*حوار: محمد الشحري
( ثقافات )
إذا كانت العبقرية هي الموهبة التي تعطي القاعدة للفن، ولما كانت الموهبة بوصفها قوة مبدعة فطرية في الفنان تنتسب إلى الطبيعة كما يقول إمانويل كنت في كتابه نقد ملكة الحكم، فيحق لنا القول أن النحات سالم المرهون يملك هذه القوة الفطرية المبدعة، التي تجسدت في أعماله النحتية المنبثقة من عُصامية ألهمت صاحبها ومنحته موهبة امتلاك الأدوات التي يستطيع بها التعبير عن مفاهيم الأشياء، فالنحات سالم المرهون، نحات عصامي بامتياز نشأ في بيئة لم تعرف النحت الصخري قبله ولم يلتحق بمدرسة فنية في النحت ولم يخرج أصلا من مدينته صلالة التي استوحى منها مفردات ثقافية وجسدها في أعماله النحتية، إلا بعدما حفر بالمطرقة والإزميل أعماله النحتية التي فرضته على الساحة التشكيلية الخليجية.
لم يقف الفنان سالم المرهون عند ذلك بل أبدع في مجال آخر لم يسبقه إليه أي فنان آخر وهو نحت الحروف من الحجر، وهنا تأتي مقولة امانويل كنت التي تقول أن العبقرية موهبة طبيعية تقدم في إبداع ما لا يمكن إعطاء قاعدة محددة له، وهنا نعطي لمحة ذاتية عن الفنان الشاب سالم المرهون المولود عام 1971 في مدينة صلالة في اقليم ظفار جنوب سلطنة عُمان، نال جائزة ملتقى الشارقة للخط في مجال الفنون التي تستلهم الحرف العربي 2012، ونال جائزة الإبداع الكبرى في المعرض السنوي الرابع عشر للفنون التشكيلية مسقط 2006، كما حاز على العديد من الجوائز في مجال النحت في السلطنة خلال الأعوام (2003 و2004، و2007و 2008) ونال جائزة لجنة التحكيم في المعرض السنوي العاشر للفنون التشكيلية ( مسقط 2002 )، وفاز بالجائزة الذهبية في مجال الرسم والتصوير في المعرض الرابع للشباب ( مسقط 2000 ) ، كما شارك في العديد من المعارض الدولية في مجال النحت، منها بينالي الشارقة للخط (2012) وسمبوزيم النحت الأول على الرخام بالدوادمي ( الرياض 2012) وسمبوزيوم البحرين الدولي الخامس للنحت (2011) و سمبوزيم الظهران ( فعاليات صيف أرامكو – السعودية ) (2010)، وبينالي بنجلاديش (2008 ) و سمبوزيوم مسقط ( ملتقى النحاتين الخليجيين 2007) و المهرجان الثقافي الخليجي الأول بدولة الإمارات العربية المتحدة (2007)، و معارض الجمعية العمانية للفنون التشكيلية من عام 2000 إلى 2008، وغيرها من المعارض.
– ما حكايتك مع الحجر؟
• الكلمة والقلم والسيف والبندقية والخيل والحجر هي الأدوات التي يتجمّل بها الرجال ، وكانت هذه الأدوات ولا تزال تمثل مفردات للزهو والانتفاع ، فحين نمتلكها نشعر بأننا أحرار وأننا أجمل وأكمل ، أما بالنسبة للحجر فهو حامي حمى من تقلبات الزمن، قد نجده كهفا أو نبني به الحصون ونشيد به البيوت والقصور، وبه نوقد النار منذ أن اكتشفه الإنسان، وحتى بعد الموت يظل الحجر ملازما للإنسان، كشاهد على قبره وكأنه حارسه الأزلي، أن الحجر كان مقدسا في الجاهلية فالأصنام هي رموز الآلهة على الأرض كما اعتقدها الأولين ، و جاء الإسلام وأبقي للحجر مكانته المتمثلة في البيت الحرام، والحجر الأسود في الكعبة و حجر المقام، هنا نجد أن الأفكار تغيرت حول الحجر , وهو بغير فكر يبقى مع صلابته شديد الطواعية لأسياده ، ومع هذه القسوة إلا أنه ألين من قلوب بعض البشر.
– رائعة هذه العبارة الحجر ألين من قلوب بعض البشر، من المعروف أنك عصامي العمل، تعلمت النحت وحدك وأبدعت فيه، فإلى أي مدى يمكن للفن أن ينشأ وحيدا ويخلق ابداعا استثنائيا في أماكن لا تعتبر مركزية للفنون؟
• ينشأ الفن من الحاجة إلى الراحة الروحية أو الجسدية ، لأن الإنسان بطبيعته غير مطمئن في حياته، ويحتاج دائما إلى ما يعينه ليخلد إلى الراحة، والمادة المكونة للإنسان كالماء والطين تحثانه على الاستقرار، فأينما وجد الانسان تجده في سعي للتعبير عما في خلجات نفسه من هموم ، فيبث هذه المكنونات مجتهدا في إقامة علائق حسية بين خبرته وحاجته، فإذا كان وحيدا كفرد أو كمجتمع منغلق إن صح التعبير جاءت النتائج متفردة لأنها مستلهمة من تكوين أصيل ، لم تخضع لمقترحات أو استقراءات لنفس بشرية مختلفة ، نكتشف إن المجتمعات تطرح فنون نفعية وغير ذات منفعة لتعبر بغير قصد عن خصائصها مشاعرها وأفكارها , فالفن ليس عطاء ونتائج منفذة ومقروءة فحسب بل هو وعي ومنطق وعقلانية واستيعاب، إنه انصات وانتباه ، إدراك وتأمل وباختصار هو الذي يمنح للحياة نبضها.
– بدأت التعرف على النحت في العام 2003- حسبما أظن- ومنذ تلك الفترة وإلى الآن حققت انجازات سواء أعمال نحتية أو جوائز محلية واقليمية، أو بالمشاركة في معارض دولية، فكيف حققت ذلك مع العلم أنك عصامي التكوين؟ وهل تعتقد أن الجوائز مهمة للنحات؟
• حققنا ذلك بفضل الله ، ثم بفضل الأصدقاء الذين يقترحون علينا المشاركة في بعض الفعاليات، وكنت دائما أحب أن أعطي القوس باريها، وأرى أن الأستاذ المتمكن من أدواته مثل الطبيب الذي أقبل منه العلاج دون مناقشة، قادني ذلك إلى مشاركات على المستوى الدولي مع نحاتين حقيقيين، أثرت فيّ تلك المشاركات وأدركت يقينا أنه لا يوجد نهاية للمعرفة أو للتعلم، فكان الوقوف بجانب ذوي الخبرة – الذين أشبههم بحاملي المسك الذين ننتفع منهم- أهمية كبيرة في نقد الذات قبل نقد الاسلوب والوظيفة، كذلك الجوائز كان لها باعثا كبيرا في النفس، فحينما يقدم الفنان تجربته للمشاركة ثم يترشح للفوز، يتأكد من نجاح التجربة التي قدمها، ويحثه عقله على مواصلة العمل في الاتجاه ذاته بخطى أكثر ثقة وتمكن من إعجاب
الآخرين.
– تختلف أعمالك النحتية بين المرأة والجرّة والحروف، خاصة حرف الهاء فما السر في هذه العناصر الثلاث؟
• هي ليست ثلاثة قد تكون أكثر من ذلك، والسر هو الحياة، فالحياة مليئة بالأسرار، فأينما وجدت مصدر من مصادر الحياة أو الخلود أجد شيئا يدفعني للتوغل فيه، وأعمالي النحتية كانت مجرد أوهام أردت أن أحتفظ بواسطتها بالفكرة من النسيان، وأعمالي التشكيلية التي نفّذتها قبل نحت الحجر كانت تدور في الفلك ذاته، فمن أهم أسباب الحياة هو الماء، ومن هنا تتبعت مسيرة الماء، فالمرأة والجرّة بينهما تشابه كبير ، فالجرّة مثلا تخزن الماء، والمرأة تحمل الماء، وكلاهما خلقتا من طين – الجرة والمرأة- وكسرهما لا ينجبر، أما حرف الهاء فهو الحرف الوحيد الذي يخرج من الجوف، كأن الروح تنطقه، متفردا بفراغين عند كتابته وهذه ميزة أخرى، أضف إلى ذلك إن الفراغين في حرف الهاء يشبهان الرئتين في الشكل تقريبا، وهنا يأتي الهواء وهو أصل من أصول الوجود والحياة، ألم يتفق البشر على أن الماء والهواء عنصران من عناصر الحياة الأربعة، وقريبا من ذلك جاءتني فكرة المنحوتة التي نفذتها في (سمبوزيوم) البحرين الدولي، أسميتها فيما بعد منحوتة (الحياة)، ففي ذلك العمل الذي يشبه الزوبعة مع التمايل الأنثوي، وضعت فيه فكرة لسؤال كان يراودني عن سبب خلق الله من كل شئ زوجين أثنين، ذكر وأنثى، سماء وأرض ،شمس وقمر، نور وظلمة، وجعل في هذا التزاوج بهجة وجمال، ثم لماذا تدور الأشياء عكس عقارب الساعة؟، مثل الالكترونيات في دورانها حول النواة، والكواكب في دورانها حول الشمس وحول المجرة، ودوران الزوابع والتفافها حول نفسها من اليمين إلى اليسار ، وطواف المسلمين حول الكعبة، فهل هذا النظام الزوجي مع الحركة التي لا تهدأ ولا تتوقف مضافا إليها الزمن وهو تعاقب الليل والنهار هي الحياة؟، قد لا نتمكن من الاجابة، ولكن لاتزال الحياة هي مصدر استلهامنا للكثير من الأفكار وفي نفس الوقت قد لا نأتي بشيء جديد، لكننا نعيد الصياغة ونقلّب ما نشعر به بحواسنا وننشره بطرق مختلفة وتبقى الموجودات جميله في أصلها وبديعه في خلقها .
– من الملفت للنظر أن أعمالك النحتية متواجدة في متاحف وأماكن عامة في دول مجاورة فتسر الناظرين ، في المقابل لا يوجد للنحات سالم المرهون أي منحوتة في أي مكان بارز في مدينته صلالة فهل هو نكران أم تهميش من قبل بلدية ظفار باعتبارها الجهة المسؤولة عن جمالية مدينة صلالة؟
• أرى أن بلدية ظفار ليست مهتمة بالعملية التثقيفية في تطوير المجتمع في مجال الفنون التشكيلية ، حيث تركز البلدية على إرضاء وراحة المواطنين في جانب البنية التحتية ، المواطن في ظفار لا يزال حديث العهد بهذا النوع من الفنون التشكيلية، فلماذا ستخسر البلدية في شيء لن يقدّره أحد ولم يطلبه أحد؟!، وحتى لو سلّمنا بأن هناك مناقصات لتجميل المدينة بأعمال نحتية فستكون العملية تجارية صرفة، والنتيجة قوالب إسمنتية نفذتها شركات مقاولات ، ثم دعني اكون صريحا واسأل عدة اسئلة، وأقول أين الوزارات والبنوك وشركات القطاع العام والخاص من اقتناء الاعمال الفنية أو تنفيذها حتى تجمّل المدن؟!، لماذا لا نراهم يبنون الوطن أو يساهمون في بنائه مساهمة ترضي وتلبي حاجة المواطن وتطلعات المجتمع؟، ولماذا نلوم موظفي البلدية ؟! وبقية القطاعات كأنها تتبع الماء والكلاء ليس لها مقرا أو وطن أو كيان، ثم أنني أرجح عدم الاهتمام بالفنون إلى أننا كما اسلفت حديثي العهد بالفنون التشكيلية ، إذ أننا أبناء مزارعين أو رعاة أو مهنيين، والناتج هي إن بحثنا عن التطوير يكون بمفردات سنزرع سنربي سنصنع، ثم تسربت إلى وعينا الإداري ثقافة إن الحضارة تكون بمقدرات إسمنتية وإسفلتية ، فازدهرت لغة التطوير على ذلك ، أما مفردات أخرى مثل سنرسم وننحت سنألف ونكتب , سنقرأ ونترجم الكتب لم نعتد سماعها , وهذا ليس مستغربا لأننا لم نجد شخصا يقول كان أبي خطاطا أو رساما أو نحاتا أو مؤلفا، ولكن إذا وجدت هذه الفئات في المجتمع سنجد من يتعاطى مع الفنون التشكيلية كضرورة من ضرورات الحياة، فالفرد فينا يلاحق اهتماماته ورزقه ، والجميع عذرهم معهم والعاقل لا يلوم الآخرين عندما يختلفون عنه في الهموم والطموح والأهداف إلا إذا كان قائما على عمل فعندها ترفع الأعذار.
العمل في البلديات ولجان تطوير المدن لا يليق إلا بمن يمتلك أفكارا متنورة ومتقدمة عن الآخرين في كل نواحي الحياة، واعتمادهم فيها يكون على خزائن المفكرين والعلماء المتخصصين في مجال عملهم وليس على صندوق الاقتراحات الذي لا يُعبّر إلا عن التجويف وعن الفراغ، وأظن أن التقصير مشترك بين المؤسسة المتمثلة بالبلدية وبين الفرد الذي أمثله أنا، وكان الواجب عليّ تنفيذ بعض الأعمال الفنية في صلالة مساهمة مني في تجميل مدينتي .
أحيانا نساهم ونشارك حينما يطلب منا ذلك رغبةً في نشر الأعمال على قاعدة جماهيرية عريضة , وحتى نعبّر عن أرقى ما لدينا من أفكار، ولأنني لا أقدم أعمالا ترويجية على حساب النحت اعتذرت عن العديد من المشاركات الدولية لعدم وجود ( سكتش) مناسب للتنفيذ ، فأعمالي يتوجب عليها أن تفرض نفسها على المتلقين فإن لم تستطع يكون وجودي كنحات وعدمه سواء ، والبحث عن الذات لدى الآخرين هو ما يفرز مشاعر التهميش والنكران وينتج عنه الأعمال المقلدة والمزيفة , من أعجبه عملي واحتاج إلينا نفعناه ، ومن استغنى فقد كفى.
– أظن أن منبع الأفكار التي تجسدها في أعمالك النحتية، يعود إلى قراءتك واطلاعك الواسع على العديد من المجالات، فإلى أي مدى تعتبر أن القراءة والثقافة والوعي هي شروط لإبداع الأعمال الفنية الجميلة التي تجمد النظرات؟
• المعرفة بكل تنوعاتها توسع مدارك العقل، وبالقراءة يكبر الشخص بسرعة يستطيع من خلال هذا النمو الفكري أن ينقد ذاته في فترة زمنية قصيرة، فتأتي أعماله في بضع سنين مختلفة ومتشابهة، وكأنها كيانا ينمو ليبلغ أشده وكماله، ومع القراءة تتعلم النفس معاني الانسانية من صدق وأخلاص وإحسان فتكتسبها تلقائيا لجاهزية فطرتها السليمة، فتعود هذه المكتسبات لتصب على النتائج الفنية كجزء من أجزاء التقنية ،عندها تتميز الأعمال وتختلف عن غيرها، فكل شخص يختلف عن الآخر شكلا ومضمونا ، إذا ستكون الأعمال مختلفة بل يجب أن تكون كذلك وألا يعتبر صانعها مقلدا ، وفي الأصل لا توجد أعمال متشابهة، القراءة ستعطي البشر فن التعامل فيما بينهم ولن تكون في جانب واحد فقط ، وتترك الجانب الآخر ، تعالج كل الفنون الانسانية، ولن نعتبر الفنون التشكيلية من أهمها فهي ليست من أساسيات الحياة بل كماليات تدل على غنى المجتمع وترف الناس ، وقد نشكر النعم من خلالها أو نجحد وقد نميل عن الحق بسببها وقد نضل السبيل وسعينا في الدنيا ، ونحن نظن أننا نحسن الصنع، العمل الحقيقي والمعرفة الصحيحة ستعطي صاحبها ميزان يستطيع من خلاله أن يقيم الأمور لما ينفعه في حياته الاولى والثانية.