في الثلاثين من العمر

خاص- ثقافات

 

*عبد الله طايا/ ترجمة إبراهيم قيس جركس

أنا خائف.

أنا لستُ خائفاً.

أنا قوي، قويٌ جداً، صلب، وغير قابل للكسر.

كنت مريضاً وضعيفاً في فترة طفولتي، وفي مراهقتي أيضاً. كنتُ مريضاً لكن حياً.

اليوم، في باريس، أنا حيّ، لكنني مريض.

أشعر بالضعف. لم أعُد قادراً على النوم في الليل، لذلك أفكّر بإيزابيل أدجاني، وبصوتها الغنائي. أنا حجلٌ من نفسي، فبعد سنوات طويلة في فرنسا، سبع سنوات بالتمام والكمال، حلّ صوت إيزابيل أجاني في رأسي بدل صوت أمي. كلا، كلا، ليس الأمر أنني قد نسيتها، أمي، كلا، إنّما وببساطة شديدة كل شيء في داخلي مصدره هي، كل ما أنا عليه، وكل شيء فيّ يحمل علامتها، بصمتها الثابتة والدائمة. أشعر بالاختناق.

أنا أمي بصوت إيزابيل أدجاني وهي تدندن أغنية “Pull marine”.

***

لقد مُتُّ من قبل. ثلاث مرات.

المرّة الأولى:

خلال فترة مابعد الظهر في ذلك اليوم الصيفي، في ساليه، بالحي الذي كنت أقطنه، حي السلام، خطف ملاك الموت روحي، لكن لعدّة دقائق فقط. رأيت نفسي من الأعلى، جسد خامل، يغطّ بسلام ومزرَقّ. هل أشفق عليّ، هذا الملاك الأبيض المريع؟ هل ارتكب الله خطأ؟ لقد انتهى بهم الأمر وهم يعيدون روحي البائسة في نهاية تلك الدقائق القليلة أثناء التحدّث عن مصيري أمامي، أيامي وسنواتي التي سأعيشها، إنّهم يناقشون مصيري أمام نفسي ورغماً عنها. ثمّ غادروا مفترقين كلٌ واحدٍ منهم في اتجاه مختلف. فتحتُ عينَي. جميع من في المنزل كانوا يغطّون في قيلولة، باستثناء أبي. كان يجلس مكان أمي، على جانب السرير. كان قد استوعب الأمر، ورأى ما حدث. مَدّ لي يده، أمسكتها، وخرجنا إلى الشارع سويةً، حافيي الأقدام، لنحيط نفسينا بالنور والحياة مرةً أخرى.

المرة الثانية:

كنتُ ألعب لوحدي في نهاية زقاق الحي رقم 15. في نهاية فترة مراهقتي، حيث تخلّى عني جميع أصدقاء طفولتي. ودون أن أدري، لمستُ عمود كهرباء عالي التوتر. شعرت بالكهرباء تزلزل جسدي. ثمّ غبتُ عن الوعي. كان إظلاماً فورياً، حيث مضيت لأبعد من نفسي، وبدون ذاكرة. لكن كم مضى من الوقت؟ لا أعرف. عندما أفَقتُ، وجدتُ جميع سكان الحي متحلّقين حولي (عشرات الأشخاص، حشد) في منزلنا. كانوا يبكون من أجلي. حتى أنّهم كانوا يصرخون وينتحبون من أجلي. ليس عدلاً أن أموت في هذه السن، وأنا بعمر الزهور. استقمتُ فجأةً. صاح رجلٌ من بين الحشد: ((أسرعوا، هيا أسرعوا، اغسلوا رجليه، ويديه، ووجهه بماءٍ ساخن… بسرعة، بسرعة… لكن ليس بالماء البارد… لو سمحتم!)). وصلت سيارة الإسعاف متأخّرةً بعض الشيء. حملني الجيران بحذر وبطء إلى السيارة. نقلوني إلى مستشفى ابن رُشد بالرباط. وكنتُ أشعر بالفخر بأنّني سأدخل إلى أشهر وأهم مستشفى في المغرب. كنتُ سعيداً، لأنّ الناس سيصدّقونني فعلاً هذه المرّة، وسيأخذون جسدي الغريب هذا وأمراضه على محمل الجدّ. شعر الطبيب بالذهول من ضربات قلبي وقوّته، كان رجلاً أبيض البشري، من فاس. أجرى لي تصويراً بالأشعة السينية، ووضع يده على صدري، فوق قلبي، ولفترة طويلة، طويلة جداً، رأى في جسدي شيئاً ما كان يجري بداخلي  لم يسبق لي أن فهمته، لقد فهم جسدي بصورة مختلفة عمّا كنتُ أفهمه أنا، وهذا ما حيّرني فعلاً. رَبّتَ بلطفٍ على خدّي. لاعب شعري، وقبل أن يغادر الغرفة، مال نحوي وهمس في أذني قائلاً: ((بيني وبينك… لديك قلبٌ قوي، قلب ينبض بالحياة… ستعيش لفترة طويلة بابُنَيّ! هيا انهض!)). لقد أنقذني، ومازلت أذكر اسمه جيداً: د.صلاح الهاشمي.

المرة الثالثة:

للابتعاد عن حميدو، الذي كنت أحبّه مع أنّه لم يكن يدري ذلك، وأنساه، ذهبت للمخاطرة بحياتي على الجانب الآخر من الجدار البحري لشاطئ الرباط، جهة الأمواج العاتية وقاسية القلب؟ وقفت فوق صخرة كبيرة وزلقَة. وسرعان ما تلقّفتني موجة هائلة بحلاوة وقسوة لتحملني لعالمٍ آخر بصحبتها. لم أغمض عيناي، كنتُ صاحياً، وخلال رحلتي إلى أعماق المحيط والموت، فهمت، ورأيت.

…لم يكن حميدو يستحقّ كل ما أفعله بنفسي، هذه التضحية، لم يكن يستحق كل ذلك لأدفعه إلى تغيير رأيه بشأني. لم يكن يراني. لم أكن موجوداً بالنسبة له. كان قد أخبرني منذ لحظات: ((لديك بشرة عادية، تفتقد لشيء ما… كم هذا غريب!)). لم تعجبه بشرتي. لم يكن يحبّني. لم أكن أؤمن بحب نفسي. فالحب، كما قرأت في إحدى المرات، قاتل… كنت ما أزال في قلب الموجة. قبل أن تصدمني بالصخور، لم أكن أدري أي نوعٍ من المعجزات هذه، تمسّكت بشيءٍ ما _فَرع أو عشبة ما، على ما أعتقد. أمسكته، تمسّكت به بقوة، وانتظرت حتى تمضي الموجة، ويهدأ سطح الماء. ثمّ خرجت من الماء. كنت على الجدار المائي، أمشي. كان شهر أغسطس. وكان السوق على الشاطئ. وكنت أسير في السوق مُدَمّى، الجروح والكدمات تملأ صدري، يدي، ركبتي، وأنفي. دم أحمر قاني. كان الناس يتوقّفون أمامي وينظرون إليّ. لم أكن خائفاً، لم أكن أظنّ نفسي مثيراً للضحك والسخرية، كنت أريد من حميدو أن يراني على هذه الحال، أردّته أن يشعر بالذعر، أن يشفق عليّ، أن يندم على لامبالاته تجاهي، أن يبكي، أن يتوسّلني لأسامحه على ما ارتكبه من أخطاء بحقي، أن تتحرّك مشاعره، أن يحبّني، وعندئذٍ في تلك اللحظة، وبدلاً من الانتقام منه، سأقول له: ((وداعاً… إلى اللقاء… أنا أنتمي لنفسي أخيراً… سأبقى مع ذاتي… أنا حيٌ رغماً عنك… بك وبدونك… بعيداً عنك…)).

***

قبل سنتين، بباريس، دخل تريستان حياتي. الآن هو في السادس من عمره. شاب صغير. الأمير الصغير. كنتُ أصطحبه من مدرسته أربع مرات يومياً. وكنت آخذه إلى منزله الكبير، كما كان يسمّيه، وهو شقّة ضخمة بالقرب من محطّة بلانش لقطار الأنفاق. كنتُ ألعب معه، وأساعده على إنجاز فروضه المنزلية. كنتُ أحمّمهُ: كان يقف عارياً تماماً أمامي، عارياً دون أن يعي حقيقتي. كنّا نشاهد أفلام الرسوم المتحرّكة سويةً: الملك الأسد، البحث عن نيمو. كنتُ أقصّ عليه في بعض الأحيان قصصاً وحكايات مغربية، عن طفولتي غير السعيدة، كنتُ أعلّمه كلمات باللغة العربية. كنّا نتظاهر بأنّنا نتشاجر، وفي بعض الأحيان كنّا نتشاجر فعلاً. كنّا نبكي، نصرخ، نهزأ من بعضنا البعض، بلطف، وشقاوة. في كل يوم كان يكبر قليلاً، ينمو كزهرة يرعاها الإنسان ويعتني بها، بحب وانتباه. كان يكبر أمام دهشتي، إعجابي، ونظرتي السعيدة نحوه. حتى عندما كان يضايقني، عندما كان يتصرّف كرجل صغير. بقي تريستان الشمس الساطعة بالنسبة إليّ. لكنه كان الشمس الباريسية التي لن تلسع جلدي أبداً.

أردّد دائماً في رأسي ما سيقوله لأصدقائه، أو لأبناءه لاحقاً: ((عندما كنت صغيراً، كان جليسي شاباً مغربياً، وكان اسمه عبد الله)). ثلاث ساعات في اليوم، كنتُ ألعب دوراً جوهرياً في حياته، في صنع مستقبله، وذلك ما يجعلني فخوراً أمام نفسي. أشعر بأنني أنجز مهمّة معه. أرافقه حيثما ذهب.

تريستان ليس ابني. تريستان هو ملاك صغير كان يبكي من دون سبب، كان يبكي بين يدي، وكنتُ أواسيه بحنان، لكنني لم أكن أدري لماذا يبكي. أحسده على براءته، ونظرته الطفولية الساذجة والنقية إلى العالم. لم يكن يعرف. ومازال لا يعرف. الجهل نعمة!

هنالك بعض الحقائق بشأني وبشأن العالم لا أريده أن يعرفها إطلاقاً. أنا أفكّر كثيراً. أُعَقّدُ كل شيء، كل شيء. أفكّر، وأفكّر، كأنّ هناك عنق زجاجة داخل رأسي. أفكار وصور لا أعرف كيف أتعامل معها.

أنا متعبٌ جداً من نفسي، من كوني أنا في هذه الحياة المتسارعة. أتطلّع إلى شيء ما قادم، شيء ما قادم بشكل بطيء جداً. عليّ أن أخطو خطوة إلى الأمام، خطوة أخرى بعد، عليّ أن أجدّد نفسي، أن أجد طاقتي أو أستدعيها. لديّ مخطّطات: جميعهم يقولون لي أنني يجب أن يكون لديّ مخطّطات خاصّة بي لأوجِدَ لنفسي روتيناً يومياً، أي صلة تربط بين المرئي وغير المرئي.

إنّ معنى الحياة، معنى حياتي، يفلت مني.

يبدو الآخرون سعداء. أهُم سعداء حقاً؟ ما الذي يجعلهم سعداء؟ لماذا يعرفون إلى أين يمضون وأنا لا أعرف؟

اسمي عبد الله: عبد، عبدٌ لله. حرّرتُ نفسي من كافة القيود التي كانت تكبّلني في المغرب (أو حقاً ظننتُ ذلك؟). كل ما بقي هو أن أهرب من نفسي.

بحثتُ عن الوحدة. وجدتها، ولكنها لا تحتمل. أنا نفسي دائماً، كما أنا، غير قادرٍ على نسيان هويتي. وعيي بوجودي تضخّم متراكماً مع الزمن. وعي مكروب، متأزّم. أعرف ما الذي يجري بداخلي، داخل قلبي النابض، ينبض بصورة غير منتظمة في بعض الأحيان، طنين مصمّ في أذناي، أشعر بارتفاع حرارة دمي، وأحياناً بانخفاضها، الهواء الذي ينتج موسيقى غريبة أثناء عبوره فتحتي منخري وخروجه منهما، عظامي المفرقعة، وجلدي المتغيّر، الأفكار المتضاربة في رأسي، والصور المتدافعة في عيني، وهويتي الجنسية التي تصرخ برغبتها، دون أن أطيعها أو أشبعها.

خلال الشهور القليلة الماضية، راودتني فكرة أنّني قد أصاب بالجنون في يومٍ ما. ذلك يبدو في منتهى السهولة اليوم، لأتغيّر لحالة ذهنية أخرى وأتناسى القديمة تماماً. لطالما كنتُ أحبّ الأشخاص المجانين في المغرب. يبدو أنّهم كانوا متآلفين مع البلد. هل ظلّوا كذلك ياترى؟

أفكار الموت والجنون تتملّكني.

في شهر يوليو/تموز الماضي، أصبح كلٌ من ديستويفسكي وجيني من كُتّابي المفضّلين مرةً أخرى. إنّهما يتحدّثان معي. كنّا نخاف معاً. وكنّا نمضي في الحياة يداً بيد معاً، معذّبين، وفي بعض الأحيان وحيدين كلٌ يمضي في طريق وحدته الرهيبة واللذيذة. هما لا يسعهما مساعدتي أو تقديم أي شيء لي. أنا مسكونُ بهما.

يجب عليّ تغيير اسمي الأول. كريم؟ أو فريد؟ أو سعيد؟ أو حبيب؟… لكنّني لستُ إنساناً كريماً، ولا شخصاً فريداً، ولستُ سعيداً أو محبوباُ. وحيد إذن؟ نعم، قطعاً، في هذه المرحلة أنا وحيدٌ تماماً. وحيد وأفتخر، حسّاس وغير سعيد.

أنا أمضي في طريقي نحو شيءٍ ما بباريس، تلك المدينة الممستنيرة والهادئة لأبعد حد. مضيتُ نحو مصيري، وفي كل يومٍ كان يتولّد لديّ انطباع بأنّني لا أقرّر شيئاً. أنا لستُ سيّد مصيري. مضيتُ خطوة، وأتيت إلى أوروبا، وعلقت في الدوّامة الجهنّمية للزمن الغربي. كل شيء مرّ بسرعة كبيرة، ونُسي كل شيء بنفس السرعة، كل شيء نظيف ورتيب ظاهرياً، كل شيء في مكانه الصحيح. كل شيء مترابط وأنيق.

اليوم، أنا أعرف، وأدفَع ثمن ذلك.

بدأ الأمر بحالة يأس طفيف أو اكتئاب بسيط، لا شيء يدعو للقلق. وقد تجوزت الأمر، بل كان عليّ تجاوز الأمر. الآن بدأ الأمر من جديد، عادت الحالة لكن في حِلّة جديدة: مشاعر تأزّم وكرب عميقة، نوبات ذعر. صورة حمراء، طعم في فمي، نزيف داخل رأسي. أتوقّع سقوطاً. أرى نفسي أسقط، جسد خامد يرقد بلا حراك في شارع باريسي، لا يوليه المارّة أيّ اهتمام. أنتظر وأنتظر. لكننّي لا أسقط. ما أزال منتصباً. لا أدري أين تكمن كل قوّتي هذه، لا أعرف كيف أحدّد مكانها، وكيف أرشدها، وكيف أنقلها، وأركّزها.

طوال الأشهر القليلة الماضية، لم أكن أشعر أننّي نفسي، أنا لا أتعرّف إلى نفسي. أنظر إلى وجهي في المرآة، أنظر إلى قدماي، يداي، أظافري، شعري، بشرتي، وفي كل مرة أطرح على نفسي ذات السؤال: مَنْ كل هذه الأعضاء؟

في مجال الطب النفسي، ما أشعر به وأعانيه يسمّى: اضطراب تَبَدُّد الشخصية.

هل بلوغ سنّ الرشد يعني أن يكون المرء قادراً على إيجاد توصيف طبّي لاضطرابه العصبي؟

***

غداً يصادف عيد ميلادي. سأكون في الثلاثين من العمر. لذا قرّرت مايلي: سأستمتع بالنظر إلى نفسي في المرآة، وسأمارس العادة السرية بكثرة، وأنا مستثار على صورتي. وبهذا سأكون قادراً على اكتشاف نفسي، ربما سيعيد جسدي وروحي من جديد خلق وحدتي الوجودية المقدّسة.

غداً سأمضي في سبيلٍ آخر، طريق أخرى تقودني إلى الرقم التالي: الواحدة والثلاثين.

أنا أحلم، أغمض عيناي لبضعة ثوانٍ، أغمضهما بعنف، بماسوشية. أصاب بالعمى. أفتحهما، أرى نفسي في مكان أو زمان آخر، أرى نفسي في سنٍ أكبر، في زمنٍ غير قابل للتحديد. هذا العالم الآخر سيكون موجوداً بالتأكيد عندما أصبح في الأربعين من العمر. أنا أتصوّر ذلك. في كلٍ يومٍ أخلق فيلماً طويلاً عنه.

عرفت ذلك منذ طفولتي. سأكون رجلاً في العقد الرابع من عمره. ليس عاجلاً. أربعون عاماً لأقول أخيراً بصراحة ورحابة صدر وثقة، وربّما بحرية أيضاً: أنا رجلٌ أعيش حسب رغباتي.

عبد الله طايا: (تولّد عام 1973، في مدينة الرباط بالمغرب)، وهو أوّل كاتب مغربي وعربي يعترف بميله الجنسي المثلي علناً. نشر عدّة روايات باللغة الفرنسية وترجمت إلى الإنكليزية، وفازت روايته Le jour du roi بجائزة فرينش بريكس دي فلور القيّمة عام 2010، كما أنّ روايته الأخيرة Infidéles أبصرت النور عام 2072. وقد ترجم هذه القصة القصيرة من اللغة الفرنسية دانييل سيمون محرّر موقع World Literature Today، كما أنّه مترجم من اللغتين الفرنسية والإسبانية .

المصدر:

https://www.worldliteraturetoday.org/2013/september/turning-thirty-abdella-taia#sidr-0

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *