الاغتراب في فكر وأدب السوري حليم بركات

(ثقافات)

الاغتراب في فكر وأدب السوري حليم بركات

 صالح الرزوق

بدأ حليم بركات مشواره الأدبي من الرواية، وعبر بأعماله المبكرة عن هم وطني وسياسي. ولكن اختار أن يبتعد عن البروباغاندا، ولذلك اضطر لاستعمال وتوظيف الأسطورة والمجاز والرموز، وبالأخص أن تفسيره للهزيمة لم يكن يرضي السلطات التي أعلنت حالة الطوارئ والتعبئة العامة، وتبنت شعار التحرير. وكان حليم بركات متنبها للخلل في هذا التوجه، فتحرير الأرض يلزمه أولا تحرير الإنسان، وهو موضوع كتابه  “الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع”*.

وفيه يؤكد، منذ المقدمة، أن مجتمعاتنا بحالة اختتاق. أولا لأننا نتعايش مع أوهام تتطور من رغبات وطموحات مكبوتة. أو كما ورد بالحرف الواحد “نعيش في واقع عاجز تسيطر فيه الأحزاب والدولة على المواطنين، وتجبرهم على خدمتها دون مقابل”.

وثانيا لأن كل مواطن يحتل مرتبة إله أعمى ولا يرى إلا نفسه، وهذه حالة اغترابية تنجم عن الوضع المتدهور القائم على مبدأ القوة والنزاع وليس التضامن والتعايش. ولذلك يعجز المجتمع عن تجاوز واقعه وإعادة تنظيم صفوفه، ويقبل في النهاية بتكتيك القبول بالأمر الواقع وليس استراتيجية التحديث أو التثوير.

ولا ضرورة للتذكير أن اتباع الأساليب المؤقتة جزء من السياسات الاستعمارية التي تقضم من إرادة الإنسان، تمهيدا لفرض تبدلات عميقة ودائمة على الأرض. وهو ما حصل فعلا في مراسلات الحسين ومكماهون، وقد انتهى هذا الفصل الغرامي المزيف بإجهاض الثورة العربية وتدجين أطماع العائلة الهاشمية. ثم تكرر نفس الظرف في اتفاقيات سايكس وبيكو دون إشراك أي فريق عربي، ومؤخرا في اتفاقيات إيفانوف وأوباما والتي حددت سيناريوهات الثورات، وخففت حدتها، واستبدلت شعار التغيير بإصلاح جزئي لا يمس جوهر النظام. فقد حافظت الجمهوريات الصاعدة على الأسلوب الأمني أو العسكري في إدارة الدولة. وهو ما سهل انتشار أسلوب تقليد الماضي أو تقليد الآخر،  للتعبير عن إقرار العامة والنخبة بالعجز الحضاري الذي نعاني منه، والتعبير لحليم بركات، وأدى ذلك في النهاية لانفجار مجموعة من المعارك البينية التي أخرت المعركة الحاسمة مع العدو الحقيقي.

ولكن الخطأ الأفدح هو الاختلاف في تعريف هوية العدو، فقد تسبب بتعميق الخلافات الذاتية وتوسيع مساحة ما يسمى بشيزوفرينا السياسة والثقافة. ولذلك لم يعد من النادر أن تجد مجتمعا مهلهلا مشغولا بمعارك لا ضرورة لها، مثل دور المرأة في الدولة وعسكرة المجتمع وعلاقة الأقليات بالمؤسسة. ويلتقي حليم بركات في هذا الجانب مع صدقي إسماعيل الذي رأى مثله أن الجانب المأساوي أو روح الفاجع – بمعنى الاستسلام للقنوط المقدر على الشعور الحضاري، هو الحقيقة الوحيدة في تطور مجتمعاتنا. ولذلك كان إحساسنا بالهزيمة هو الذي يفسر إيماننا بقيمة الموت. ناهيك عن حالة الغموض واللا – أدرية التي تخيم على المواطنين والحكام. ولكن يستدرك الدكتور بركات أن موضوعة الاغتراب بحد ذاتها ساحة خلافية، ويندر أن يجتمع عليها اثنان، حتى أن عالم الاجتماع ميلفن سيمن قارنها بالعجز وفقدان المعايير، بينما رأى زميله أنتوني ديفدز أنها مرض نرجسي يعبر عن التشاؤم وتضخم الذات. واقترح لتحديد معنى الاغتراب أن نعزل ثلاث مستويات: المصادر النظرية والعملية، تطور الظاهرة في الوعي، وأساليب التعبير عنها في سلوكنا اليومي.

وعلى ما يبدو أن بركات لم يهتم بوضع حدود للمفهوم، ولكنه كان يدعو لتجاوز هذه الحالة.  وإذا كان الاغتراب يدفع بمقاومة سلبية تثبت الماضي، حتى يتحول الواقع إلى جزر منفصلة عن حركة التاريخ، بحيث يتطور الوعي باتجاه والحياة باتجاه مخالف، فإن تجاوزه يضعنا وسط تيار من المتغيرات، ويلعب دورا جوهريا في ذوبان الهوة التي تتوسع بين الإمكانيات والأهداف. وكما يقول لاحقا “التغير حتمي ولكنه يحصل دون أن يكون لنا دور في توجيهه. ولهذا السبب يفاجئنا الواقع حتى نغرق فيه كما لو أنه طوفان”. وكأنه يريد أن يقول: إن الحضارات المعادية تستعمرنا بطرق مختلفة (حرفيا تجتاحنا)، وتعمل على تكبير وهم معارك التحرير، ومنها وهم تحرير الإرادة من الإملاءات الخارجية، ووهم تجديد المعركة في سبيل النهضة لتكون معركة من أجل تثوير العقل. والحقيقة أنه يستحيل علينا بذل أي مجهود في سبيل فرض غائب. بتعبير آخر إذا كانت الحدود غير مستقرة لن نعرف كيف نضع أجندا لإدارة الروح والعقل. ويمكن أن نسمي ما سلف بمشكلة البنية المفقودة.  ويتضح ذلك من خلال أزمة الدولة مع نفسها. فبقاء دولنا يرتهن لعوامل خارجية لا نتحكم بها مثل الاقتراض من البنك الدولي أو شراء السلاح والأغذية الاستراتيجية بقروض طويلة الأجل، أضف له شراء التكنولوحيا، وفي أحسن الحالات تجميعها بمعايير رديئة وغير تنافسية. ومن الطبيعي أن يتسبب عجز الدولة بفرض حصار خانق على المواطن لضمان طاعته دون إيمان أو ولاء، وهو ما يجهض أي محاولة جادة لإنشاء مؤسسات المجتمع المدني والاكتفاء بهيكل ناقص وشكلي. ومن أبرز هذه المظاهر سياسة التعليم العالي وبالأخص ما يتعلق بأساليب البحث والتأليف. فالأول يتحكم به الإجهاد والتقليد، والثاني يأخذ اتجاها مكررا لا يساعد على تلافي النواقص وتجاوز الأخطاء. وأحيانا لا يتغير في البحوث غير أسماء كتابها، بينما المضمون وضمنا الأخطاء الطباعية تبقى كما هي. ويسمي الدكتور بركات ذلك بالانقطاع المعرفي وغياب التفكير النقدي. الأمر الذي يرى هيغل أنه تعارض دائم بين مبدأ الحرية والانتماء – أو الوحدة (بترجمة الدكتور بركات). ويمكنني أن أتخيل فرويد وهو يقرأ هذه المشكلة على أنها خلاف طبيعي بين الأنا – الجانب المهذب من الذات والهو – الجانب الذي يرفض التشذيب والتوجيهات. ولذلك كان تغيير الواقع ضرورة لا بد منها برأي هيغل أيضا لحل مثل هذه النزاعات. وكان سارتر قد أكد على نفس المعنى في جملة أعماله ابتداء من “الدرب المسدود no exit” وحتى مسرحية “الذباب” التي عالج بها مشكلة الحرية المحدودة والعبودية المطلقة. وأعتقد أن جماليات أدب كافكا تأتي من عدم تقديم إجابة على هذه القضية. فقد وقف أمامها محتارا واكتفى بالتعبير عن ضياع الفرص، ومصاعب تحرير الإنسان لنفسه بسبب العذاب والألم الذي يلازم جهوده. وربما كان كافكا ساديا أكثر من اللزوم بهذا الخصوص، فقد نظر للعالم كما لو أنه لغز مفهوم وللذات وكأنها شيء يصعب إدراكه، ولكنه في الحالتين تألم من القانون الرمزي الذي فرضته عليه السلطة الميتافيزيقية أو سلطة حكومة الإله المتواري عن الأنظار. ويقول الدكتور بركات عن ذلك (بالنقل من فرويد) “الحضارة المتحكمة بالعلاقات بين عائلة الإنسان والمجتمع والدولة”. وقد تسببت هذه الحقيقة بتقسيم النساء إلى فاضلات وخليعات. وهو مبدأ أهم الأعمال الأدبية التي لاحقها القضاء بتهمة الإساءة للأخلاق العامة مثل “مدام بوفاري” لفلوبير و”عشيق الليدي شاترلي” للورنس، قبل أن نصل إلى قضايا التهتك غير الأوديبي القائم على نزوع تغذوي – أو جنسية فموية كما في ثلاثية “الصلب الوردي” لهنري ميلر. وفيها استهتار بالغرائز لدرجة المساواة بينها على أساس أن الحرية تتحقق من خلال إشباع مبدأ اللذة بغض النظر عن موضوعه. ويفسر ذلك عدوانية الإنسان في سبيل الامتلاك (سواء باغتصاب المصادر أو المنافسة عليها ومن بينها الطعام والمرأة). ومن هنا “يبدأ الشعور بالذنب والقلق والخوف من العقاب”. ولذلك لا يمكن للإنسان أن يكون كائنا لطيفا، ويمكن إدراجه في عداد المخلوقات المعذبة والحائرة.

ويمكن النظر لواقع التجزئة العربية على أنه حالة عصاب مرضي مزمن، فهو يضع خطاب الحكومات أمام مرآة مكسورة. وكلما قارنا الشعارات الرسمية مع الواقع نجد أن الفرق يتوسع باستمرار، من ملاسنات تدل على التحسس بين الأنظمة المختلفة إلى حروب أهلية تقودنا لاستبدال ماضينا الاستعماري بحاضر وصاية مؤلم. وغني عن الذكر التفتت الاجتماعي الذي يتابع الدكتور بركات خطوط العزل فيه: سواء بين المذاهب والأديان والأعراق أو بين الولاءات والمصالح. حتى أن “وحدة الدم التي تعبر عن ولاء قبلي لا تصمد إن لم تدعمها وحدة في الملكية”. ولذلك ليس من الصعب أن لا تجد نزاعات داخل العائلة الحاكمة الواحدة، ويعزى لها تأخير التكامل الاجتماعي وتمحور وتقاطب أصغر بنية في النظام. ومثل هذا التكامل بين العاطفة والمصلحة يؤكد على أولوية الرخاء بالمقارنة مع التقشف في سياسات الدول العربية. أما خطاب الاكتفاء الذاتي فهو مجرد مسكن لما يسميه سارتر الوعي الشقي. ومن المؤكد أن التعامي عن نقاط الضعف لا يلغيها. وهذه ثاني مشكلة في الخطاب الوطني، فهو يشدد على مبدأ السيادة دون أن يدعم أحد ذلك بإجراء فعلي، ويكفي أن منطقتنا مربوطة بمنطقة اقتصادية هي تقليديا تحت نفوذ الدولار. حتى الدول المناهضة لأمريكا لم تخرج من تحت هذه المظلة، ولا يوجد تبادل ملموس بينها وبين منطقة اليوان والروبل. ولا نستطيع أن نجزم إذا ما كان مشروع البريكس سينجح، فهو حتى الآن فكرة تجريدية.  وإن عجزنا عن تحقيق الشروط اللازمة لكيان عربي موحد، فمن غير الواقعي أن نستبق الأمور ونتكلم عن كتلة اقتصادية شرقية تنافس الغرب. وكما ورد على لسان هشام شرابي “الحداثة هي غير المجتمع الأبوي الملقح بالحداثة”. وكما أرى  لا يمكن أن تجمع بين صورة وسيميولاكر. ففي هذا المجال نحن مضطرون لتطبيق مبدأ الثالث المرفوع، حتى أن حداثتنا كانت برعاية من نظام الأب القوي أو الحاكم المتأله، وليس من اختراع الابن المطرود من جنة أمه. ولا هي نتيجة نشاط تحرري أدى إلى تبدل راديكالي في أساليب الإنتاج والرعاية. ولا أستطيع أن أؤيد الدكتور بركات أن نمو الطبقة الوسطى يسير بالاتجاه الصحيح لأن الانتهازية المجتمعانية شوهت المعايير، وخلقت مجتمعا بيروقراطيا لا طبقيا قوامه وحدات استهلاكية غير مؤمنة بشيء سوى أخلاق رفاهيتها. وهذا لا يعني تحقيق مجتمع السعادة، فهو مبدأ عاطفي صحي، ولكن حالة الكفاية للأفراد ولو تطلب ذلك أن تقضم من أهدافك الاستراتيجية. ولذلك وجدنا أنفسنا أمام مجتمعات دون هوية، مندمجة في ما أسميه حالة غياب الأمة – اللا أمة. وقد تعهد بتوسيع هذه الشريحة عاملان: العولمة، وفشل دولة الأمة. وتحول الشباب العربي بفضل استيراد أوروبا والالتحاق بها (من خلال تعويم وتطويف الهوية في مجلس التعاون الخليجي) إلى شريحة غامضة تستهلك أرصدتها دون أن تضع أي أساس لقوام بديل. ولا أجد أفضل من رواية “جرما الترجمان” لحسن علوان لتمثيل هذه الحالة الشائنة. فهي تتابع تهرب جرمانوس من التزاماته الوطنية وتحويله على طريقة مسخ كافكا من مشروع إنساني إلى تابع ضعيف في كيان غريب يسبب له الضياع والإحساس باللاجدوى، إن لم يكن القرف والاشمئزاز الوجودي. ولا جدال عندي أن تغييب الطبقة الوسطى سيتسبب بتآكل الهوية العربية، فهي بالأساس من اختراع هذه الطبقة التي أخطأت في اختياراتها. ويعود هذا الخطأ لبواكير القرن العشرين حينما اختار رواد التنوير أهدافا غير راديكالية تغازل رواد النهصة – وهم من رجال السلطة والصناعة الذين بدينون بالولاء للنموذج الغربي. ولا يوجد شيء غريب في ذلك، باعتبار أن الأدوات والمناهج معربة وليست عربية.  ويضع الدكتور بركات ذلك تحت عنوان “الاغتراب السياسي”. ومعه حق في هذه النقطة. وأضيف إن الاغتراب مزدوج أو أنه مركب لأن الأنظمة متورطة بتحالفات دولية، ولأن الأفراد متورطون بميثاق مع أنظمتهم. وسبق للدكتور شكري المبخوت أن قال عن هذه العلاقة: إنها تعبير عن أفق انتظار وليست تثبيتا لواقع جاهز. ومثلما هو المواطن عاجز أمام استبداد نظامه، نحن نلاحظ أن الأنظمة الضعيفة عاجزة أمام دكتاتورية واستبداد الدول القوية. ولا يمكن أن تطلب من نظام زئبقي تطبيق دساتير وضعية.  وترتب على ذلك كما يقول الدكتور بركات اتباع أحد الاحتمالات التالية:

1- القطيعة والانسحاب كالهجرة أو اللجوء. ويسمي الخطاب الرسمي هذه الظاهرة بهجرة العقول والكفاءات. والحقيقة أن كل ما لدينا قشرة رقيقة تقدم غطاء وطنيا لخبرات أجنبية تعمل تحت ضغط استراتيجية بلادها – لا سيما في القطاع العسكري أو لأسباب اقتصادية بحتة – في قطاع التجارة والبناء. وما نعتقد أنهم علماء هم حملة شهادات تؤهلهم لإجراء تجربة علمية وليس لتحقيق اختراق علمي.

2- الرضوخ للأمر الواقع والتعاون مع السلطات تحت مبررات وطنية.

3- رفع راية الإصلاح والمناداة بالتجديد أو إعلان التمرد والثورة. وتترافق الحالة الأخيرة مع حلول دموية لا أعتقد أن لها أي مبرر شرعي وبالأخص أن ما حصل في روسيا وقبلها فرنسا كان نتيجة لظروف صناعية وتجارية. ونحن حتى هذه الساعة دون أي تحول صناعي ملموس، وكل ما لدينا مجرد حطام الكارتلات الاستعمارية متعددة الجنسيات، ولا يأتينا منها إلا ما هو هجين وغير هوياتي ومبستر. بمعنى بعد نزع فتيل الاشتعال منه. لذلك لا أتوقع من هذه الشبكة الاجتماعية إلا التخريب وليس التأسيس لمرحلة انتقالية. وإن لم أكن متفائلا بهذا الخصوص فذلك لأن ما يجري حتى الآن يدل على إعادة توزيع الشرق الأوسط وفق خريطة معدلة عن خريطة عام 1921 دون أي خطة حقيقية لتحرير المجتمعات المعنية أو أي شريحة ولو صغيرة منها. والمساعي المبذولة تهدف لتجديد عقود الوصاية السابقة مع مستفيد آخر. وعلى هذا الأساس يعتقد بركات مع عبد الله العروي أن “الدولة العربية تؤمن بالسيف وليس بالقلم”. ويؤكد على ذلك أي إحصاء سريع بين الموظفين. فالكوادر بشكل عام محرومة من الثقافة، ولا ترقى باهتماماتها لما يزيد على الكليشيهات ويشمل ذلك الكوادر المؤهلة في الخارج. فهي تتبع نظام الحفظ والاستعادة وليس أسلوب التفكير التجريبي الذي كان سائدا في العصر الوسيط حينما استورد الفلاسفة العرب مصطلحات الإغريق وأعادوا تأهيلها بما يخدم ثقافتهم التوحيدية، ولهذه الغاية خففوا من المجاز التصويري واستعملوا مجازات تكهنية تستدل على الموجود من أعماله ومعجزاته. ودون أي مغالاة إذا لم يكن هناك علاقة بين “رسالة الغفران” و”كوميديا دانتي الالهية” (رغم كل الادعاءات بعكس ذلك) أجد أكثر من علامة (ولو أنها غير مباشرة) تربط بين أليغوري “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل و”كليلة ودمنة” لابن المقفع و”خرافات إيسوب”. وباعتقادي إن هذا الخيط الواضح بإيحاءاته الرموزية يضع العقل العربي ضمن سياقه التاريخي المتصاعد ابتداء من التصور الإغريقي لمعنى الحكمة مرورا بالحدس الإسلامي لها وحتى الروح الثورية المتمردة على كل أشكال التعبئة والتسييس.

ويرثي الدكتور بركات هذا التوجه بعد “تآزر الدين مع العائلة لخنق مشروع الحداثة” الإسلامي الذي كان أساسه مركنتيليا وكومبرادوريا. ولكن أيضا أعتقد أن العصر العربي الوسيط شهد روابط متينة وضعت الدين في خدمة العائلة. والحقيقة أن كل الشرق الأوسط يدين لحكومات عائلية. وبدأ هذا التقليد مباشرة بعد سقوط دولة ثاني الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب. وبوفاته تشكل خطان كلاهما يدور حول محور العائلة وإن اختلفت المبررات بين كفاءة الولاء وكرامات القرابة. وإذا تتبعنا هذا المنطق إلى العصر الراهن سنلاحظ أن مختلف الأحزاب – الغربية والتقدمية تورث قياداتها، وساعدت الأزمة اللبنانية على ملاحظة هذه الحقيقة.  ولكن هذا يجب أن لا يصرف انتباهنا عن شكلين من أشكال الاغتراب الديني. الأول يكون بتنامي الشعور بلا معقوليته وشدته وصرامة تعاليمه التي تحتاج لإعادة تأهيل كي تقترب من روح المرحلة، والثاني يساعد على تنويم المؤمن مغناطيسيا وتغريبه عن نفسه حتى يتخلى عن إدارة أموره ويضع كل شيء بيد مؤسسة أسطورية لها وجود اجتماعي ومعرفي كالطائفة أو المذهب أو الشيخ (أحد نواب الإله في التصورات الساذجة للدين – ويؤيد هذا الرأي كل من طيب تيزيني والعروي). وربما استدل منه الاثنان على ضعف أو تدهور الحس التاريخي عند العرب وبداية مرحلة الركود الحضاري. ودائما المقدمات تفضي بنا إلى النتائج، ولا يجوز أن نتوقع ولادة حركة تحديث وتجديد ولدتها ظروف استبدادية أو غزو استعماري. حتى أن الخطوط الحديدية التي أنشأها السلطان عبد الحميد كانت تهدف لنقل الجنود إلى مناطق الثورات. بمعنى أن الغاية كانت هي خنق ووأد حركات التمرد وليس تسهيل نقل المعرفة والصناعة. وقد أدت سياسته دورها في تأخير الاستقلال. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن مصر. فغزوة نابليون لم تهدف لاستعمار مصر ولكن لاحتلالها. ويوجد فرق بين مدافع الاستعمار الفرنسي في سوريا ومدافع نابليون في مصر. أول حالة أسست لنهضة عمرانية وتعليمية حتى لو دفع السوريون ثمنها من دم أبنائهم، لكن بالنتيجة ذهب الفرنسيون وبقيت المدارس والمصحات ودور القضاء والخطوط  الحديدية. أما ثاني حالة لم تستمر إلا ثلاث سنوات وكان هدفها عرقلة وصول الإنكليز إلى الهند. وما يقال عن دخول المطابع والبارود لا يؤشر لنهضة أو وعي استباقي. وإن شئت الحقيقة سبقت الأسلحة النارية التي طورها المماليك نابليون (وأول من طور ملح البارود هو نجم الدين حسن الرماح – المتوفى عام 1295 كما أن المماليك أنشأوا أكثر من 40 مركزا لصناعة القنابل المضيئة والحارقة).

ولا يوجد ما هو أفضل من الرواية – السرد بشكل عام – المتخيل أو أدب السيرة والمذكرات – لتمثيل مشاعر التناقض مع الذات أو الاغتراب والجنوح. ولذلك يختم حليم بركات كتابه بشهادة عن أدب الغربة والمنفى، ويصنفه بعدة أشكال منها الترحال بين عدة بلدان عربية، ومنها الهجرة والاستقرار في ميتروبول أو مركز استعماري مثل أمريكا. وتنطبق هذه الحالة على بركات ذاته. ولكن يفوته أن يشير لمسألتين بغاية الأهمية.

الأولى هو بروز جيل جديد من الأدباء ولا سيما في الخليج العربي، وبالأخص في سلطنة عمان والمملكة السعودية. وتناول أفراد هذا الجيل مشكلة الاغتراب الاجتماعي والحضاري من أوسع أبوابها، وتسجيلهم لشهادة قيامية عن تحويل المجتمع من التقاليد إلى العصر الراهن، ولا أستطيع أن أقول إلى الحداثة. فتفاوت الأساليب لا يترك لنا مجالا لتحديد الاتجاه سوى أنها تشترك بالحنين للماضي البريء وتعبر عن خوف مشروع وطبيعي من موت الأب وولادة أب مستعار، أو غرينغو، إن استعرنا مصطلحات أمريكا اللاتينية. والغرينغو الخليجي هو شركات التتقيب العملاقة والشركات العقارية والأسواق التي تضيف لتاريخ المنطقة تاريخا مزيفا ومستعارا. ولذلك “يتلازم مع الإحساس بالغربة صراع مألوف بين الهوية والحداثة” أو ببن هوية ذات وهوية نفس.

المسألة الثانية هي ما لحق برواية المهاجر من تبدل عميق. وإذا أخذنا مثال جبران وأمين الريحاني نستطيع أن نجد صوتا عدميا يقرأ الداخل بلغة غريبة عليه. بمعنى أن البنية ملحمية وتدميرية،  وتتعامل مع الذات مثل تعامل الشاعر الجاهلي مع الأطلال. فجبران دائما في موقع الرثاء والتشكي والتنقيب عن بقايا تحت رماد العادات. ولذلك أنظر لأعماله على أنها أعمال مقاومة اجتماعية، فهو لم يكن يريد تحديث بنية العقل العربي ولكن كان يطالب بالعدالة لنفسه، إن لم يكن يطلب درء المظالم عنه. ومهما ألحقنا به من صفات نيتشوية، يبقى جبران واحدا من زمرة مؤمنة بالجمال للجميع والحرية للذات.

ولكن أعمال الدكتور بركات على سوية واحدة مع روايات الدكتور سنان أنطون. وتبدو لي أنها نضالية، ووراءها هم يحدوه وعي قوماني، وما توهمه بركات عن شمولية المجتمع العربي وكليته وعدم تصدعه إذا رأيته من الخارج يعكس قصور نظر المستعمر وعدم قدرته على ملاحظة الفوارق الجزئية بين حوض حضاري مشرقي وآخر، بالضبط مثلنا حين ننظر لمجتمعات جنوب وشرق آسيا. نرى التشابه ولا نلاحظ الفوارق. والتعميم صفة سلوكية في الشركات متعددة الجنسيات. فهي تبحث عن استثماراتها وما تدره عليها من أرباح أو عائد مادي، ولا تهتم بالبيئة النوعية.  ولذلك أول ما يلفت النظر في أعمال بركات وأنطون وهذا الرعيل – شريحة أساتذة الجامعات – هو المقاربة الفنية وليس الموضوع القومي أو الاغترابي.

ويتفرع عن هذه الحقيقة جدلية متعاكسة بين الخطاب وأطروحته. فخطاب الهوية يأتي غالبا بشكل ذاكرة مغيبة، وأحفورية، ونعمل على إعادة اكتشافها بشيء غير قليل من النوستالجيا إن لم يكن الاغتراب الروحي. ونحن نتعامل مع التعبير الهوياتي باعتبار أنه مكون نائم، أو مدفون تحت مسافة عميقة من المعاناة. ولا يختلف واقع هذا الحال عن التعمية المتعمدة على الذاكرة (بما يرادف معنى النزيف – أو الزهايمر الاجتماعي والوجداني). فبقدر ما تمنحنا الذاكرة معنى تزيد من وعينا بالعجز والنقصان. بعكس سياسة الخطاب (وبالأخص بعد الكولونيالي – وأفضل أن أسميه خطاب الاستقلال أو التحرير)، فهو يحول الإشكال لخدمة السلطة، أو لصناعة سلطة بديلة، ويهدد الحقيقة الروحية والحضارية (ولفهم هذه المشكلة يمكن مقارنة ثنائية غينوا أتشيبي: تداعي الأشياء، ومضى عهد الراحة – الجزء الأول تعريف واكتشاف للروح، والثاني مقايضة عليها بصور باردة). وللتوضيح: الأول أقرب للأعمال القلقة والملحمية التي عبر بها ديفو عن معضلة الإنسان وهو يصارع الطبيعة ويروض نفسه، والثاني يكرر لغة المطابخ والصالونات على طريقة جين أوستن.

ولا بد من إضافة نقطة ثالثة بشكل استطراد على الموضوع. أدب المنفى هو لفئة من المدللين الذين ترعاهم مؤسسات توسعية ذات أطماع في بلادنا. ومثلما لقي غائب طعمة فرمان الدعم والإشهار في موسكو لقي الطيب صالح الدعم والترويج في لندن. وبوجيز العبارة تعرف الإمريالية كيف تصنع من كاتب رمزا وطنيا، بينما لا يشتهر أدباء الداخل إلا إذا مروا بتجربة مؤلمة مع السلطات، وربما إذا ماتوا تحت التعذيب. ولذلك لا توجد علاقة بين مضمون أدباء المنفى  وذيوع أسمائهم. ومثلما كان جبران حداثيا ورائدا، لتوفيق يوسف عواد يد بيضاء على الرواية اللبنانية. لكنه لم يشتهر مثل جبران. وبقيت روايته الهامة “طواحين بيروت” في إضبارة مغمورة، مع أن موضوعها هو حصار مدينة براقة مثل بيروت لبنت ريفية صغيرة. وهذه علامة تؤشر لنوايا مجهضة بالهجرة وإلى بنية انتقالية تضع الحدس جنبا إلى جنب مع مرارة التجريب ومصاعبه. ويمكنني تعميم نفس المنطق على أدب الأرض المحتلة. فالنماذج التي تصلنا من هناك تعبر عن وعي مزدوج بالغربة، فهي مكتوبة في حدود حائرة، الذاكرة  عربية والواقع إسرائيلي. ويتخللها مغامرات فنية أشبه بالخدع الفنية في السينما. فهي تستعمل لغة عربية لتعبر عن بلد بحالة انتظار، ليس له حدود واضحة ولا سلطة معروفة، ويحكمه الشارع – الاجتماعي مثلما تحكمه سلطة بيروقراطية تعمل في المكاتب. ولا نستبعد في هذه الحالة انفجار الخيال عن لغة استثنائية تدمج الأساطير بالخرافات الشعبية بقالب خيال نخبوي يغلفه الغموض والاحتمالات (انظر كتابات ناجي ظاهر وعلاء حليحل وحسين فاعور الساعدي).  إلا أن مواقف وخيال بركات (ومثله هاني الراهب وسنان أنطون) تتقاطع مع القضية بالموضوع، بينما يعزل الأسلوب نفسه وراء ستارة من الاستعارات والرموز ومكياج الحداثة. فأنطون يركز على تفكير تومائي جديد يضع الغابة وجها لوجه أمام بيت العبادة – المكان الذي يستريح فيه الرب. والاستلاب الذي يتعرض له الطرفان يكون بنتيجة اعتداء مبيت على الغابة وتعويم الإله – بتعبير آخر نتيجة سياسة تأزيم غير درامي. أو بلغة أبسط هي حصيلة ترقية للإله من الجانب الوظيفي على الأرض إلى الجانب اللاهوتي في السماء، تمهيدا لصناعة تاريخ من القهر الطبقي الذي نظر إليه بركات نظرة حضارية. وإصراره على التفسير الحضاري يجنب التاريخ من دمويته وتعنته، ويحقنه بروح رواقية هادئة وسائلة. حتى أنه يقر في شهادته عن رواياته أن الماء هو بداية ونهاية الحياة. وإذا كان كل شيء يحترق إن الماء يتفكك ويتصاعد ويتطور مثل روح الإله الشفافة التي لا تحجب منافذ الخلاص عن مؤمن. وربما كان في ذهنه الرسالة الحضارية التي كان يبيعها الفينيقيون للعالم وهم يجوبون المحيطات بسفن يتقدمها رمز تمثيلي لطائر أحمر يدل على خصوبة شواطئ المتوسط وعلى لونها القرمزي الذي يشبه دم الحياة. وإذا ساعدت هذه التصورات الجانب الفني على تحرير نفسه لم تساعد الجانب الموضوعي على الشفاء من شعور باهظ بالاغتراب والعزلة. وكما ورد في ختام شهادة حليم بركات عن أعماله إن الواقع الاجتماعي الثقيل الذي يهبط ويجر أفكارنا معه إلى الأسفل لا يؤهل أحدا لتحقيق “وعي متوازن بالذات والعالم”. ولذلك لم يبق أمامنا غير التعبير عن “اشتداد الأزمة في علاقة العرب بالغرب”، وتفاقم حالة هدر الفرص والإمكانيات. حتى أن الهجرة التي مثلت طوف نجاة أصبحت احتمالا إضافيا يقود إلى جحيم دائم نحمله معنا. وما تخيلنا أنه حلم ثبت لنا أنه واقع جائر لكن له شكل آخر.

* صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. 226 ص.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *