خرافة الملح – قصة قصيرة

(ثقافات)

قصة قصيرة

خرافة الملح

تبارك الياسين

ما زالت أم شهاب تؤمن بالخرافات، لا يمر يوم إلا وتشعل البخور خوفًا من تعويذة قديمة تكون تاهت ودخلت بيتها خطأ، أو أن يكون هناك من ينفث تحت رماد الحسد ليشعل نارًا في الجسد. الأعين الزرقاء في أرجاء البيت تحدق في وجوه الجميع بنظرات تقول نحن نراك إياك وارتكاب الحماقات.. أم شهاب هي أمي، وقد ورثت الخوف من أمها التي كانت تشعل الشموع كل ليلة بعد أن فقدت زوجها وسرقته امرأة أخرى. جدتي كانت تقول إنها وجدت شعر امرأة في ثياب جدي ملفوفة بورقة صفراء. أمسكتها، مزقتها بعد أن عجزت عن فك تلك الطلاسم والرسومات، ثم أحرقتها، لكن احتراق الورقة لم يمنع جدي من الاختفاء، ولم يبق مكانه سوى حفنة تراب… لم يصدق أحد جدتي سوى أمي التي خبأت التراب في زجاجة وضعتها على النافذة ليستدل يومًا والدها إليهم، لكن هواء باردا صفع النافذة بقوة فانكسرت الزجاجة وانتثر التراب. لم تصرخ جدتي يومها وإنما أغلقت فمها بمنديل، وبدأت تنوح بصوت مكتوم… حتى الوشم على وجهها ذاب من كثرة البكاء كل ليلة. وجدتي حكاءة تبرع في سرد الحكايات، نسيج من حكايات هو ظلي الذي يرتديني، حاكته جدتي بحروف من زعتر. كبرتُ أنا، وجدتي رحلت، وبقي ظلي طفلاً يلاحق الشاطر حسن في المرايا، ويلاحق ظل جدتي لتعيد عليه سرد الحكاية. * وحكاية ولادتي كانت الأكثر تداولًا على مر السنيين، كانت أمي تقصها لي، وجدتي لم تختلف روايتها عن رواية أمي أو الجيران، وكنتُ في كثير من الأحيان أطالب بإعادة روايتها مرة تلو مرة، وأجعل خيالي يحلق ليصنع قصة أخرى غير تلك التي رويت لي. ممر مظلم، نساء متشحات بالسواد، أمي تتوسط الممر الطويل، ثم يشع نور من أمي فأولد أنا…كانت هذه روايتي لصديقاتي في المدرسة، وكنت أتجنب إخبارهم الرواية الأصلية. لم تكن التفاصيل تهمني بقدر الصورة التي كانت ترافقني عندما تقص جدتي الحكاية … * “الجو شتائي قارس، والدك كان يبكي، لا أحد مع والدتك عندما فاجأها المخاض، من الفزع الذي انتاب والدك، هرع يدق على أبواب الجيران، فامتلأ البيت بالنسوة، جئت أنا، بدأت النساء بترتيل القرآن لتهدئة والدتك مع إنني كنت أتلو سرًا آية الكرسي إلا أنني اعتبرت ترتيل الجارات للقرآن نذير شؤم، والدتك وقتها أصرت على عدم الذهاب إلى المستشفى فهي منذ أيام فقدت جارة إثر ولادة سيئة، لذلك أصاب والدتك الخوف من أن تطأ قدماها المستشفى، وآثرت أن نأتيها بالداية (أم أحمد). ذهب الكثيرون للبحث عن داية أخرى فـ (أم أحمد) التي نعرفها ذهبت إلى الحج، جاءت داية من حارة مجاورة، وخلصت والدتك من عذابها. ليزداد عذابها. عين شريرة التصقت برحم والدتك.. فتحول رحمها لشيطان يأكل نفسه حتى فقدت أمك أرواحًا بريئة ووالدك…” والدتي لم تكن محظوظة ورثت النحس عن جدتي، لذلك عاشتا وحيدتين بعد أن فقدت أمي والدي صباح أحد الأيام. لم تجده في أي مكان، ومع أن جميع من في الحارة قد علم بهجر والدي لأمي إلا أن أمي كانت تقول إنه ذاب، وإنه ما زال موجودا في البيت، في شقوق البيت والجدران.، وكل شقوق البيت امتلأت بأوراق ملونة، تكتب أمي فيها تعاويذ غريبة لعل الغائب يعود يومًا… كل الغائبين في حارتنا عادوا إلا والدي، بقي غيابه معلقًا داخل شق حائط في غرفة نوم أمي. تفزع من رؤية عنكبوت ميت، فهذا نذير شؤم، وإشارة إلى مصيبة ستحل في البيت، والموت عند أمي بدأ مبكرًا، بوفاة أخي الصغير شهاب… ترتل آيات عند انكسار أي قطعة زجاجية حتى لا تنكسر أرواحٌ طيبة تحرسنا.. عشرون عاما مضت …منذ أن سقطت الصورة.. تحدّثُ الجدران ببلاهة، وهي تنظر إلى المسامير الصدئة …قبل عشرين عاماً سقطت الصورة، تناثر الزجاج على الأرض. لم تفزع أمي من أن يؤذينا الزجاج.. التقطت الصورة وبقيت تنتظر أخي، عشرون عاماً مضت وأمي تردد: “إن الأرواح معلقة بصور أصحابها” بينما كبرتُ وما زلتُ أحاول نزع الزجاج المكسور من جسدي. قبل العيد تكشف أمي خبايانا وأسرارنا عندما تقتحم حجراتنا بحجة التعزيل، ويجتاحني القلق والتفكير؛ فكيف سأبرر لها اسمه المكتوب على الجدار بطلاء الأظافر خلف السرير، ويقلق أمي أي نوع من مساحيق التنظيف ستزيل هذه الخربشات عن قلبي. أمي التي خذلها الحب، كانت موقنة بأن الحب سيخذلني أيضًا. تدور أمي في البيت، في يد تحمل قلبها وباليد الأخرى ترش الملح في الزوايا، تفتح النوافذ على مصاريعها وتهمس لي: -جدتك كانت تقول: “الفراشات يجلبن النحس، يقدمن أجسادهن قرابين للنار من أجل روح أخرى” لم أصدق حكاية جدتي، فبت ألملم غبارهن المحروق وأنثره في أصيص حتى نبتت زهرة.. غرزت شوكها في قلب أمي ذات يوم… القلب تحول ليرقة ثم فراشة ألقت بنفسها للنار. يدور جسد أمي في أركان البيت بلا يدين وملح.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *