نغمضُ أعيننا رغمَ معرفتِنا بالحقيقةِ

(ثقافات)

 نغمضُ أعيننا رغمَ معرفتِنا بالحقيقةِ*

ذكرى لعيبي

المحن التي يمرّ بها البشر كثيرة، وتزداد كلما تقدّم بنا العمر، قد تتفاوت عظمة المحنة بين شخص وآخر، لكنّها في النهاية تصبّ في مجرى الحزن.

 المحن ليست بحاجة إلى معجزات، وليست بحاجة إلى كرامات من أولياء طلقّوا الدنيا، بل هي بحاجة إلى صبر، وقلب يسع الكون بكلّ ما فيه، وأمل كبير بأنّ الفجر آتٍ لا محالة.

مخلفات الحرب وهضيمة الحصار الاقتصادي على العراق آنذاك وخساراتي المتلاحقة، تركتْ في نفسي ندوباً عميقة، وأمام نظرة المجتمع لزوجة الشهيد، وبين ضغط الأهل للزواج من أخيه، كان لابدّ من تقرير مصير.

فكان الهروب إلى ضفة رخوة.

حالي مثل حال فاطمة وأميرة ومئات النساء اللاتي قررن الانفلات من عجلة مدن الحروب ، الخروج عن مسار درب القيم البالية والمعتقدات البائسة والسلطة الذكورية المهينة للقارورة التي خلقها الله لمؤانسة الرجل.

كانت وجهتي سوريا، ومن هناك سافرت إلى دبي.

لم أكن أخطّط للبقاء في دولة الإمارات، بل كان طموحي ورغبتي أن أجعلها محطّة عبور ، حتى أرتّب أموري للهجرة الأخيرة.

لكن دبي مدينة فاتنة ، مدينة لاتعرف أن تنام دون أن ترسم بناء عمارة أو شارع أو مركز تسوق، لنصحو صباحاً على وجود معلم جديد، مدينة تشعرك بالترف والرفاهية، تشعرك بأنّك مسؤول عن نفسك ومستقبلك.

 كلّ شيء فيها متاح، ثقافات مختلفة ومتنوعة ومنسجمة ومتسامحة، جنسيات لم أكن أحلم أن ألتقي بها ، مدينة مبهرة.

لأول مرّة أشعر بجمال لهجتي العراقية هنا، لهجتنا كانت ساحرة بالنسبة للخليج، يعشقونها كما يحترموننا، لأول مرّة أكتشف أنّ اللهجة هويّة أخرى.

تآلفت مع المجتمع الخليجيّ كثيراً، وكوّنت صداقات جميلة، خاصة بعد أن وجدتُ عملاً مناسباً استطعت من خلاله توفير عيش كريم، وإن كان شحيحاً بعض الشيء.

كنتُ افتقد شيئاً ما…المطر في هذا البلد قليل جدّاً، فأغلب شهور السنة حارة ورطبة، لهذا كان الحنين يغشاني، الحنين لرائحة المطر وهو يبلّل أشجار حديقة بيتنا، الحنين لطعم لقمة خبزٍ خارجة توّاً من تنّورٍ يتوسط باحة الدار، والحنين إلى لمّة والديّ وأخوتي حول ” صينية الغدا ” الحنين إلى رنّة الملاعق الصغيرة وهي ” تخوط” استكانات شاي العصر مع ” الكعك أبو السمسم” أو “الكليچة”.

 باختصار الحنين كان يطبق على روحي.

مرّت سنوات برتابة، قلق، توتر، لم يتغير شيء جذري بحياتي، كنتُ أسافر بين فترة وأخرى إلى البصرة لزيارة أهلي، وفي كلّ زيارة أتلقى اللوم وسماع أسطوانة الغربة كربة ، والزواج -أحسن من الوحدة والبهذلة-، وفي كلّ مرة أقول لن أسافر مرة أخرى، لكن الحنين يقودني بل يأمرني وأنا أطيع.

في عام ٢٠١٥، وهو العام الذي شهد أزمة المهاجرين إلى الاتحاد الأوربي ، حيث تدفق أكثر من عشرين ألف مهاجر إلى المانيا، وانتشار صورة جثّة الطفل آلان على أحد الشواطىء التركية، مما جعل برلين تخفّف القيود على اللاجئين، وهذا تسبّب بأسوأ أزمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تدفّق ما يقارب نصف مليون مهاجر.

فكرتُ بالهجرة بشكلٍ جادّ، كنت أهيّئ الأمر برأسي، ذاك اليوم كنتُ أتابع وقائع الحج على التلفاز، وكنت بحالة انهيار وبكاء بسبب منظر تدافع الحجيج في منى قرب مكة المكرمة، ليقع مايقارب ٢٢٣٦ قتيلاً، وكان هذا أسوأ كارثة في تاريخ الحج.

رنّ هاتفي ، رقم غير معروف ، كان من العراق، فلم أردّ؛ عادة لا أردّ على الأرقام غير المخزنة ، لكنه تكرّر أكثر من مرّة، قلت ربما من أهلي أو أقاربي ، ففتحتُ الخط، وكانت الصدمة:

-شامة؟

-نعم، مَنْ معي؟

-أنا سامي.

كان صوته مختنقاً، كان يبكي…

تستوقفنا أحياناً بعض الذكريات العالقة بأماكن زرناها مع أحباب، تستوقفنا نفحة عطر شممناها معاً ذات مساء، نسمة برد داعبت وجوهنا ذات فجر، شهقة فرح دغدغت أرواحنا ذات لقاء، دمعة قهر ذرفناها ذات قهر، أشياء كثيرة لن ننساها بسهولة، رغم أنّها غادرتنا بكلّ سهولة، مواقف عديدة تجعلنا ندرك أنّ الحياة مجرّد ومضة.

الرجل الأول في حياة المرأة أشبه بوشم على جهة القلب، مهما كان ذاك الرجل ، وشماً غير قابل للمسح أو الإزالة.

 قد ننساه حيناً من الدهر، لكن سيطفو على سطح التذكر حين نختلي بذاكرتنا، ونذود بها عن مشاغل الحياة اليومية.

بعد سبعة وعشرين عاماً من الفراق يظهر سامي في حياتي من جديد!

إنها مفارقة غريبة ، ظهور موجع في غير وقته، ظهور شتتَ تفكيري، وبعثر خططي .

نسيتُ الكوارث التي أصابتني في غيابه وبسببه، نسيتُ وجه ابنة خالته التي تزوجها ثأراً لوالدته كما قال، نسيتُ انقطاعه ونسيانه لي، حبّي له كان أكبر من عتاب ، اتصاله غفر فراقه وأخطاءه، ولكن…

فصل من رواية/ خُطى في الضباب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *