في الإلحاد الموضويّ

(ثقافات)

في الإلحاد الموضويّ

د. يوسف الكوفحي

ثلاث آيات فقط، كانت كفيلة أن تدخل عالِم الرياضات الأمريكي “جيفري لانج” الإسلام بكل قوة وثقة، العالِم الذي نشأ وترعرع على فكرة الإلحاد مؤمنا بها ومدافعا عنها، يصف القرآن عندما قرأه لأول مرة بقوله: “شعرت بأنني أمام أستاذ علم نفس يسلط الأشعة على كلّ مشاعري المخبّأة، كنتُ أحاول مناقشة بعض المشاكل فأجده أمامي بالمرصاد، يغوص في أعماقي فيجعلني أتلقّى الحقيقة بصدر رحب”.

وعليه، فإن ما يدفع للدهشة والاستغراب حجم الرّدود والدّروس والخطب والمحاضرات والكتب المنشغلة بتقديم الأدلة والبراهين على تهافت أطروحة الإلحاد والرّدّ على الملاحدة، وكأنها أصبحت موضة وصرعة المفكرين والعلماء ورجال الدين في وقتنا الراهن، ولا ألومهم على ذلك، جزاهم الله خيرا كثيرا، إذ أصبح الإلحاد عند من يُحسبون على طائفة المسلمين بازدياد كبير ومخيف، إلا أنني لا أرى في ما ينتج أولئك الصالحون في ردودهم تلك إلا دفعا لتعنت الملاحدة وكبرهم، ظنا منهم أنهم أصحاب فكر وعلم ومعرفة تقبل الجدل والنقاش والحوار.

ولا أعني بأولئك النَّفر من الملاحدة الغربيين منهم خاصة، وهم على نوعين، منهم من ألحد عن براءة وصدق اتكاء على مرجعيته الدينية الفاسدة أصلا، المرجعية التي تتناقض مع العقل والمنطق والعلم، عدا عن إيمانه بإله يتصف بصفات البشر، أو يُتصور بصورة البشر وأفعالهم، فكان دافعهم الرئيس لذلك هو ما يُعرف بمعضلة الشر.

أمّا النّوع الثاني، فهم الذين ألحدوا بقصد الإفساد في الأرض، لا بقصد الإيمان بمقبولية الفكرة من أصلها، وكلا النوعين لا يعنيانّي في هذا المقال، إنما أعني الملاحدة من المسلمين، ممن نشؤوا وترعرعوا في أسرة مسلمة، وبيئة مسلمة، ومجتمع مسلم، ومنهم من كان يحفظ القرآن، أو بعضا من القرآن، أو ممن كان يختم القرآن قراءة وتلاوة في رمضان، ومنهم من درس العلوم الشرعية وتاريخ الإسلام وغير ذلك.

فأغلب هؤلاء، مع كثير من الثقة والاطمئنان، اتجهوا إلى الإلحاد من أسباب  ليس لها علاقة بالإلحاد بوصفه فكرة ذات مرجعية دينية أو علمية أو فلسفية بالمرة، إنما بوصفه موضة دارجة بين عدد من المثقفين والفلاسفة والمبدعين، وحتى تكتمل لديهم الصورة ويبرزوا باعتبارهم ملاحدةً عتادًا، أخذوا يقرؤون شذرات من الفلسفة العدمية والوجودية ومذهب الشُّكّاك، فيستشهدون بسارتر وهيدجر تارة، وبهيوم ونيتشه وفوكو تارة أخرى، وغيرهم من فلاسفة الإلحاد، باعتبارهم فلاسفة عقلانيين ومتنورين، وهم لا يعرفون من الفلسفة إلا اسمها، ثم يتنقلون بين الروايات العبثية وكتب الميثولوجيا، وتاريخ الأديان، وكتب خزعل الماجدي وفراس السواح وصادق العظم وغيرهم ليظهروا للناس أنهم أصحاب ثقافة وفكر، ثم تجد بعضهم يتحدث عن نظرية التَّطور، والنّشوء والارتقاء، والانتخاب الطبيعي، والتّولد الذّاتي، والأكوان المتعددة، ونظريّة الأوتار في نشأة الحياة والكون، بطريقة الهذربة والهَذْيَنة ولا يكادون يبينون، ليشعر المتلقي أن هذا الملحد الدعيّ قد ألحد عن علم، وأن النظريات العلمية تؤكد الصُّدَفِية في نشأة الوجود.

ولم يكن فعله هذا إلا من باب التزيين والديكور الذي يزين به إلحاده الموضويّ؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه إيمانا مطلقا بأنه مخلوق، وأن ثمة خالقا عظيما لهذا الوجود.

وهكذا، فإن إلحادهم إلحاد غبي، وغبي جدا، والغباء في هذا المقام ليس نقيصة أو شتيمة، لأنه ليس معنى مجردا يمكن نفيه وعدم تعريفه، بل هو معنى محسوس مدرك إدراكا ماديا في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وعليه، فإن الرد على فكرة أولئك هم أصحابها، يقلل من أهمية صدق الدليل الدّاحض لغبائهم، ولفكرة الإلحاد من أصلها، فكيف إذا كانت عند من كان مؤمنا، فكرة تتناقض تناقضا صريحا وجليا مع العلم الطبيعي، والفلسفة والمنطق، والتطور ونظريات نشأة الكون، وعلوم النفس والاجتماع واللغة، وكل الإنتاج المعرفي للبشر يثبت قطعا وحتما أن لهذا الوجود خالقا حكيما وعليما وقويا ورحيما وسميعا وبصيرا، وكل الصفات العلا تتجلى في الخالق سبحانه وتعالى، وأعظم دليل على غباء الإلحاد عند بعض “المسلمين بالهوية”، أن بعضهم يستدل من القرآن على فكرة الإلحاد، فأي غباء وجنون هذا؟! ومما يثبت غباء الملاحدة، وأن إلحادهم ليس نتاج فكر أو عقل أو علم، هو أنني سأعتبر فكرتي الإيمان والإلحاد “لعبة”، أريد أنْ أفوز بها، فمن خلال “نظرية الألعاب” وهي أحدث نظرية رياضية واقتصادية في الكسب، فإن العقل والمنطق الرياضي يحتم عليّ أن أكون مؤمنا، لأن نسبة نجاتي من العذاب في حالة كان ثمّة إله أو لم يكن هي مئة بالمئة، أما الملحد فإن نسبة نجاته هي خمسون بالمئة.

وهذا ربما يدفعني للقول بأن الإلحاد عند من ألحد من “المسلمين بالهوية” جاء غالباً من منطلق شهواني غريزي بحت، لتبرير منكراتهم وفواحشهم لا غير، أو من منطلق نفسيّ مرضيّ واعٍ، أو هو نتاج هلوسات وأمراض نفسيّة وذهنيّة، أو نتاج بيئات فقيرة ومعدمة جعلتهم ناقمين على وجودهم وحياتهم؛ فدفعهم هذا إلى إنكار الله كراهية وحقدا، أو حسدا وبغضا. ومن ثم، فإنهم ليسوا أهلا لنقاش أو جدال أو حِجاج، لا علميّ ولا عقليّ ولا فلسفي.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *