض على نحو سرمدي، واختفوا دون أن يتركوا أي أثر.
صمت الغابة وحده يحكي عن أثرهم المبهم. صمت الغابة وحده يحكي عن كتابتهم الأخرى. صمت الغابة وحده يحكي عن مصيرهم المريب.
حاشية
الغابة لا تعني دائماً، هذا الوجود النباتي العظيم، هذا الزخم المدهش لأمازونية الشجر المتشابك في غرابة وافتتان ورعب داخل مساحات خاصة من العالم.
الغابة يمكن أن تكون شجرة واحدة عزلاء، في خلاء أو بجوار بيت. ليست هي الشجرة التي تخفي الغابة، بل الشجرة التي تضمرها. هكذا يكون السكن قريباً من شجرة عزلاء بجوار البيت سكناً مجازياً بجوار غابة، أو في داخل أدغالها بالأحرى. هذا السكن المتخيل لا يمكن أن يمر إلا عبر اكتشاف تلك الغابة التي تسكن الشجرة كما هو ملمع إليه، وبدل أن يخرج الواحد من بيته ويسلّم على الشجرة، أو يصادفها في برية لوحدها، عليه أن يسلم في الواقع على الغابة. أن يقول: سلاماً أيتها الغابة، بدل أن يقول: سلاماً أيتها الشجرة.
في كل شجرة عزلاء تأوي غابة، تتكلم وتنبس بمجمل أصواتها ووحيشها، وهذا ما لا ينتبه إليه أحد سوى كاتب أو فنان.
أما هؤلاء الذين تعقبتهم روح الغابة إلى شققهم، وتطابقت منازلهم مع روح الغابة، فليس لأنهم استطاعوا استدراجها أو الظفر باصطحابها إلى المسكن، بل لأنهم تحولوا إلى أشجار بالفعل دون أن يدركوا ذلك، والأمر شبيه برؤيا فيلسوف الطاوية، شوانج تسو: «ذات مرة حلمت، أنا شوانج تسو، بأنني كنت فراشة، وكنت سعيداً باعتباري فراشة، وكنت أعي أنني مسرور تماماً بنفسي، ولكنني لم أكن أعرف أنني تسو. وفجأة استيقظت، وهنالك عرفت بجلاء أنني تسو. ولم أدر ما إذا كان تسو يحلم بأنه فراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تسو».
الرؤيا نفسها التي تحولت في قصة (مغناة شجرة الحور) لهارولد كونتي: «هذا الرجل الذي بدا مُسنّاً كشجرة الحور المسنة، جلس أسفل الشجرة وأسند ظهره إلى جذعها، ثم نام على الفور، وحلم أنه كان، هو نفسه، شجرة».
الذين سكنتهم الغابة
أما هؤلاء الذين تعقبتهم روح الغابة إلى شققهم، وتطابقت منازلهم مع روح الغابة، فليس لأنهم استطاعوا استدراجها أو الظفر باصطحابها إلى المسكن، بل لأنهم تحولوا إلى أشجار بالفعل دون أن يدركوا ذلك، والأمر شبيه برؤيا فيلسوف الطاوية، شوانج تسو: «ذات مرة حلمت، أنا شـوانج تسـو، بأنني كنت فراشة، وكنت سعيداً باعتباري فراشة، وكنت أعي أنني مسرور تماماً بنفسي، ولكنني لم أكن أعرف أنني تسو. وفجأة استيقظت، وهنالك عرفت بجلاء أنني تسو، ولم أدر ما إذا كان تسو يحلم بأنه فراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تسو».
العرب لا غابة لهم
الغابة في السرد العربي، والكتابة العربية عموماً، غائبة حدّ العدم على نحو حزين ومخجل وفادح. (مع استثناء أكيد، كحالة سليم بركات مثلاً): الغابة المفكر فيها كشكل للنص، كقيمة وكمعنى من جهة، أو كموضوع وفضاء وخلفية من جهة ثانية، فضلاً عن ندرة حالة الكاتب العربي المنذور لعزلة ما، وهو ينجز عمله، إذ قلما نسمع أو نقرأ عن مؤلف اختلى في غابة (أو عاش فيها) وكتب نصاً أو أكثر في تخومها أو على حافة من قمم جبالها، أو على ضفة من ضفاف أنهارها الوحشية… الخ
وإن وُجد هذا الكاتب، ووُجدت هذه الكتابة، فالنقد العربي أعمى بالتأكيد، منصرف إلى شؤون شائعة، تخندق نظره في حدود ضيقة، بعيداً عن هذه المنطقة المنسية، اللامألوفة، والغريبة تماماً.
ومع ذلك، فثمة غابات رمزية منسية في تراث الأدب العربي، ذات اشتباكات ومدارات عنيفة، تكشف عن تضاعيف متاهيتها حتى في بعض المعاجم والقواميس.