*أيمن عبد الرسول
خاص- ( ثقافات )
“من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”, هكذا حسم الصدِّيق (أبو بكر) صدمة صحابة رسول الله في انتقال نبي الله إلى جوار الله، وقد رأى من كان يعتقد أن الرسول لا يموت، وكانت صدمة الصحابة منبعها ولا شك المحبة المفرطة التي زرع بذورها داخلهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومع انتقاله إلى الرفيق الأعلى بدأ عصر جديد في تاريخ المسلمين، عصر العقل المتبع للوحي، فقد أتم الرسول رسالته، وترك فيهم ما إن تمسكوا به لن يضلوا، كتاب الله كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، يبدأ “الإسلام الوضعي” هنا في التجلي عبر أفعال الصحابة.. مواقفهم.. معارفهم.. طبيعة فهمهم لكتاب الله الذي لم يجمع بعد في مصحف ولم يكتب كاملاً حتى تلك اللحظة التي فارق فيها رسول الله صحابته الأوفياء من عام 632م فماذا جرى؟!!
في مرض الرسول أوصى لأبي بكر بالصلاة إمامًا خلفًا له، فهو الأقرب إليه لكنه صلى الله عليه وسلم لم يوصَ له بخلافته، ومن هنا جاء اجتهاد الأنصار في أن عدم تسمية الخليفة يمنحهم حق الخلافة وكان أن اجتمعوا بسقيفة بني ساعدة للتشاور في الأمر في غيبة ممثلي المهاجرين، وفي مناصرة طبيعية لسعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج، وبلغ عمر بن الخطاب أمر اجتماعهم كما تجمع المصادر، فقرر أن يحضر مع أبي بكر هذا الاجتماع حتى يفوِّت الفرصة على الأنصار، ويعطي الحق كما يراه لأهله منطلقًا من تقديره الشخصي لا النص ولا الموقف، حيث لا نص يحسم أمر الخلافة، وموقف انشغال البيت الهاشمي بغُسل رسول الله (ص) وتكفينه ودفنه لا يسمح لهم وقتها بتداول أمر السلطة السياسية!!
ولكن هل كان الأمر كذلك فعلاً؟ هل كان لا بد من الإسراع باختيار خليفة للرسول؟ ولماذا من قريش لا من الأنصار؟ وهل كان اجتماع السقيفة يحمل موقفًا ديمقراطيًّا تقدميًّا كما يزعم البعض من أنصار فكرة الديمقراطية الإسلامية؟ وكيف تم ترميم أو تمرير هذا الاجتماع بغير وجود ممثلين لبقية المهاجرين؟ ولماذا أحدث هذا الاجتماع ذو الملامح العصبية الوضعية شقاقًا كبيرًا على مر التاريخ الإسلامي رغم أنه كان بداية الاستقرار في قيام الخلافة الإسلامية المستندة إلى التجربة المحمدية في المدينة؟.
هذه الأسئلة التي سنحاول معًا الإجابة عنها ستشكل مفتتحًا مهمًّا للمناقشة حول ما إذا كانت هذه الجلسة المبدئية التي حسمها جناح عمر بن الخطاب لصالح أبي بكر رغم أنف الأنصار وخرج منها سعد بن عبادة مكسور الأنف، ديمقراطيَّة في غيبة واحد من أهم أركان صحابة رسول الله وابن عمه وزوج ابنته الزهراء وأول من أسلم من الأطفال، والذي تجمع المصادر السنية على أن تلحق باسمه كرم الله وجهه، الإمام علي بن أبي طالب!!
لم يكن هناك داعٍ للتسرُّع في اختيار خليفة رسول الله، وكان من الممكن أن يتم فضُّ اجتماع السقيفة بنفس الحسم العُمري وتأجيله إلى يوم الجمعة التالي لوفاة النبي (فقد توفاه الله يوم الإثنين) وكان على أبي بكر أن يصلي بالناس إمامًا خلفًا للنبي في الشأن الديني، ولكن ما جرى كان فوق الإدراك؛ الكل حريص على الدولة الإسلامية التي نشأت تحت ظلال الأنصار ورعايتهم ومع ذلك حضر الحديث الغريب الذي يحمل صيغة مخالفة لعمومية وعالمية الدعوة المحمدية والذي نصَّ على أن الأئمة من قريش!!
واضح أن الوعي السياسي للصحابة كان مشوشًا مضببًا، فهم ليسوا سياسيين مهرة والدلائل سوف نسوقها في حينها، لأن الإمامة اختلطت لديهم بالرئاسة، فلو أن الأئمة من قريش فهذه الإمامة هي الجانب الديني لا السياسي، وإدارة شئون دولة كانت لم تزل في طور الإنشاء أمر يجب الاستفادة فيه بتجارب الأمم والسؤال حول صلاحيات الحاكم ومدى التزامه بالشورى الإسلامية، مع الوضع في الاعتبار أن القرآن لم يحدد شكلاً من أشكال الحكم للمسلمين، وهذا من رحمة الله لأنه لو فعل لضيَّق عليهم مصالح أمتهم وأئمتهم أيضًا!!
المهم هذا الوعي السياسي غير الناضج جعل الشيخين (أبا بكر وعمر) يتورطان في لعبة الأنصار ويحددان البيعة الآن وفورًا دون الاحتكام إلى آخرين (كان معهم أبو عبيدة بن الجراح) على أن تكون بيعة السقيفة خاصة إلى أن تتم البيعة العامة في مسجد النبي، هناك من يرى أنه كان لا بد من الحسم السريع لقضية الإمامة، ولكن حصر الأمر في قريش ليس كحصره في البيت الهاشمي قطعًا، ولكن تذكروا معي جيدًا هذا الحديث لأننا سنعود إليه وقت انهمار المحن وافتراق الفرق!!
تمت البيعة لأبي بكر والحقيقة أنه لم يسعَ إليها ولكن تكليف النبي له بالصلاة خلفًا له أهَّله لها، وصلابة موقفه من المفتونين بموت الرسول أهَّله لها، جاءت البيعة الأولى لغير رسول الله من نصيبه وعلى يد عمر بن الخطاب، صحيح أن المصادر الشيعية تغالي في النقاشات التي تمت تحت سقف السقيفة وتُوصل الأمر إلى أن عمر تطاول على سعد بن عبادة إلى حد الضرب، والمصادر السنية تغالي في وصف المودة الحاسمة للأمر، ولكننا في النهاية لسنا بصدد اجتماع ديمقراطي لاختيار الحاكم ولسنا بصدد جلسة شورى علنية عامة، باختصار مفهوم الديمقراطية غائب تمامًا سواء بالمعنى العربي الذي كان يمارس في دار الندوة، أو بالمعنى الأثيني للديمقراطية اليونانية (ديمو= الشعب، قراطية= الحكم) فلا شعب يومئذٍ ولا حكم إنما تحول المعنى الديني من الإمامة إلى السياسة!!
تم تمرير الحدث وفوجئ به الكثير من الصحابة واختلفت حوله الارآء ورفض البعض القليل بيعة الرجل الأكثر قربًا من رسول الله والأكبر سنًا أيضًا، ومع ذلك بدأت بهذه البيعة ملامح الانشقاق الكبير في الفكر والتاريخ الإسلاميَّيْن، على العكس من هدفها تمامًا، حيث كانت تهدف إلى جمع شمل المسلمين لا تفرُّقهم ولا تشرذمهم، فهل كان الأمر فعلاً كذلك؟.
________
* كاتب صحفي مصري وباحث في الإسلاميات.. توفي في الرابع عشر من أغسطس 2012، إثر جلطة في المخ، عن عمر يناهز 37 عاما.
ترك كتابين منشورين “في نقد الإسلام الوضعي”، و”في نقد المثقف والسلطة والإرهاب”..
وله عديد من المقالات والكتب غير المنشورة..
يعيد موقع ثقافات نشر مقالاته، ويتيح نسخة من كتاب “في نقد الإسلام الوضعي” بصيغة pdf.