“القصّة والحياة” *

(ثقافات)

 “القصّة والحياة” *

عدي مدانات

    أحببتُ القصص المكتوبة والمرويّة منذ طفولتي، وقبل أن أتعلّم القراءة، ولا غرابة في ذلك، فقد كان والدي يُحضر لي القصص المصوّرة ويبسطها أمامي ويقرأ ما تيّسر، وكانت والدتي، وأحيانا جدتي لأبي، تقصّان عليّ القصص التي تحمل في طيّاتها عِظات حسنة، ولكنها تحمل أيضاً قدراً من الإثارة، مما جعلني أُفتن بالقصص وأتشوّق إليها. تعلّمت القراءة وصرت أقرأ بمفردي القصص التي دأب والدي على توفيرها لي، وفي ما بعد، تلك التي توفّرت في مكتبة المدرسة، ثمّ القصص التي صرت أختارها بنفسي وأشتريها.

    ولأنني أحببت قراءة القصص، فقد أكثرت منها، وهذا ما جعلني أرى في حياة الناس قصصاً منثورة، شبيهة بالقصص المكتوبة، كما أرى في الناس شخصيات قصصية، كتلك التي تعرّفت عليها في الكتابات القصصية، والعكس صحيح. استهوتني تلك العادة ودفعتني، عن قصدٍ أو عن غير قصد، لملاحظة كلّ علامة فارقة وكلّ ظاهرة إنسانية وكلّ سمة بشرية مميّزة ومقارنتها بما قرأت، أو البحث في ما قرأت عن تلك الملامح والصفات الفارقة. وإذ دأبت على ملاحظة الحياة في جريانها، بعمومها وتفاصيلها، والتمادي بمقارنة ما تجمّع لدي من ملاحظات بما قرأت، نمت لديّ الرغبة في القصّ، في وقت لم أكن أمتلك أدوات الكتابة القصصية. فالكتابة القصصية تحتاج أكثر مما توفرّه الحياة من قصص، تحتاج  إتقان اللغة الحاملة للمعاني، ومعرفة أدوات القصّ وأساليب الكتابة، وقبل كلّ هذا نضج التجربة الحياتية والفنية. مادة الحياة هي المنهل وهي الأساس والجوهر في الكتابة القصصية، ومن دونها لا تقوم قائمة لهذا الفنّ الرفيع. التزوّد بفنّ الكتابة، والتدرّج في محاولات الكتابة، والمتابعة الحثيثة، واكتساب الخبرة، شروط لا غنى عنها لكتابة القصة، وهذا ما يفسّر محاولاتي العديدة الفاشلة في هذا الشأن قبل الأوان.

   في ما بعد، وللعادة التي جريتُ عليها، بمقارنة ما أقرأ بما يحدث في الحياة أو العكس، صرت أميّز بين القصص الحافلة بالحياة وتلك التي تخلو منها، أعني تلك التي تستعيض عن الحياة المعيشة ونبضها ودفئها بالأفكار الباردة الجاهزة، فأحبّ الأولى وأنصرف عن الثانية. كنت أقرأ وأصدّق  انّ الشخصيّات التي قدّمها الكاتب هي تلك التي أصادفها وأعرفها، وأن  الأحداث التي ساقها وأحوال النفس التي كشف عنها، إنما يحدث مثلها في الواقع، وأنها على هذا القدر من الخصوصية والغرابة أحيانا، فالحياة ليست نَمَطيّة تماماً. وصرت أصدّق أن الكاتب الأكثر تجربة وبصيرة وصل إليها، مهما كانت مُلتبسة أو خبيئة، وأنه بذل جهده وتحرّى أسبابها ودوافعها وانتقاها بذكاء وصاغها بمقدرة، على شكل قصص فنيّة جاذبة لاهتمام القارئ. ولأن مهارة الكاتب في رصد الأحداث وأحوال النفس وتحويلها إلى  قطع فنيّة أخذت تشدّني، فقد سهل عليّ ملاحظة أنّ بعض القصص يخلو من نبض الحياة، وأن شخصيات بعض القصص تتحرّك كدمى في يد الكاتب وتنطق بكلام لا يخصّها، وكأنه وُضع قسراً على لسانها، وتتلبّس عواطف ليست من جنسها، فهي مستعارة بالكامل. عزوت الفوارق لوفرة تجارب الكاتب أو نقص تجاربه وعَوَزِه، فعملت على تعميق تجاربي الحياتيّة وملاحظة كلّ منْ وما أمرّ به، من صورته الكليّة إلى أدقّ التفاصيل، لمجرّد المتعة في البداية، ثمّ كوظيفة وعادة مُستحكمة درجت عليها. أدعو كلّ كاتب ومُقبل على الكتابة إلى فعل ذلك، للمتعة والفائدة، فلا مناص لنا جميعا من المَتح من مخزون الحياة المذهل في سخاء عطاءاته.

   سيأخذ البحث من هنا، منحى الخوض في الصلة الحميمة بين كاتب القصة والحياة، فذلك ما سيثري الكتابة أكثر مما  يثريها الخوض في الآليات والبنى والأنساق، وإن كان لا غنى عن إجادة كلّ ذلك. صلة المادة القصصية بالحياة، هي وجه آخر لصلة الكاتب نفسه بالحياة، ولا يستقيم أمر كتابة القصة من دون معرفة الحياة و تلمّس ذائقتها، بحلوها ومرّها، وهي التي ستثري كتابته وتكسبها ذلك الوهج الغريب والآسر الذي يجعلنا نعيد النظر في ما عشناه واكتشاف ما خفي علينا وأهملناه.

   سأورد لغاية تقريب منهج البحث، قصة هواية استحوذت عليّ وعلى زملاء آخرين، في مرحلة مبكرة من حياتنا. أعرف أن الحديث سيبدو تبسيطا ساذجا لموضوع شاقِ وشائك، غير أنه ليس كذلك في حقيقة الأمر، فقد تحوّلت تلك الهواية إلى عادة مفيدة، لمست جدواها في ما بعد، كما أنها بحدّ ذاتها أقرب إلى التجارب المطلوبة لمران الكاتب وزيادة حصيلته وتحسين مقدرته على الكتابة، وكما قال أرسطو : فإنّ التقليد صفة تلازم الإنسان منذ الطفولة.

 كنا مجموعة أصدقاء نلتقي أيام الدراسة الثانوية على الشغف بقراءاتنا الأدبية. كنا نجتمع ونستعيد القصائد ونتداول في أمر ما قرأنا من روايات وقصص قصيرة، فنُفتن بحقائق الحياة التي تتكشّف لنا، وسيرة الشخصيات التي نتعرف إليها، أو مجريات الأحداث التي نتابع سياقها، ثمّ عنّ على بالنا أن نلهو بلعبة القصّ، تلك التي فتنتنا. كان أحدنا يبدأ بجملة قصصية، بداية حدث مما يجري مثله في الواقع، ثمّ يسلّم جملته لآخر، ليبني عليها من بعده ويضيف، ثمّ يسلّمها لآخر، مما يساعد على بلورة قصة من مجموعة الأحداث المتتابعة بمساهمة الجميع. كانت جمل القصّ تسير في سياق واحد وتتدرّج في النموّ وتشكّل قصّة بصرف النظر عن جودتها، وقد يحدث أحيانا أن يَرِد على بال أحدنا دفع القصّة باتجاه مغاير لما سلكت عليه، فيورد حادثاً عارضاً من شأنه تغيير مسار القصّة التي أخذت ملامحها في الوضوح. تبيّن لنا أنّ الحدث الواحد، قد يمضي في سياقات مختلفة وينتج عنها آثاراً مختلفة، وهكذا هي الحياة.

    لم نكتفِ بما أحرزنا من تقدّم في ذلك المضمار، فالنجاحات القليلة التي تحقّقت، دفعتنا لطلب المزيد منها وفي العمق هذه المرة. نقلنا اهتمامنا من بناء هيكل للقصّ، إلى اختيار وفرة أو قلّة ملاحظاتنا عمّا مرّ بنا من شخصيات وأحداث، وما تكشّف لنا من طرائف العيش وغرائب الحياة. صرنا نختار شخصية اجتماعية ــ عاملاً أو مدرّساً أو ربّة أسرة أو من يخطر بالبال ــ ثمّ نطلب من أحدنا وصف الشخصية المختارة، من حيث مظهرها وعلاماتها الفارقة، ثمّ من حيث سلوكها بوجه عام، وسلوكها إزاء حدث معيّن بوجه خاص، بقصد معرفة مدى اقترابنا من الواقع وقدرتنا على تمثّله وإعادة صياغته. لم نكتفِ، فانتقلنا خطوة أخرى باتجاه وصف أماكن السكن وما يميّز الواحد منها من الداخل عن غيره من المساكن، ونذهب أبعد من ذلك إلى وصف علاقات سكان المكان الواحد بعضهم ببعض أو بجيرانهم. ونمضي مع هوايتنا ونفترض حدوث أمر طارئ يربك العلاقات المستقرّة ويثير عاصفة من العواطف المتباينة. تلك الهواية حفّزتنا على التقاط تفاصيل ظاهرات اجتماعية وإنسانية متنوّعة، كنا سنتجاهلها لولاها، وكان العالم يتحوّل بنظرنا إلى مادة كتابة. كتبنا، غير أنّ الكتابة احتاجت منّا إلى أكثر من ذلك، احتاجت ثقافة ودربة أكثر، فتعيّن علينا أن نسعى ونجدّ في سبيل امتلاك أدواتها وإتقانها.

   بقي من حديث تلك الهواية فضلة لا ضير من إضافتها. اعتقدتُ في البداية وأنا أتحرّى في الوجوه عمّا يختبئ في الصدور، أن وجه الإنسان وحده مرآة نفسه، بعينيه، بنظرته، بضمّة شفتيه وانفراجتيهما، بتقطيبة جبينه، بقسمات وجهه، بنبرة صوته، فوجّهت اهتمامي إلى الوجه أستدلّ من تعابيره على حالات النفس المختلفة، وكنت أقترب من الصواب في كثير من الأحوال، غير أنني اكتشفت أنّ جسد الإنسان كلّه يشترك بتلك الخاصيّة، ويكشف لنا ما خُفي علينا، فالجذع واليدان وأصابع اليد والسيقان، تعكس كلّها حال الإنسان كذلك. الجذعُ المنتصب غيرُ المتهالك، واليدان المسبلتان بهدوء غيرُ المتشنجتين، والأصابع المسترخية غيرُ التي تنقبض أو تنقر جانب المقعد. وسّعت دائرة انتباهي، وتوصّلت إلى أنّ الجسد يكشف أمر صاحبه أكثر مما يفعل الكلام، فأدرجت كلّ هذا في قاموسي.

   اكتساب المعارف والتجارب والمهارات الأساسية، فنٌ بحدّ ذاته يأتي للمُريد على مهل وفي وقت مبكر من حياته. ولهذا يتقدّم هذا الجانب على غيره من مكوّنات الشخصية القصصية، مما يقتضي معه حثّ الكاتب وتحفيزه على تطوير قدراته الإدراكية وإثراء تجاربه الحياتية والسعي لتعويض ما فاته، يفتح أبواب نفسه لاستقبال الحياة من غير ترفّع، لكي يتمكّن من لمس نبضها، واستقبال رفعة الفن وجماله، واعتياد هذا الفعل، وهذا ممكن دائما. سيلاحظ القارئ تركيزي على دور الكاتب في خلال مسيرة حياته الشابة، في تنمية قدراته  في هذه المجالات  مجتمعة، فهي  التي ستؤهله للتنطع لهذا الفن الصعب، حين يشتدّ عوده ويستكمل عدّته. يقول مكسيم غوركي في هذا :” على الفنان أن يعيش الحياة، كما لو أنه صنعها بنفسه”. إنّ فن القصة كما يقول د. جابر عصفور، “فن صعب لا يبرع فيه سوى الأكفاء القادرين على اقتناص اللحظات العابرة، قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها بقدر ما تكشف دلالاتها المشعّة في أكثر من اتجاه”.

 حين شرعت في الكتابة، كانت تلك الهواية التي تحوّلت في ما بعد إلى عادة مستحكمة ووظيفة إبداعية، هي ما رغبت في تناولها، كعادة مفيدة لكاتب القصة وغير مكلفة، من شأنها أن تثري مخزونه من معرفة الحياة وفهمها، ثمّ أبني عليها وبقدر أكبر من التفصيل، بالنظر لأهمية المخزون الحياتي في الكتابة القصصية، فتجربة الكاتب الحياتية وصلتها بما يكتب ومن يكتب عنهم، هي محل اهتمامي، هي ما أردت توجيه عناية كتّاب القصة القصيرة إليها وحسب، ولم يخطر في بالي أن أخوض معمعان القصة القصيرة وآلياتها وأدواتها. كنت أعتقد أنّ البحث في هذا السبيل سيكفي، ولن يتشعّب ويُفضي بي إلى مباني الشكل وأنساقه، غير أنني سرعان ما اكتشفت خطئي وأن الأمر ليس باليسر الذي اعتقدت وتوخيت، فأردت النكوص، ولكنّ الأمر خرج من يدي، بعد أن تقدّمت في الكتابة بضع صفحات، فأنا شديد الشغف بالقصص القصيرة، ولي تجربة صغيرة فيها، وقد كثُر اللبس في موضوعها، وتعدّدت الاتجاهات واختلط الحابل بالنابل.

  تلبّثت متردداً، ما بين الرغبة في المضي قدما في البحث، مهما كانت كلفته، وبين النكوص والارتداد عنه، طلباً للنجاة، ثمّ توكلت ومضيت قُدما وأنا مدرك لصعوبة المَهمة وما سيثيره البحث من جدل. ومما زاد في عزمي، بعد قراءة عدد وافر من الكتابات النقدية، في فن القصة القصيرة، ما تبيّن لي من نقص حادٍّ في معالجة دور الكاتب نفسه في بناء نفسه وإثراء شخصيته القصصية وتدريب وصقل ملكاته العقلية والجمالية وشحذ همّته، قبل أن يرتاد تجربة الكتابة، وأثناء ممارستها، فالكتابة الإبداعية من دون تاريخ إبداعي تعبوي يشوبها العوز والفاقة. بوسع الطفل فعل ذلك بنفسه، بفعل شعلة ذكائه ومبادراته الشخصية أو عن طريق طلب وتلقّي المساعدة الممكنة من الأهل والمدرسة، وبوسع من شبّ عن الطوق واختار الكتابة، أن يفعل ذلك بنفسه، عن وعي وإدراك لما يقوم به أو بالاستفادة من التجارب المتقدمة.

   * لكتابة القصة همومها وشجونها، كما هو شأن كلّ أنواع الإبداع الإنساني، وقد صارت الحاجة ملحّة للبحث فيها على خطىً متزنة، بعد أن كثرت النزعات التجريبية، وتعدّدت الاتجاهات النقدية، وساد الخلط واللغط، مع نشوء نوع من الكتابة، تتستّر بالحداثة, وتعطي أهمية خاصة للنصّ المفتوح، على حساب مجمل الكتابة القصصية الواقعية المتجدّدة وآلياتها ومضامينها.*

  أعرف أنني سأبدو، كمن يرفض التجديد ويتمسّك بقرون الماضي حتى لا يفلت من يديه. الأمر هنا ليس كذلك بالتأكيد، فأنا أعرف أن أحداً ليس  بوسعه  أن يجعل التاريخ يكفّ عن حركته وتحولاته، غير أن التاريخ لم يلقِ بهذا اللون من الإبداع في سلّة المهملات، وأن القصة ما تزال قادرة على النهوض بمَهمَّتها على أفضل وجه. الأمر أنني ومن منظور ماركسي وبكلّ قوة هذا المنهج الذي لا يعرف الجمود، وحيوّته، أراهن على قدرة الواقعية المنفتحة المرنة على استيعاب المفيد من كلّ ما هو جديد، ونبذ البدع الاستهلاكية في الفن.

 *ما  أريده هنا ، هو تفحّص هذا اللون من الإبداع الفني ومعرفة آلياته واستكشاف آفاقه وقدراته على الاستفادة من كل أنواع الإبداع، بصرف النظر عن المرحلة التي نشأ فيها وتطوّر واكتسب كماله، وبصرف النظر أيضا عن الغزوات التنظيرية المستَحدثة، فليست كلها قادرة على الثبات. لقد سبق لأنريكي أندرسون إمبرت على سبيل المثال أن وصف القصص القصيرة جدا بـ ” القصة المضادة” أو بتعبير آخر “ضد القصة”، خلال تقديمه كتابه الجليل ” القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية”. فليس العيب في قصر القصة، وإنما بافتقادها خواص القصّ وبناه. ويمكن النظر إلى هذا النوع من الكتابة على أنه لون إبداعي مستقل، وعندئذ يتعيّن على الأكفاء، استنباط المعايير التي تنأى به عن العبث  وتصون له مكانته.*

                                  ****************

 ” القصة والحياة” فصل تقديمي لكتاب دراسة بحثيّة بعنوان ” فنّ القصّة  وجهة نظر وتجربة” ، صدر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان عام 2010.

 الفقرات المزينة بنجمتين ما اختاره المؤلف  من المقدمة،  لصفحة الغلاف الأخير.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *