بعض أطعمتنا المفضلة تأتي من مصادر “مقززة”



*فيرونيك غرينوود


ربما يبدو مفاجئاً أن بعضاً من أكثر المكونات الشهية لأطعمتنا، تأتي من مصادر قد تُوصف بالـ”وضيعة”؛ بدءاً من العظام والجلود المسلوقة وصولاً إلى رواسب عمليات التخمير.
ما الذي يجمع بين الجيلاتين والعسل الأسود والـ”مِرمايت” (عجينة خلاصة الخميرة)؟ الإجابة أنها كلها منتجات غذائية، بدأت كمنتجٍ ثانوي لأطعمة أخرى، وهي في حالتنا هذه وبالترتيب: اللحم والسكر والجعة. ولذا ربما لا تطرأ الأبقار أو الماشية على بالك، وأنت تلتهم حلوى الجيلي “الهُلام”، كما قد لا ترد على ذهنك الخميرة وأنت تبسط عجينة الـ”مِرمايت” على شطيرتك من الخبر المحمص. رغم ذلك، ثق في أنه لولا وجود الأبقار وبكتيريا الخميرة لما وُجِد “الهُلام” أو الـ”مِرمايت”.
فالـ”مِرمايت”، ونظيرتها المخصصة للنباتيين المعروفة باسم “فيجيمايت”، وغيرهما من المواد الغذائية التي تتخذ صورة عجينة تُبسّط على شطائر الخبز، تُحضّر كلها من رواسب عملية تخمير الجعة. فبعد أن تؤدي بكتيريا الخميرة دورها في تحويل السكر إلى كحول، يتم استخلاصها مع خليط شبه سائل من مكونات أخرى، ونقل المزيج كله إلى إحدى وحدات التصنيع، لكي تبدأ هناك عملية تحولها إلى شيء آخر يبدو أكثر شبهاً بالطعام (وذلك إذا كنت من بين من يرون أن مثل هذه الاختراعات الغذائية تشكل مواد صالحةً للأكل).
هناك، تبدأ خلايا بكتيريا الخميرة في التفكك، لتخرج منها البروتينات والمواد الأخرى الموجودة بداخلها عبر جدرانها، وذلك من خلال آلية “نَبذ” أو “طرد مركزي”، تعمل من خلال توليد قوى طرد، تدور حول محورها بداخل الخلايا، ما يؤدي إلى دفع الجزئيات الأثقل وزناً إلى خارجها.
وتُتاح الفرصة، لما نجم عن هذه العملية من سائل بروتيني شبيه بالحساء الثخين، لكي ينضج ويتعتق، بفعل عمليات تكسير الجزئيات، التي تنهمك فيها الأنزيمات المرتبطة ببكتيريا الخميرة.
وتساعد الأحماض الأمينية، وهي المكونات الرئيسية للبروتين، على إكساب هذا المزيج مذاقا دسماً مالحاً فاتحاً للشهية. وكلما سنحت الفرصة بشكل أكبر للإنزيمات لأداء دورها، اكتسب المنتج النهائي مذاقاً لاذعاً ولطيفاً ومستساغا. بعد ذلك تُوضع اللمسات النهائية على هذا المزيج، من خلال التخلص من المياه الزائدة فيه عن طريق تبخيرها، وإضافة مكونات مُكْسِبة للنكهة، لجعل تناول “خلاصة الخميرة” أمراً ممتعاً.
وعلى أي حال؛ فإن خلاصات الخميرة هذه، التي قد تبدو مختلفة عن أكثر المنتجات المألوفة الصالحة للأكل في العالم، من بنات أفكار كيميائي ألماني شهير كان يعيش في القرن التاسع عشر، ويُدعى يوستس فون ليبيغ. وكان هذا الرجل من العلماء الرواد في مجال الأسمدة، وكانت له إسهامات رائدة أيضاً فيما يخص العديد من الرؤى والأفكار الأساسية، التي ظهرت في وقت مبكر للغاية بشأن الكيمياء العضوية.
وفي عام 1816، عندما كان فون ليبيغ لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، أدى ثوران بركان في منطقة باتت حالياً جزءاً من إندونيسيا، إلى أن تشهد أوروبا ظاهرة عُرفت باسم “عام بلا صيف”.
وفي السنوات التالية، بدا أن فون ليبيغ لم ينسَ قط ما أسفرت عنه هذه الظاهرة من تراجع رهيب في إنتاجية المحاصيل، أفضى بدوره إلى حدوث مجاعات. وقد كرس الجانب الأكبر من عمله كعالم في الكيمياء مُركزاً على الأمور المرتبطة بالزراعة والتغذية. كما أنشأ شركة باسم “ليبيغز إكستراكت أوف مييت كُمباني” التي أصبح اسمها فيما بعد “أو إكسو”، والتي تنتج مكعبات مرق اللحم البقري.
وهكذا، فإذا ما كنت تعكف على تخمير الجعة في منزلك، وتريد ضخ الحياة فيما خلّفته هذه العملية من رواسب، بوسعك الاستعانة بوصفة تقترحها مُدَوَنْة على شبكة الإنترنت، تحمل اسم “نوردِك فوود لاب”. وتوفر هذه الوصفة فرصةً للطهاة من ذوي العقول ذات الطابع العلمي، لتحضير خلاصة خميرة خاصة بهم، صالحة لكي تُبسط على شطائر الخبز.
أما العسل الأسود، فهو عبارة عن رواسب لما يتخلف عن عملية تصنيع سكر المائدة. وتبدأ هذه العملية بسحق وعصر قصب السكر، لاستخراج عصارته، ومن ثم غليّها لكي يتبخر منها الماء. ومع تحول العصارة إلى سائل أكثر ثخانة، تبدأ بلورات السكر في التبلور. وبعد ذلك يتم تدوير المزيج كله بسرعة شديدة في جهازٍ للطرد المركزي، حتى تخلو البلورات تماما من المياه، وتتحول إلى الحبيبات التي نراها عادةً في عبوات “سكر المائدة”. ولكن بوسعنا بعد ذلك، تركيز وتكثيف العصارة المتخلفة عن ذلك – والتي يُطلق عليها اسم “السائل الأم” – بشكل أكبر، لتصبح شراباً سميك القوام حلو المذاق ذا طعمٍ لاذع قليلاً.
وبالإمكان تخمير العسل الأسود، مع المياه وبكتيريا الخميرة ثم تقطيره، لإعداد شراب “الروُم” المسكر. وقد شكّل هذان المنتجان، “العسل الأسود” و”الروُم”، جزءاً من مثلث تجارة سيئ الصيت؛ ربط أفريقيا بمنطقة غرب الإنديز والمستعمرات الأمريكية التابعة لبريطانيا، وأوروبا، بدايةً من القرن السادس عشر.
ففي تلك الحقبة، كان العسل الأسود، المستخلص من قصب السكر المزروع في الإنديز، يُرسل شمالاً ليتحول إلى “روُم”، ومن ثم يُصدّر هذا الشراب بدوره مع سلع أخرى إلى أفريقيا، ليُقايض كل ذلك هناك بـ”السلعة الأخيرة” في هذه السلسلة، وهم العبيد، لتبدأ الدائرة من جديد بمبادلة هؤلاء بالعسل الأسود، وهكذا دواليك.
وكانت الضرائب التي فرضتها بريطانيا على كميات العسل الأسود الواردة إلى المستعمرات الأمريكية الخاضعة لها، وما أعقب ذلك من تزايد جنوني في عمليات تهريب ذلك الشراب الحلو، تشكل جانباً من الملابسات والظروف التي اندلعت في ظلها الثورة الأمريكية.
وإذا انتقلنا لـ”الجيلاتين” (الهُلام)، فسنجد أنه نوع غريب من المواد الغذائية، إذ يصبح ذا طابع رجراج ومذاقٍ حلو ولونٍ براقٍ متألق، عندما يتحول إلى حلوى الـ”جيلي”، وهو ما يجعل من اليسير على المرء أن ينسى حينها أنه يلتهم في واقع الأمر طعاماً حيوانيّ المنشأ.
فالأمر يبدأ مع غلي ما يتبقى من جلود وعظام الماشية والدجاج والخنازير، وهو ما يؤدي إلى تفتت جزئيات مادة الكولاجين الموجودة في الأنسجة الضامة، وتبددها في الماء. وبعد ذلك، يمكن تصفية ما يتخلف عن ذلك من جدائل وخيوط، وتجفيفها على شكل مسحوق.
فبينما يكون بوسع هذه الجدائل والخيوط أن تشكل روابط مع بعضها البعض، إذا ما تُركت في درجة الحرارة العادية، يؤدي صب الماء المغلي عليها، وما يستتبع ذلك من ارتفاعٍ لدرجة الحرارة، إلى تخلل هذه الروابط، وتحرير الجزئيات ليتسنى لها بلورة تكوينات جديدة، وهو ما تسارع بفعله مع تراجع درجة حرارة السائل الذي تسبح فيه، لتتبلور مصفوفات ثلاثية الأبعاد من تلك الجدائل.
وترتبط هذه الجزئيات أيضاً بجزئيات الماء، مُحيطةً نفسها بغلاف مائي، ليصبح الناتج النهائي لكل ذلك، عبارة عن شبكة كثيفة من خيوط الكولاجين التي يربط الماء فيما بينها.
ويتعين على المرء هنا توخي الحذر من وضع أنواع فاكهة طازجة بعينها في “الجيلي” أو حلوى (الهُلام)؛ تحديداً الأناناس والبابايا، اللذين يحتويان على إنزيمات نشطة من شأنها تمزيق سلاسل الكولاجين، وهو ما يفقد “الهُلام” قوامه شبه المتماسك ويجعله أشبه بحساءٍ حلو الطعم، لا أكثر.
ومن وجهة نظر المستهلكين، بات تحضير الجيلاتين الآن مسألة بسيطة نسبياً. من جهة أخرى، يتعين القول إنه كان لظهور هذا المنتج؛ دورٌ اجتماعيٌ هائل، خاصة في الولايات المتحدة. ولفهم هذا الدور وإدراك أبعاده، ليس بوسعي ترشيح كتابٍ أفضل من كتاب “التاريخ الاجتماعي لسَلَطة الجيلاتين”، لمن يريد القراءة في هذا الموضوع.
ولكن الأمر لم يكن دوماً يسيراً وبسيطاً. فالوصفات المبكرة لإعداد الجيلي أو حلوى “الهُلام” كانت تنصح الطهاة، بسلق أرجل العجول الموجودة لديهم لفترة طويلة، وبشكل مكثف، حتى يجف الماء المستخدم في هذه العملية بشكل كامل تقريباً. كما كان تحضير الجيلي يتضمن غالباً الاستعانة بـ”مثانات العوم” الموجودة بداخل الأسماك، ولكن بعد تجفيفها، لتصبح منتجاً يُعرف باسم “غراء السمك”. بل إن تحضير “حلوى الهُلام” هذه كان يشتمل كذلك في بعض الأوقات على استخدام قُشَارة العاج.
في نهاية المطاف، ثمة أمرٌ واحدٌ مؤكد، وهو أنه بوسعنا أكل كل شيءٍ تقريباً.
___
*BBC

شاهد أيضاً

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته يقطان مصطفى منذ منتصف القرن الحادي عشر وحتى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *