تغريبة القافر.. طبقات من الكلام بعضها فوق بعض

(ثقافات)

تغريبة القافر.. طبقات من الكلام بعضها فوق بعض

سامر المجالي

تحفل رواية “تغريبة القافر” لزهران القاسمي؛ الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها السادسة عشرة، بكمٍّ كبير من المسكوت عنه الذي يمنح الصدارة للجانب الفكري من الرواية، دون التقليل من شأن جمالياتها الفنية المبثوثة عبر فصولها جميعا..

ولعل السبب الذي جعل الماء حاملا رئيسيا لفكرة الرواية، أنه -أولًا- مدخل إلى البيئة العمانية المعروفة بأفلاجها؛ أي قنوات السقاية التي يسير خلالها الماء بعد استخراجه من باطن الأرض، وهذا نظام سقاية قديم تميزت به عُمان منذ آلاف السنين، وأنه -ثانيًا- عنصر غائر في باطن الأرض قدمت الرواية وصفا دقيقا لكيفية استخراجه وما يكتنفها من صعوبات. والسمة الأولى؛ أي البيئة، شكلت جماليات الرواية، أما السمة الثانية؛ أي خروج ما هو باطن إلى النور، فكانت المحور العام لما تريد أن تقوله الرواية، ويمكن عدها ثيمة، فالباطن بعيد أو مراوغ، ورصده موهبة نادرة الوجود جسَّدها البطل سالم بن عبدالله ومن قبله أمه الغريقة مريم بنت حمد ود غانم، وهو لا بد أن يخرج، لكنْ بعد أن يرهق أولئك العاملين على إخراجه، ويكون خيرا لهم وخطرا عليهم في الآن نفسه، فهو يسقي العطاش وينقذ البلاد من المَحل، لكنه في الوقت نفسه قوة هادرة عمياء قد تأتي بالموت والدمار.

هذه القوة التي تمكث في الأعماق كشفت عن نفسها في غير مكان من الرواية عبر نقد مبطن لما آلت إليه أحوال الناس في بلادهم، وعبر استحضار الماضي؛ فالرواية كلها سارت في إطار جواني كانت دواخل الشخصيات هي العنصر البارز فيه.

تدور القصة باختصار حول حادثة غرق امرأة اسمها مريم بنت حمد، كانت تعاني من صداع قاتل يلازمها في كل وقت، ولا يشفيها منه غير وضع رأسها في الماء، ثم يأتيها نداء من أحد الآبار في القرية فتنزل فيه وتغرق في مائه، وحين تُستخرَج جثتها يكتشف أهل القرية أن في بطنها جنينا ما زال حيا، فيخرجونه ويسمونه سالم، ويكون بطل الرواية من تلك اللحظة حتى النهاية.

ينشأ سالم في حضن عمة أمه كاذية بنت غانم، وتتولى جارتهم آسيا بنت محمد إرضاعه، فيكبر ويشتد عوده، لكنه منذ بواكيره تظهر عنده موهبة الاستدلال على وجود الماء الغائر في باطن الأرض، فيوظف موهبته هذه في خدمة الناس الذين يقابلونه بالسخرية في بادئ الأمر قبل أن يدركوا حقيقة ما يتمتع به من قدرات، ويشتهر أمره في القرى المجاورة، فيتخذ اكتشاف منابع الماء واستخراجه من باطن الأرض مهنة له يساعده فيها والده، إلى أن يأتي يوم يموت فيه والده بعد أن تنهار عليه إحدى القنوات المائية، فيقرر سالم هجران هذه المهنة، ويعود إلى قريته بعد أن يتزوج حبيبته التي كان يهواها منذ صغره.

تمضي الأحداث نحو مرحلة يغادر فيها سالم قريته مرة أخرى بعد أن يأتيه عرض مغر لاستخراج الماء من قرية بعيدة، فيعمل بجد إلى أن يقع في إحدى القنوات فيحاصره الماء ولا يتمكن من الخروج من القناة إلا في آخر جملة من الرواية، وسط طوفان هادر يترك مصيره مفتوحا بين الموت والنجاة.

وهنا يمكن إبداء ملاحظات عديدة:

استخدم المؤلف الراوي العليم الذي سيطر على كل نبضة من نبضات الرواية، وكانت الحوارات في الرواية مقتضبة. هذان التكنيكان يؤكدان الإطار الجواني الذي يحكم مسار الرواية؛ تماما كما هو شأن الماء في باطن الأرض، فدواخل الشخصيات هي العنصر الأساسي، وقد أفاض الكاتب (الراوي العليم) في وصف هذه الداوخل، كآلام مريم بنت حمد التي كان كل شيء ظاهرا على وجهها كما وصفها رجل غريب مرَّ بالقرية، وكمعاناة آسيا بنت محمد الصامتة أثناء غياب زوجها الطويل، والحب المكبوت الذي جمع بين كاذية بنت غانم والوعري سلام ود عامور، ومعاناة البطل سالم من سخرية أهل القرية منه وإيثاره الصمت أمامهم.

دارت أحداث الرواية في جوٍّ تشاؤمي سيطرت عليه الخرافة، وفقد فيه الإنسان السيطرة على مصيره، واستُخدمت فيه الحكمة، لكنها حكمة مجتمع مقهور لا يملك من أمره شيئا. ولعل الملاحظ أن كل غياب في الرواية هو غياب أبدي، فالذي يذهب لا يعود، كما حصل لزوج آسيا بنت محمد، ولغانم جد البطل سالم.

استخدم الكاتب لغة رشيقة مقتصدة، فوضعت كل كلمة في مكانها، وابتعد عن التطويل والإسراف في الوصف، غير أنه في مواضع قليلة تكلَّفَ في تشبيهاته، ربما بسبب إصراره على الزج بالبيئة العمانية في كل عنصر ومشهد من المشاهد. مثال ذلك قوله في وصف رد فعل آسيا حين سمعت سالم يناديها بكلمة ماما لأول مرة: “تلك الكلمة التي ما إن سمعَتها منه لأول مرة حتى احتضنته وبكت بحرقة كفلج نشيط رفع الصوار عن قنواته فسال بلا رادع”، أو قوله في إحدى الحالات الشعورية لعبدالله بن جميل والد سالم: “وقد نبتت في قلبه الوساوس كما تنبت على طرف الوادي شجيرات الظفرة بعد مطر غزير”، فهذه، وأخرى غيرها، تشبيهات ثقيلة كان يمكن اختصارها إلى ما يخدم العنصر البلاغي الذي أجاد المؤلف استخدامه في معظم المواضع.

كان إيقاع السرد سريعا في بعض الأحيان، والانتقال من حدث إلى آخر انتقال مباغت يُحدث إرباكا عند القارئ، كما أن اللهجة الدارجة العمانية لم تكن مفهومة في عدد من الجمل التي نطقت بها الشخصيات.

حوت الرواية نقدا للأوضاع القائمة، وهو نقد مبطن يظهر نفسه ويخفيها، ومن ذلك ما نادى به عبدالله بن جميل ولده سالم حين أيقن أنه ميت لا محالة: “باه بلادك ما بلاد، البلاد اللي تاكل أموالك بلاد فاجرة، البلاد اللي تستغلك وتاخذك تمرة وبعدبن ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة”. أو ما أخبر به الراوي العليم عمّا قاله سالم لزوجته نصرا حين اشتد أذى الناس له: “أخبرها القافر بأن أهل قريته يستقوون على الضعيف، يشمتون بمصائب المساكين، لكن لو حدث ما حدث في أحد بيوت شيوخهم وسادتهم لما نبسوا بكلمة، فهناك يغدو العيب حكمة والجنون فطنة ورجاحة، فالأعمى من أصحاب الجاه بصير بمكانته، والجبان قوي بماله أو بانتمائه لبيت يعصمه”.

ولعل هذا النوع من النقد هو كالماء الذي يجري في باطن الأرض، ويتطلب من يحسن الإنصات إليه لإصلاح الأوضاع القائمة، آخذين بعين الاعتبار ما يمكن تأويله في نص كهذا غني بالدلالات؛ فليس كل ما في باطن الأرض يجدر إخراجه، والماء قد يكون رمزا لهذا الكل في بلد نفطي تقوم ثروته على ما يستخرج من باطن أرضه. ولنستمع لهذا النص المحمل بإمكانيات تأويلية كثيرة: “حدثته نفسه بأن من الخطأ أن تخرج بعض الأشياء من سجنها، وأن الماء الذي يعيد الحياة إلى القرى كان لزاما أن يبقى في مكانه لأنه مصحوب بلعنة منذ القدم”.

بل إن التأويل قد يطال جوانب أخرى أبعد غورا مما تقدم، كالقصة التي روتها إحدى العجائز عن خاتم يحتوي “أعمالا روحانية تكرم حامله وتعلي من شأنه في عيون الناس”، ذاك الخاتم لم يعرف مصيره بعد أن أحدث شقاقا بين ولدي صاحبه الذي توفي، فأراد كل واحد منهما الاستئثار به لنفسه. اختفى الخاتم واختفى معه تقدير الناس، ولم يعد بالإمكان العثور على بديل له لأن صاحبه كان قد “ابتاعه من مدينة بعيدة تسمى نزوى”..

يمكن القول إذن إن الرواية جميلة وتستحق الاهتمام، وفيها من جوانية المؤلف نفسه شيء كثير..

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *