أورهان باموق يختصر نصف قرنٍ من الكتابة الروائية في محاضرته الباريسية

أورهان باموق يختصر نصف قرنٍ من الكتابة الروائية في محاضرته الباريسية

أحمد المديني

في التاسع من شهر أيار/ مايو، قررت الجمعية العامة لأساتذة لو كوليج دو فرانس، أرفع مؤسسة أكاديمية في فرنسا (1506)، أن تستقبل فيه الروائي التركي أورهان باموق (1952) الحاصل

على جائزة نوبل للآداب في عام 2006، بعد إصداره مجموعة فخمة من الروايات استجلت التاريخ العميق لبلاده وغاصت في عمق التحولات الاجتماعية برموز شخصيات وأيقونات، تعززت بها الرواية التي كتبت بمعمار مُحكم ووصف دقيق وبتكليم للكائنات والأشياء والظلال بأسلوب مزيج بلاغة اللغة الوطنية وحياكة الموهبة الشخصية الصائغة. منذ روايته الأولى “سيفديت باي وأبناؤه” (1982) لفت إليه الأنظار لتتوالى أعماله بعدها، نذكر منها الأشهر “بيت الصمت” (1983)؛ “القصر الأبيض” (1985)؛ “الكتاب الأسود” (1995)؛ “اسمي أحمر” (1998)؛ “متحف البراءة” (2008) انتهاءً بـ”ليالي الطاعون”(2021) المترجم إلى الفرنسية أخيراً عند دار غاليمار التي تولت ترجمة معظم رواياته إلى الفرنسية، والمنقولة إلى ستين لغة.

كان يوماً ممطراً لمّا ذهبت إلى الكوليج دو فرانس الواقع في الدائرة الخامسة في باريس على خطوات من المبنى التاريخي لجامعة السوربون، وصلت مبكراً في الرابعة والمحاضرة مبرمجة للخامسة والنصف، فوجدت أمامي أربعين شخصاً مصطفين عند الباب الخارجي للكوليج حضروا أبكر مني ليفوزوا بمقعد في المدرج.

دقائق تتوالى وإذا الصفّ ينمو طابوراً أنا في مقدمته وأراه خلفي طويلاً ومديداً يتراجع إلى شارع سان جاك ويلتوي إلى حيث لا أراه، لقد صار بمئات الأمتار، الواقفون فيه بأناة وهدوء تحت وابل المطر، وجميعهم يتطلعون إلى مقعد أثير ليسمعوا الكاتب يتحدث.

جئنا لحضور الجلسة الأولى من أربع محاضرات دُعي أورهان باموق لتقديمها في كرسي الأدب المقارن باقتراح من البروفسور وليام ماركس وتزكية من مجلس الأساتذة، وهم كبار الباحثين الاختصاصيين الذي يدرسون في أرفع أكاديمية تبذل العلم والآداب مفتوحة للجميع، ولا تقدم شهادات، وفي الوقت تحتاج إلى استعداد معرفي وافٍ لمتابعة مجالسها.

المحاضرات الأربع يقدمها بالإنكليزية كاتبٌ قضى خمسين عاماً من تجربة كتابة الرواية، وهو أيضاً يعمل منذ ستة عشر عاماً أستاذاً لكرسي روبير كينغ فونغ للإنسانيات في جامعة كولومبيا بنيويورك.

والموضوع هو الرواية من زوايا أربع:

البدايات (Beginnings)

2ـ مفارقة الروائي (The paradox of the Novelist).

3ـ خلق وتطور شخصية (Inventing and Following a caracter)

4ـ إبداعية ومراقبة (Créativity and Control).

تستند محاضرات أورهان باموق كما تستمد أهميتها من مزاوجتها بين حصيلة خبرة نصف قرن من الكتابة الروائية، استخدم فيها المؤلف أدواتٍ وطرائقَ وأساليبَ وقوالبَ وأشكال معمار وبناء، فهو إذاً سيتحدث من موقع العارف الممارس الحِرَفي؛ وثانياً بوصفه أستاذاً للأدب يملك خبرة موسوعية عن الرصيد العالمي لهذا الفن، بمعنى أنه كاتب ومثقف، وهذه شخصية نموذجية.

في المحاضرة الأولى بمدرّج مارغريت دونافار، يسع ألف مقعد وخارجه وقوف، انطلق المتحدث من موقع وفهم التفكير في الرواية ولمقاربة كيفيات كتابتها وبنائها لتستقيم النصَّ العالَم الذي نقرأ وندخل.

لذلك عرّف هويته الأدبية بأنه صانع Artisan وأخبر بأن التجارب التي سيتقاسمها معنا نحن الحاضرين ذات طابع خارجي، أي كيف تُكتب الرواية وكذلك آراء شخصية لا تطرحها نظرية الأدب مستخلصة من عِشرة طويلة مع الكتاب.

يرى في معالجة مسألة البدايات، انطلاقاً من تولستوي الذي يعتبره معلمه الأكبر، أنّ الكتابة من أسرار المهنة، والكتّاب يحافظون عليها، إذ كان بعضهم يعتبرها “وحياً يوحى” فيتكتمون عليها كأنها كنز.

يرى ثانياً، أن القراء كثيراً ما يدفعهم الفضول إلى السؤال “كيف تُكتب الرواية؟”، يحبون أن يعرفوا كيف ولماذا؟ في هذا الصدد ظنّ أننا إذا بدأنا كتابة الرواية كأننا قطعنا نصفها، والحال أن الجوارير مليئة بروايات لم تكمل.

مسألة ثالثة وهي وهمٌ متقاسَم ٌوشائع بين القراء، وهي أن الرواية تولد فجأة وتنبثق من ذهن الكاتب. كلّا، فالرواية عند الروائي الموهوب ليست قصيدةً قصيرة بل هي رحلةٌ شاقة بلا نهاية، هي أن تَكتب وتعيد. مع ذلك ينبغي أن تبدأ من نقطة ما. عندئذ لا تفكر في التفاصيل، إنها تأتي في الطريق وأثناء الكتابة.

يسمِّي باموق البداية أو يعتبرها (الورقة الأولى) وهذه لا تكون بالضرورة في الاستهلال. يستدعي وليم فوكنر، عنده مثال من يبدأ بـ(صورة ذهنية) هي أصل ولادة “الصخب والعنف” (1929). استوحاها من لطخة وحل في بنطال طفلة وظن أنه سيكتب قصة قصيرة. هذه الورقة الأولى نجدها عنده في النهاية. وإلى جانب الصورة، هناك أفكار ضروريةٌ وتحضُر في بداية الرواية مستترة، مثالها في روايتي “أنا كارنينا” لتولستوي، و”مدام بوفاري” لفلوبير.

يحضر هنا أيضاً توماس مان في “الجبل السّحري” وأومبرتو إيكو في “اسم الوردة”. هل يمكن أن نبدأ أيّ رواية بدون فكرة، خصوصاً بدون تصميم؟ يجيب بالقطع: إذا لم يكن لديكم أي تصميم فلن تستطيعوا كتابة صفحات أولى، إن ما يُسمّى “قلق الصفحة البيضاء”، هو غياب التصميم.

يحتاج الكاتب لكي يعود إلى البذور الأولى، كما يقول فوكنر، أن تعرف الشخصيات واحدةً، واحدة، وتتمثل أوضاعها، ونتخيل كيف تنمو كما تنبت الأوراق في الشجرة، بترابط مع حبكة الرواية. هل هذا كل شيء؟ يجيب باموق أنه بالرغم من التمكن هذا فالكاتب لا يعرف إلى أين سيصل ولا الشكل الذي سينتهي به عمله. هكذا تجربة جيمس جويس الذي صمّم (عوليس) قصةً قصيرةً ثم انتهت إلى رواية ملحمية بتبدلات وتحولات، لذا لا فائدة في رواية تكرّر الورقة الأولى أي تَستنسخ. لم يُعن جويس برواج كتبه ولكن بفنه.

أما عن تجربته، طريقته الشخصية في كتابة الرواية، فيوجزها أورهان باموق في ثلاثة عناصر: أنه إضافة لما نبّه له يأخذ عمله صنعة، فهو صانع.

ثانياً، أن يتوفر على أفكار واضحة للورقة الأولى. والاهتمام بعناية بالتفاصيل، لذلك فهو يدوّن في دفاترَ كثيرة تفاصيلَ رواياته ويستخدمها حسب الحاجة.

ثالثاً، يبدأ العمل في التكوّن، تارةً يُسرع وتارة يبطؤ الإيقاع، يخاطب الناشئين: إذا ضبطتم الحبكة والحوادث فلا تقلقوا، ستصلون إلى تعبئة ما تأخر.

وفي المحاضرة الثانية (الثلثاء 16 من أيار/ مايو الجاري) المبرمجة أيضاً في الكوليج في كرسي الأدب المقارن، وحجّ إليها مبكراً ساعة ونصف قبل انطلاقها جمهور غفير أكثر من الأسبوع الماضي، انكب أورهان باموق على درس موضوع يسميه (مفارقة الروائي) يبنيه على قراءته الموسوعية لأعمال أسلافه المؤسّسين، ومن وحي تجربته الكتابية الممتدة.

يعتبر بدءاً أن التمكنَ من فهم هذه المفارقة والسيطرةَ على طرفيها هما الأداة والسبيل لكتابة رواية قوية وناجحة، وهو هنا يوجه النصحَ للناشئين، وفي الوقت عينه على متون تولستوي، توماس مان وفرجينيا وولف ومرجعه الثابت فوكنر، الذي سبق أن أشرنا إلى اعتماده للبداية فكرةً أو صورةً ذهنية ما.

جيد، لكنّ المسألة هي التوتر الذي يحصل بين الإثنين، وهنا تكمن مفارقة الروائي.

يشرح باموق، أنه عندما يعتمد على الفكرة أساساً فإنه يفقد فاعلية الرواية. ولو اعتمد الصورة، الخيال فقط، فالرواية ستفتقد الواقع، الحياة والإنسان. إن ما يجعل الرواية مقروءةً هو تفاصيل الواقع، وترى القارئ فيها يتساءل: ما هي حصته وما هي حصة خيال الروائي؟ الروايات السير ذاتية والسيرة الذاتية يسقط فيهما التناسب وتغرقان في خيال صاحبهما، بينما الرواية المعتمدة على الفكرة تعد تربوية وتلقينية، والمثالي هو حدوث التوازن بين الفكرة والخيال ووجود حركة ذهاب وإياب وتناقض بينهما أيضاً.

هل هذا ممكن دائماً؟ إنه يكاد يكون مستحيلاً في عشرة آلاف ورقة، وحده ستاندال حققه في La Chartreuse de Parme، وفي خمسين يوماً فقط كتب رواية مذهلة بموهبة عظيمة بالطبع.

ثمة وجه آخر من مفارقات الروائي، يتمثل في موضوع الذاكرة وتسجيلاتها وعملها في نصه، لنتعرف على قيمته ونسأل القارئ: ما هي الأشياء التي علقت بذهنه ويتذكرها ويحبها؟ سنجدها ضئيلة، ما يدفع الكاتب إلى السؤال: لماذا يكتب كل تلك الوقائع والتفاصيل التي يجهد في جمعها إذا كان القارئ ينسى معظم ما كتب؟

الجواب يأتي من مكان آخر، وهو أن وظيفة الروائي الحفاظ على الذاكرة، على التقاليد والحيوات والبلدان والهويات واللغات والأفكار، إن الرواية شبيهة بمتحف نتجول فيه ولا نتذكر بالضرورة كل ما رأيناه، لكنّ المتحف موجود والأشياء ـ التفاصيل ـ محفوظة فيه، والشكل الروائي متحف أيضاً، والروائي يرفض التخلي عن تفاصيله لأنه مثل محافظ المتحف وهو معني بالإبقاء عليها، هذه هي الفكرة عند فوكنر.

من مفارقات الروائي الأخرى التي وقف عليها باموق ولن نعرضها كلها، هي على درجة كبرى عنده من الأهمية، ويرى في ضبطها رأسمال الرواية وضمان نجاحها، إذ ماذا بعد أن يكون قد سيطر على الحبكة والحوادث والتفاصيل والشخصيات وما شئتم؟

الأهم والهدف هو تحقيق المتعة للقارئ، ومتعة الرواية هي في ما تثيره فينا من مشاعر وأحاسيس. القارئ يحب رواية تولّد في نفسه انفعالات وتقدم له عالماً بديلاً، والعالم الذي يعيش فيه كوجود آخر.

هكذا غير كافٍ إنجاز رواية بمقتضيات واقعية مقنعة وجمالية بارعة وإنما أن نتأكد أنها ستثير في القارئ مشاعر معينة، وهذا يتطلب عملاً متقناً جداً بمقدار حرص الملحن على ضبط نوتاته ليصنع لحناً متناغماً، وتذكر النص عند القارئ هو ما يخلفه كذلك من وعي وتأثير. يعترف باموق أخيراً – بحسب تجربته – بأن الذاكرة والخيال مترابطان والحاذق من يربط بينهما. وما زال جمهور الكوليج على موعد في أسبوعين مقبلين مع الروائي النوبلي في وليمتين أخريين بمثابة درسين عن تكوين الشخصية في الرواية وكيفية مراقبة العمل الأدبي في علاقته للإبداع، فضلاً عن جلسة النقاش المفتوح حول روايته المترجمة إلى الفرنسية وتحظى بإقبال كبير.

 

  • عن النهار اللبنانية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *