السرد العربي ورواية بعد ما بعد الحداثة “طفل الثامنة والتسعين نصراني” لهاني الصلوي

(ثقافات) 

السرد العربي … ورواية بعد ما بعد الحداثة

” طفل الثامنة والتسعين نصراني ” لهاني الصلوي.

إسراء فهيم

*شاعرة وكاتبة جزائرية

 

         تأتي رواية طفل الثامنة و التسعين نصراني،للكاتب والروائي اليمني هاني الصلوي ، الصادرة في جزئين بما مجموعه سبعمئة وعشرين صفحة ، في شكل رواية مركبة تتداخل فيها أكثر من سبع روايات ، تتحرك داخل أكثر من قرن  من الزمن المتداخل بأمكنة متعددة؛ تعز مسقط رأس أحمد الزمكيري أو النصراني / بطل الرواية / ،القاهرة ،الإسكندرية، موسكو، وغيرها من المدن و الأمكنة منطلقة من و إلى عدن ،المدينة الكوزموبليتانية مسرحا لأحداثها، مبحرة في التضاريس و الهلامات الزمنية  .

         تأخذ بنية طفل الثامنة و التسعين نصرانيشكل المخطوط الخاضع للتحقيق الدائم، يروي سيرة مناضل أممي ذي أصول يمنية، كان له الفضل في إدخال الشيوعية إلى اليمن، وشرق و شمال إفريفيا، الذي سيأخذ شكل المطبوع ، بعدما أفصحت هيكلة الرواية عن رواية أساسية  باسم  سرور البينيان ،منسوبة إلى روائي يدعى باسم عبد القيوم ، وقد طبعت منها طبعتان، حتى وصلت إلى يد مؤرخ شهير يدعى وليد عبد الباسط حنبلة، قرر أن يقوم بتحقيقها و تعديل اسمها إلى أحمد النصراني ،و هو ما تم فعلا، حيث طبع منها بعد التغيير طبعتين 2007 و 2013   .

 لا تشبه الرواية نموذجا مسبقا، كما أن نموذج الناقد في الرواية يبدو واضحا أشد الوضوح ، من خلال شخصية وليد عبد الباسط حنبلة الشخصية الإشكالية ، يتداخل فيها الناقد بالمؤرخ، و القارئ بالسارد ، وإن كان المؤرخ حاول  أن ينفي عن نفسه صفة السارد في البداية، مدعيا العلمية / المحاججة :

       رغم شروعي تراجعي بالنفـي دونَ تقديم ثبتٍ توكيديٍّ بكنيتي أو لقبي أو مُسَمَّايَ وعائلتي! وهل  ـ مخطئًا ـ أحاججُ حَوْلَ وجودِ علاقة وسببٍ وغرض ما ذي علاقة بالصيغ التنظيمية المعروفة حزبيًا و مدنيَّا؟!

      ستجدون ما يرجِّح مزاعمي كلما توغلتم في العملتوغَّلَّ فيكم/نا!؛ على أنَّ اندفاعي هنا غيرُ منوطٍ بمهة خسيسة شبيهة بما يمارسُ الرواة العليمون فيفسدون ـــــ بها ـــــــ الأعمال الأدبية العظيمة علينا؛ جازّينَ أصلابها من منابتها! لعنهم الله!؛ مارســوا التعالم مع سردياتنا الكلاسيكية العظمى وما تلاهـا. ويعبثون بكـل جديد حتى اللحــظة ِمن هطولات/ مسارات الإنسانيةات. ” لا مسارات برضُه“. علاوة على احتمالية رجوعِ مـا أمامنا صميميًا ِ إلى نمط كتابةٍ تاريخــي!.

مقرا باحتمالية رجوع المخطوط إلى نمط  كتابة تاريخي ، سيستمر بالتدخل في النص مصححا حينا ،و معدلا أحيانا أخرى ، محولا الهامش إلى متن، نافيا عن نفسه سوء النية ، ثم لا يلبث أن سيستولي على السرد مع سبق إصرار وترصد ،متراجعا عن تقهقره في الرواية التي سيفصح عنها المطبوع أحمد النصراني ،مستوليا بذلك على النص / الرواية ،بعد أن أثبت أنه سارد حقيقي، حسب تعبير باسم كاتب الرواية، الذي سيقرر الإبقاء على روايته / تقهقر عن التقهقر / ، و كأنه يضعنا في مواجهة مباشرة مع سؤال صادم و مربك :هل المؤرخ  مجرد سارد أم العكس؟! فكما أن المؤرخ يستند في عمله الى حقائق علمية و تاريخية ، يضيف إليها بعض السرد من أجل أن يصف الحدث ، ما يعرف بالحوار بين الماضي و الحاضر، كذلك   قد يُضمن السارد ما يكتبه بعض الحقائق العلمية  و التاريخية.

و ربما كانت هذه الأسئلة  و غيرها مما حوته جعبة النصراني، ما يعول عليه الكاتب على لسان إحدى الشخصيات  في الرواية ،بل و يراهن أنها ستتغير لأجلها وبها ثوابت التاريخ العربي الحديث، وعلى وجه الخصوص التاريخ الشيوعي في المنطقة العربية و الرأسمالي؛ ليواصل الناقد بذلك ممارسة نزقه على النص ،مزدريا النظريات التي ارتكزت عليها ـ ما بعد الحداثة ـ ومعلنا تمرده عليها: ماله رولان بارت .. ردد مقولة موت المؤلف .. موت الأدب ! و بعدين ؟  قتلته المقولة ؟  اختبأ له المؤلف خلف جدار المدرسة  ثم  دهسه بشاحنته !!

؛معترفا و هو الناقد صاحب السلطة الوحيدة  ربما على النص  في ظل تلك النظريات،  بعدم جدواها ،و عجزها  أمام عجلة الإبداع التي لا تتوقف، و إن كان النقد يسبقها أحيانا، إلا أنه  لا ينكر أن الكتابة و الإبداع بشكل عام سبب وجوده ، مؤكدا بذلك على أهمية القيم  الروحية، و الأخلاقية في إنتاج المعنى ، لتجاوز المرحلة أو ورطة ما بعد الحداثة، و تجنب السقوط في منحدر العدمية، التي تنبأ بها نيتشه من قبل ، عندما و قف منذ ما يقارب 136 عاما معلنا عن موت الإله ؛ ومن بعده سيفاجئ رولان بارت العالم في ستينيات القرن الماضي، بمقولته الشهيرة موت المؤلف، التي أثارت  وما زالت تثير الجدل  الى يومنا هذا ،و أسالت الكثير من الحبر، بين مؤيد و معارض، جدل تعيدنا إليه هذه المرة ثيمة الرواية المخطوط  قيد المراجعة  و التثبت  الدائم/ ،  الذي كتبه أحد تلامذة أحمد الزمكيري ، يدعى عبد الخالق عبد القيوم ، لقي حتفه في حادث انقلاب سيارة جيب، كما أنه شقيق المؤلف باسم الذي سيظل يدعوه خالقا، و تؤكده بنية الروايات المركبة لرواية طفل الثامنة والتسعين نصراني، كما لو أن الكاتب أراد بها الحداثة نفسها في مراحل تطورها، ما دمنا أمام عمل سردي / تجريبي / إن جاز التعبير ، يصر منذ البداية على تجاوزه لمرحلة ما بعد الحداثة ـ التي ما فتأت تغرق في الفوضى و اللامعنى ،في غياب الإله ،والقيم ،مرحلة لا ترى في الانسان غير مجموعة من الدوافع المادية و الجنسية، ما يجعله لا يختلف في سلوكه عن سلوك الحيوان ،/ ما تجسده  الرواية في تلك العلاقة الملتبسة ، بين صديق الشاعر اليوناني كفافيس،و معلمة النصراني مترجمة كتاب الرأسمالية،التي ستسردها عليه لاحقا / ، لكن الطفل سرعان ما سيصح شابا ،مشبعا بقيم التسامح التي تشربها من نشأته بين أسرة مسيحية إنجليزية مقيمة في مدينة عدن ، و أخرى عربية مسلمة تقيم القرية ،أين سينفتح على حياة الريف بكل ما فيها من زخم اجتماعي ،و ثقافي ، و تاريخي ، يقع في حب جارته فرحة اليهودية ،يتزوجها متحديا كل الظروف ، و يبقى وفيا لهذا الحب حتى بعد وفاتها /، محاولا رسم شكله الخاص وإرساء قيمه ـ البعد ما بعد حداثية ـ ، معلنا ارتباطه بالإنسان والمكـان ، و الهوية ،و التاريخ  ، و الأخلاق ، و الفضيلة مستلهما منها؛

            كما أن شخصية الناقد ليست الإشكالية الوحيدة في الرواية ،هناك  أيضا  حسن الظن و سوء الفهم اللتان لا تقل تعقيدا ، اذ ستطفو  في كل مرة إحداهما على السطح  السردي مدلية برأيها ، ومع ذلك  تبدوان أقرب إلى  حالتي تأمل للنص منهما شخصيتين، كما توحي به التسمية التي أطلقها عليهما الكاتب ، لتختفيا أخيرا في الجزء الثاني من الرواية مندمجتين بشخصيات أخرى.

ولفهم هاتين الشخصيتين أو الحالتين كان لزاما أن نتتبع مسارهما منذ البداية، الذي لن يكون  له كبير الأثر على المنحى الدرامي للحكاية ،و لا على البنية الفنية للرواية ، ما يؤكد احتمالية أن حسن الظن وسوء الفهم ليسا سوى نموذجين  لقارئ بسيط ، يتفهم النص على ظاهره ،كما كتبه المؤلف ،حسب وعيه و ثقافته و انتمائه الديني و السياسي، وقارئ  محترف  يقرأ النص قراءة مجازية ، يفككه و يؤوله ،باحثا عن المعنى الذي أراده الكاتب، مغلقا بذلك سلسلة  لا تكتمل حلقاتها إلا بوجود المؤلف.

إشكالية أخرى تقوض النظريات النقدية ،و الأسس التي ارتكزت عليها مابعد الحداثة ، في رواية أرادها عيسى طربوش تقدمية ، بينما يصر باسم على أن يجعل منها رواية ـ بعد ما بعد حداثية ،وقد  زجّ الصلوي  فيها  بالمؤلف والناقد و المؤرخ و عبيررفيقة الكاتب وشريكته، الذين سيتصارعون فيما بينهم للاستيلاء على الرواية / النص، بعد أن أخذت شكلها الأخير في غياب مبدعها الأول  المغتــــال و المدعوخالقا، بعد أن عاثوا فيها فسادا من خلال تلك الهوامش ،التي لا تعبر سوى عن الفكر الخاص لمجترحيها، و ثقافتهم و انتماءاتهم الشخصية ،بعيدا عن الحقيقة، التي كتبها خالق المؤلف ،  حتى عبير التي رفضت في البداية أن يذكر الكاتب اسمها.

 الفعل الذي يدينه الكاتب هذه المرة على لسان باسم ، أول من  عهد إليه عمر عيسى طربوش بمراجعة الرواية ، لكنه اكتشف في نفسه روائيا ، ومع ذلك يأتيه هو أيضا ،في محاولة منه للاستيلاء على الرواية ، بعد أن يغافل المؤرخ ،/مؤكدا مرة أخرى أن مبدأ الهدم و التفكيك اللانهائي للنص، الذي انتهجته ما بعد الحداثة ، يجعل منه نصا مفتوح المعنى ،يمكن لكل مشتغل عليه تأويله و فق رؤيته الخاصة / معترفا لرفيقته عبير أنه استلهم الطريقة التي استولى بها على الرواية ، من النهج الذي يتبعه المؤرخ ،في تحقيق حادثة ما، وذلك بالنظر في عدة روايات ،والأخذ بأقربها إلى الحقيقة / هواه. 

 

أخيرا سيختار الكاتب  تسمية رواية علاجيةلرواية عمر عيسى طربوش، معلنا بذلك أن رواية  ـ بعد ما بعد الحداثة ـ جاءت كحتمية لرأب تلك التصدعات في جسد وروح رواية  ما بعد  الحداثة ،لتغافل عبير الجميع  و تستولي على الرواية ، وهي الشخصية الرمز  باعتراف الكاتب هذه المرة، كما يوحي أو يدل عليه اسمها،  فهي المرأة ،و اللغة التي تمثل روح المؤلف ،وكانه  يعيده الى الحياة  مرة أخرى، بمباركة  زينون ”  معلم  الفضيــــــلة و الاخلاق السامية :

  تمثَّلتِ المرأة أهدافًا أسمى من أي هدف!

  ــ لم تكن أرضية؟! سماوية كانت؟!

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:ـ كيف سيكون شكل الرواية الــــ  ـ بعد ما بعد حداثية ـ التي يبشر بها الكاتب و الروائي هاني الصلوي ؟!.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *