سيرة جُوانيّة : عن تصوّفي

(ثقافات)

سيرة جُوانيّة : عن تصوّفي

 

مؤنس الرزاز

ما أن مضى أسبوعان على تعارفي إلى ليث شبيلات في ذروة حالات اكتئابي أواخر الثمانينات حتى اتصل بي ودعاني إلى بيته في “مرج الحمام”.

هناك التقيت الشيخ يعقوب لأول مرة. كانت هيئته وملابسه غريبة. أشبه ما يكون بملابس هندي أو باكستاني لا تصادفه إلا في شوارع نيودلهي أو إسلام أباد، وبخاصة تلك اللفة البيضاء ذات الذيل الطويل على الرأس، والصداري الذي يرتديه الشيخ كسترة.

رحب الشيخ بي ولفت انتباهي إلى أنه يتابع مقالاتي اليومية في صحيفة “الدستور” وأنه قرأ رواية من رواياتي، وطالع أحد مؤلفات أبي.

بدا مغتبطا بلقائي وسألني من فوره عن مشكلتي، فاعترفت له بجرأة أدبية عالية أنني أعاني من مرض إدمان الكحول ومرض الكآبة المقيمة.

صعدت الدموع إلى عيني، وأنا أحكي فربت ليث على كتفي مؤازرا. بينما ابتسم الشيخ يعقوب وقال بلهجة الواثق:

  • أيها الحائر المكابد، لقد وصلت. لقد طرقت الباب الصحيح.

***

أخذني ليث والشيخ يعقوب إلى عالم غريب حميم معا. عالم قرأت له وعنه كثيرا، غير أنني لم ألج لجته ولا غصت فيها.

عرفاني إلى الشيخ أبو غزالة في دار القرآن في حي نزال فشجعني وهو يشد على يدي:

  • نحن لا نترك اليائس ولا نتخلى عن الذي يلوذ بنا حتى يقف على جملة الحضرة وتفصيلها.

وهكذا دخلت عالم اللطائف والموارد، فشرح الله صدري ونور جناني، فإذا ناري الجوانية الحارقة تتحول نور هداية أودعتني حكمها، وأوقفتني على أسرارها.

***

لم أقف على نشوة في حياتي كلها مثل تلك النشوة التي خبرتها أيام حقبة التصوف تلك.

***

نجتمع في بيت مريد من مريدي الشيخ أبو غزالة. نقتعد سجادة ونطوي سيقاننا تحت مؤخراتنا – بعد الصلاة طبعا – نجلس في صفوف، ليث والشيخ يعقوب يواجهنا. يقوم أحدهم بإطفاء الأضواء ما خلا نواصة ذات ضوء شحيح ثم تبدأ جلسة الذكر.

نجعلنا كلنا ننادي الله ونذكره وهو أقرب إلينا من حبل الوريد بينما نهتز على إيقاع ذكره هزات معتدلة متناغمة هينة.

والشيخ يعقوب يتوجه إلى الحق بكلام يزلزل شغاف القلب:

  • الله..الله…الله

يقولها بصوت من يستغيث وبنرة اليائس ذي الرجاء:

  • اللهم عاملنا بما يليق بك لا بما يليق بنا..اللهم إننا مظلومون فارحمنا وآزرنا وانصفنا.

ويواصل الشيخ مناشدة الله سبحانه بصوت متهدج تكاد الدموع أن تخنقه.

بغتة ينفجر أحد الذاكرين باكيا، والبكاد معد، فما أن ينشج بقوة حتى تنتقل عدوى النحيب من واحد إلى آخر، ويمد الشيخ يعقوب راحته ويضعها على صدري ويصرخ بأعلى صوته:

  • يا الله..لين قلبه..لين قلبه.

ثم ينخرط في نوبة بكاء مترامية الأطراف.

وينضم ليث للمنتحبين ويصرخ منادياً:

  • الله..يا الله….الله يا الله.

ويترى لي أمام عين ذاكرتي وبؤبؤ بصيرتي شريط حياتي كله.

ينبجس على نحو مباغت مركزا على الصور المؤلمة:

رائحة الاعتقالات. “الجفر”، “المحطة”، “بركات العبدلي”. أبي وراء القضبان، القضبان تحول بيني وبينه. يدي الصغيرة في يد أمي البضّة، نكهة مرارة انقلابات الرفاق وعلقمها.

خارت قواي فاستسلمت لنوبة بكاء هستيرية أنا الذي لم أعرف البكاء منذ ثلاثين سنة. ناولني ليث مناديل ورقية فلم تكف، بادر الشيخ يعقوب وزودني بمنشفة كبيرة.

واصل الشيخ مناجاته، وتعمد أن يصف حالي فذكر اليأس والرجاء والضلال والهدى بصوت ذي إيقاع سيمفوني ونحن نردد:

  • الله..الله..

بدا لي أن سيمفونية النداء والدعاء جعلت تعلو وتحتد وتعنف حتى بلغت ذروة الذروة ومعها دنا نحيبنا من خط الغيبوبة والإغماء، فانفتل الشيخ يعقوب من فوره نحو تخفيض نبرة صوته رويدا رويدا حتى بات الايقاع الجماعي متئدا.

مثل طائرة تستعد للهبوط فتنزل وتنزل ثم تضرب عجلاتها أرض المطار بسلاسة ثم تبدأ عملية التوقف تدريجيا.

 هكذا حلقنا على ارتفاعات شاهقة ثم عدنا من قمة الانفعال إلى مدرجنا.
حين غادرت تلك الحلقة وذاك المنزل المتواضع كان الليل قد انسكب، ونسيمه استقبلني متهللا.

وكنت أعي أنني خفيف كريشة وأن مشاعر غبطة وسكينة تملأني بقوة لم أعهدها قط.

حين أفصحت عن هذه المشاعر الغلابة النادرة لليث والشيخ قال الشيخ:

  • لقد جئتنا مستوياً. اليأس أنضجك فبت جاهزاً.

***

إلا أن كياني المركب منذ زمن بعيد من عناصر برهانيّة ويساريّة عاد فردّني عن هذه التجربة التي لا تنسى.

 فما هي إلا سنة كاملة حتى غادرت “دار القرآن” وخرجت من أجواء التصوّف.

*جزء من سيرة جوانية نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ 29 كانون ثاني 2002 وبعد أقل من شهر أي بتاريخ 13 فبراير رحل الكاتب عن دنيانا.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *