*أم الزين بنشيخة المسكيني
إنّ السؤال عن المستقبل في السياق الحالي لحاضر الخراب، إنّما يولد من نوعين من القلق الحادّ: قلق إزاء ما يحدث لنا في حاضر تسود فيه أجندات بيع الموت لأبناء الحياة، وقلق إزاء الماضي الذي صارت علاقتنا به علاقة متوتّرة ومنهكة. فصرنا نسأل في فزع: من أين سيأتي المستقبل؟ وماذا لو كان المستقبل قد مرّ بعدُ من ديارنا دون أن نتمكّن من اقتناصه؟ وماذا لو لم يعد ثمّة مستقبل في انتظارنا؟ ليست أسئلة المستقبل لدينا اليوم، نحن أبناء إرهاب العولمة، ضربا من الترف الفكري بين مثقّفين مطمئنّين إلى مراجعهم، إنّما هي تعبير عن قلق عميق إزاء الحاضر. ذلك أنّ ما يحدث هو من باب فظاعة الكائن التي لا تُحتمل.
لويس أراغون الشاعر الفرنسي المشهور، قال منذ قرن: “ذات مساء جميل، يُسمى المستقبل ماضيا”، لكن مستقبل الشعراء يبدو أكثر هشاشة من مستقبل الدول، لذلك لن يكون المستقبل في لغة بعض الفلاسفة سوى ضرب من المعاناة.. يكتب نيغري المفكّر الإيطالي المعاصر منذ سنتين: “نحن نعاني من المستقبل”. أمّا رنسيار الفيلسوف الفرنسي المعاصر، فيختار أن يعلن منذ 1981 ما يلي: “ليس ثمّة مستقبل في انتظارنا.. ثمّة فقط الكثير من العمل لمن لا يريد أن يموت أحمقا”.. ويضيف في هدوء الفلاسفة: “وتبّا للمتعبين”.
إن المستقبل إذن لا يحبّ المتعبين، لأنّه لا يُقبل إلاّ من جهة العمل الشاق طويل النفس على تغيير الحاضر وتجديده بقوى حيوية دائمة. غير أنّ هذا التجديد، إنّما يقع من جهتين: إمّا بثورة سياسية أو بطفرات فنّية. وحين تفشل السياسة في رعاية الحياة، ينتصر الفن في إبداع أشكال مغايرة من الكينونة. لكن في أيّ معنى يصير الفنّ وعداً بالمستقبل؟ وهل ثمّة زمان آخر للمستقبل خارج العالم الذي نعيش فيه؟ المفكّر طوني نيغري، مرّة أخرى، يقول: “لا بديل لنا عن هذا العالم، لكنّنا نملك البديل صُلب هذا العالم نفسه”. كيف يكون المستقبل ذاك الذي لا يقبل علينا من عالم آخر، إنّما هو ما نحياه في هذا العالم نفسه؟
يفتتح الفيلسوف فريديريك نيتشه المقالة الثانية، من كتاب “جينيالوجيا الأخلاق” كما يلي: “أن نربّي حيواناً يحقّ له أن يعد الوعود- أليس ذلك تحديدا هو تلكم المهمّة المفارقة ذاتها التي وضعتها الطبيعة لنفسها فيما يتعلّق بالإنسان؟ أليس ذلك هو المشكل المخصوص للإنسان؟ أمّا أنّ هذا المشكل هو إلى حدّ كبير قد حُلّ، فذلك ما ينبغي أن يظهر بأكثر مدعاة للعجب عند من يعرف كيف يقدّر حقّ قدرها القوّة الفاعلة عكسا، قوة النسيان.. ليس يمكن أن يكون ثمّة سعادة ولا صفاء ولا رجاء ولا فخار ولا حاضر من دون نسيان”.
إنّ هذا النصّ لنيتشه، يضعنا أمام مفارقة محرجة: كيف لمن له حقّ الوعد أن يكون مطالبا بالنسيان؟ كيف لمن يعد بالمستقبل أن ينسى ما وعد به؟ إنّ الوعد إذن، يحتاج إلى المستقبل، في حين يعاني النسيان من الماضي، لذلك هو ينسى. لكنّ نسيان الماضي ههنا، لا يخصّ ذاكرة كسولة أو انفعالات متعبة، إنّما هو نسيان بهيج لكل ما من شأنه أن يعطّل الوعد بالمستقبل. فالمستقبل ليس ممكنا إلاّ بوصفه تجديدا دائما لأشدّ لحظات الحياة اقتدارا وبهجة. ما ينبغي أن ننساه من الماضي هو كل الانفعالات الواهنة، أي القيم الارتكاسية التي تجد تعبيراتها البائسة في الحزن والثأر والذنب والتأثيم والتخوين والتشاؤم والكآبة.. كلّها قيم مضادة للمستقبل؛ لأنّها قيم الموت. نيتشه كان يسمّيها بالقيم العدمية. إنّ كل ذاكرة لازالت تؤسس نفسها على هذه القيم الفقيرة، إنّما هي ذاكرة عدمية. وكل حضارة أصابتها العدمية غير قادرة على التشريع للمستقبل دون التحرر من الإدمان على العدم، لكن من أين تأتي العدمية إلى ثقافة ما؟ إنّها بحسب نيتشه، تأتي من هذا الاشمئزاز والبرودة التي يتقاسمها الجميع من أنّه لا شيء ننتظره من المستقبل، وأنّ الحياة لا تستحق أن تعاش. لقد استبق نيتشه على شكل من العدمية الذي أصاب ثقافتنا هذه السنين: ثقافة التكفير والتأثيم والتخويف، ثقافة احتقار الجسد والموت وعذابات القبور. إنها ثقافة لا يشرع لها “فلاسفة المستقبل”، بل المشعوذون والمافيوزيون والمستثمرون في البؤس والفقر والتعب.
هل تحوّل المستقبل في حضارة الإدمان على العدم، ونشر القتل والخراب في كل مدينة إلى مجرّد استعارة لغوية منهكة؟. وضمن أيّ أفق حضاري نسأل عن المستقبل؟ ثمّة منطقة غامضة تأتي منها أسئلتنا، وثمّة مواضع صمت تعتمل في كواليسها، فكيف نكون على مقربة من هذه المنطقة الغامضة؟ إنّ مجرّد السؤال عن المستقبل يهيئنا سلفاً لاختراع شكل مغاير من المستقبل؛ لأنّ تقنية السؤال نفسها، إنّما تزجّ بنا دوماً في حدث تأويلي لم يحدث بعدُ. لكن ثمّة أيضا مناطق روحية ليس فيها غير الأسئلة من أجل الخروج منها نحو أسئلة أخرى. وثمّة وضعيات تأويلية، سرعان ما يتحوّل فيها السائل إلى شحّاذ لإجابات جاهزة أتعبتها الاستعارات القديمة، أو إلى دجّال لا حرفاء له.
لكن من يحقّ له أن يحدّثنا عن المستقبل؟ هل هو الشاعر أم الفيلسوف أم العالم أم رجل الدولة؟ ثمّة المشعوذ أيضا الذي تحوّل في مجتمعاتنا إلى مزاحم حقيقي لكل هؤلاء على الإغواء بالمستقبل. ما الذي يجعل من العرّافين والمشعوذين يعودون إلى ركح المستقبل مرّة أخرى وبشكل ملحوظ جدّا؟ هل يكون المستقبل باحة تشكيلية تغري الجميع بالرقص على إيقاع ألوانها الغامضة؟ أو هو مجرّد كذبة جميلة أو استعارة عابرة؟
وفي الحقيقة، يمكن الحديث عن طرائق عدّة للسؤال عن المستقبل: الطريقة الطوباوية الحالمة بغد أفضل على طريقة الأمل في التقدّم الأخلاقي للبشر (كانط) أو على طريقة تغيير العالم (ماركس)، والطريقة المتشائمة التي تستبق على الكارثة (بنيامين، جوناس)، وطريقة العود الأبدي (نيتشه) التي ترى أنّ المستقبل لا وجود له في زمن آخر أو في عالم آخر خارج العالم الذي نحن فيه، بل هو الحاضر نفسه بما هو أبدية بهيجة.
لكنّ المستقبل مفهوم زمنيّ، فأيّ معنى للزمن يفترضه السؤال عن المستقبل؟ ثمّة طبعا الزمن الخطّي الذي يفترض الماضي والحاضر والمستقبل، في نوع من التعاقب الطبيعي وفق غائية لاهوتية، تنتهي دوما إلى التبشير بالآخرة كشكل ديني وحيد للمستقبل، وثمّة التاريخ الذي يفترض حركة جدلية عميقة في روح الشعوب، تجعلها تمرّ عبر أشكال من الاغتراب ومن التحرّر وفق قوانين النفي ونفي النفي لدى هيجل، أو وفق قانون الصراع الطبقي لدى ماركس، وثمّة الصيرورة التي تفترض ضرباً من العود الأبدي لحاضر لا يعود فيه غير أشدّ لحظات الحياة بهجة واقتداراً (نيتشه).
لقد سقطت فكرة الإنسانية إذن، في عالمنا الحالي ثانية في ضرب من العدمية، إنّها لعمري عدمية بالمعنى الحرفي المباشر تماما: أي في معنى محبّة العدم. كيف نخترع فكرة موجبة عن المستقبل في عصر تينع فيه تجارة الموت في كل مكان؟ إن ثمّة مستقبلاً يفترض دوماً، أنّ ثمّة كينونة مغايرة. إنّ فكرة المستقبل تتعارض مع فكرة العدم، ذلك هو ما ارتآه الفيلسوف الألماني المعاصر هانس جوناس في أهمّ كتاب له كُتب عن المستقبل في القرن العشرين، بعنوان “مبدأ المسؤولية” (1970). ذلك أنّ كل سؤال عن المستقبل، يفترض أنّنا نملك ضمانات كافية من أجل أن يكون ثمّة شيء ما سيقبل علينا في زمن قادم، لذلك ينبغي أن نجعل من شعار “أن إنسانية ما تكون” أمراً قطعيا أنطولوجيا لإتيقا المسؤولية، مسؤولية الإنسانية الحالية إزاء إمكانية أن يكون ثمّة مستقبل في حضارة كل شيء فيها مهدّد بالاندثار.
يعلّمنا الفيلسوف الألماني الشهير فريديريك نيتشه، أنّ المدمنين على العدم لا مستقبل لهم، لأنّ الحياة لا تحبّ غير من يحب الحياة. أمّا باعة الموت، فهم لا يملكون غير الموت، ووعدا كئيبا بمستقبل، اسمه الكارثة. كيف السبيل إلى استعادة بريق الوعد بالمستقبل بعد أن وقع إنهاكه وتفقيره من طرف تجّار العدم؟ نيتشه يعلّمنا أنّ نقد العدمية ليس سوى نصف التفكير فيها، وأنّ تشخيصها واقتناص علاماتها وتسميتها بأسمائها الحقيقية هو شكل من التفكير الحقيقي بالمستقبل. ما نحتاجه عمل طويل النفس على الذاكرة، يجعلنا لا نخطئ من هنا فصاعدا حول الأصل الحقيقي لظاهرة العدمية، وما نحتاجه أيضا هو تشخيص للحاضر من أجل الكشف عن كل السياسات الثاوية فيه للعدمية: أيّ خطاب وأيّة كتابة وأيّة موسيقى وأيّ إعلام وأيّة عقيدة وأيّة مناهج تربوية تحمل عدوى العدمية في طيّاتها. علينا أن نملك العيون الكفيلة بإبصار علامات المرض، وتشخيصه في كل أبعاده دون اختزاله في أشخاص معزولين، ذلك هو ما يهيّئنا لاستعادة المستقبل كوعد بالسعادة. أمّا غير ذلك، فاستئناف لأسئلة منهوكة وعقول كسولة وأخلاق ضعيفة، تقوم على مشاعر ارتكاسية من قبيل الندم والثأر والحزن والإثم… وهو ما يسود في خطابات التكفير والتأثيم وتخويف الناس وإرهابهم من أجل تحويلهم إلى عبيد أو إلى جثامين وأشباح ومسوخ مفزعة. يكتب دولوز، الفيلسوف الفرنسي المعاصر في بعض محاوراته ما يلي: “إنّنا نعيش في عالم هو بالأحرى مزعج، حيث تكون السلطات القائمة… في حاجة إلى أن تمرّر لنا عواطف حزينة. فالحزن والعواطف الحزينة، إنما تقلّص من قدرتنا على الفعل. تحتاج السلط القائمة إلى حزننا، كي تجعل منّا عبيداً. يحتاج المستبدّ والكاهن وسالبو الأرواح إلى إقناعنا بأنّ الحياة صعبة وثقيلة.”
وحده إحساس بهيج، بأنّنا نعيش ضمن شكل من الأبدية المتحررة من كل ذاكرة حزينة، بوسعه أن يعيد إلينا بريق الوعد بالمستقبل، غير أنّ هذا المستقبل لا وجود له في عالم آخر ولا في زمن قادم. إنّما نحن نحيا ههنا، والآن في المستقبل والماضي والحاضر في قبضة واحدة. في هذا السياق، يكتب نيتشه ضمن بعض صفحات “زرادشت” ما يلي: “إنّني أمضي بين الناس كما لو كنت أمشي بين كسارات المستقبل، مستقبل أشاهده الآن”. يقول دولوز: “إنّ الماضي لا يأتي بعد الحاضر الذي لم يعد، إنّما هو يتعايش مع الحاضر الذي كان”. ويقول بول فيريليو: “لا ينبغي فقط أن نحافظ على الذاكرة، بل ينبغي علينا المحافظة على إمكانية النسيان”.
نعم، وحدها القدرة على النسيان كفيلة بجعل المستقبل ممكنا دوما بيننا، لكنّ النسيان هنا ليس مضادّا للذاكرة بإطلاق، إنّما هو مضادّ للانفعالات الواهنة لذاكرة كسولة تعطّل الحلم بعالم مغاير. والنسيان اقتدار بهيج، يجعل البشر قادرين على التجدّد والحلم، مثل كل النباتات الأرضية السعيدة التي تحيا وتزهر بفضل باقة من الأكسيجين العابر كل يوم من سمائنا. وحدها سماء تحفظ الغيم جيّدا قادرة على أن تمطر حيثما تشاء.
إنّ العدمية التي أصابت هذا العصر، ليست مجرّد حالة نفسية تجعل شعبا ما يشعر فجأة، بأنّ الحياة لا معنى لها، وبأنه لا مستقبل في انتظارنا. إنّما يتعلّق الأمر أيضا، بحالة أنطولوجية عامة، أصابت شكل الوجود الخاص بنا بضرب من القحط الأنطولوجي، حيث وقع تفقير الخيال والانفعالات الجميلة، وذلك منذ أن تمّ تسطيح العالم وتشيئته، ومنذ أن سقط ميدان الثقافة والإبداع في قيم السوق. كل شيء صار إلى بضاعة إلى حدّ أننا صرنا محاصرين بركامات استهلاكية تثير “انطباع المقبرة” وفق عبارة مفزعة لنيغري. ماذا سنفعل بعالم أصيب بالقحط الأنطولوجي، حيث لا شيء غير قيم رأسمال وسلعه وخرائطه المتوحّشة؟ ههنا يتدخّل الفنّ الذي ينبع دوما من حاجة إلى تجديد قوى الحياة في عصر ما. إنّ الفنّ هنا يصلح لاختراع المستقبل، غير أنّ المستقبل، إنّما هو الآن وهنا في هذا العالم الذي لا بديل لنا عنه، لأنّا لا نستطيع الهروب منه إلى أيّ مكان. إنّ الفنّ لا يصلح للترفيه أو لأوقات الفراغ، إنّما هو دوما بصدد اختراع قطعة من الكينونة، ومعنى ما لمقاومة الفراغ والتصحّر. كل قصيدة أو رواية أو منحوتة أو أغنية أو مسرحية.. إنّما هي وعد بمستقبل أجمل، وبإمكانية الفرح، حيثما تصيبنا السياسات الفاسدة للكينونة بالحزن والاكتئاب. يكتب نيغري في هذا السياق: “أن نفهم ما هو الفنّ اليوم هو أن نفهم كيف أنّ ألم العالم الضائع بوسعه أن يخاطر بنفسه في صلب المحيط العاري والمجهول من أجل كينونة جديدة”. هذه الكينونة حسب نيغري لا تعاني من الفراغ بقدر ما تعاني من المستقبل. ربّ مستقبل حوّلته الفاشيات إلى كارثة. لكن لا شيء يدعو إلى البكاء عما يحدث لنا، لأنّ البكاء جزء من الكارثة. نحن فقط، مطالبون بعبور هذا الركح الفظيع بإبداع فنّ لمقاومة سقوط العالم في الفراغ. إنّ اختراع الجمال بهذا المعنى، هو شكل من التحرر، لأنّ الجمال هو نفسه “حريّة تحرّرت”، وهو نفسه “فيض من الكينونة”. ما تحتاج إليه الإنسانية الحالية هو قصّة جديدة تدفعنا نحو المستقبل. هذه القصّة هي قيد الكتابة دوما لدى كل من أدرك أن الفنّ اختراع لصحّة كبرى في حضارة تشكو من المرض والوهن. هو الفنّ إذن، كوعد “بشعب سوف يأتي” (بحسب تشخيص لجيل دولوز) لكنّه لن يأتي من أجل الهيمنة على العالم، بل من أجل تحرير الحياة، حيثما تمّ اعتقالها. إنّ المستقبل هو قدرتنا الدائمة على جعل البشر قادرين على الفرح مرّة أخرى.
_______
*مؤمنون بلا حدود