كراكيب – قصة قصيرة

(ثقافات)

قصة قصيرة

كراكيب

نيللي عبدالعزيز

دقت الساعة العتيقة معلنًة الثانية بعد منتصف الليل، منعم زوجي بأحلامه منذ قرابة الساعتين بعد أن أكد على ضرورة التزام الجميع بالهدوء لينام جيدًا فلديه باكر الكثير من العمل.
بينما ندى ملازمة لغرفتها بصحبة حاسوبها الشخصي كالعادة، تنغمس مع صديقاتها في أحاديث لا تنتهي، أو تتصفح صورًا لا حصر لها لأناس تعرفهم وآخرين لا يمتون لها بأية صلة، وقد حددت إقامة صخب أغانيها داخل عالم خاص بها عن طريق سماعات للآذان أمقتها وأمقت من صنعها.
أما عن زياد فهو بصحبة الأصدقاء كما هو الحال دومًا هذه الأيام منذ أن أعلن بحده عن رفضه أن يناديه أحد بالبيت باسم “زيزو” مرة أخرى، الجديد أنه هذه المرة مع الأصدقاء بعيدًا عن البيت وعن عيني ليومين في رحلة للتخييم، آه لو يعلم كم يوترني بعده عني!
يعم البيت هدوء ممل يثير في النفس الاكتئاب، برامج تليفزيونية معادة وتافهة، ونوم عصي على من يطلبه، ماذا أفعل إذن؟
فكرة، لقد طلب منكِ زياد كثيرًا أن تتخلصي من الأشياء القديمة بدولاب الكراكيب كما يسميه لأنه يريد استغلاله، هيا استدعي همتك لتنجزي المهمة، علي الأقل أستفيدي بوقتك.
فتحت الدولاب، فوقع نظري على صندوق مليء بإبر التريكو والكثير من بكرات الخيوط الملونة، فعادت لي ذكرى بعيدة عندما كانت يداي لا تكلان عن العمل ليل نهار، أنسج قطعًا جميلة من الملابس لأولادي وتكتمل فرحتي عندما أرى ابتسامة الرضا والسعادة تتراقص بعيونهم الصغيرة حين أهديها لهم فتمسح عني أي آثار للتعب، إلى أن شبوا وأصبحوا لا يلقوا بالًا لما أصنعه لهم وخفت احتفالهم به شيئًا فشيئًا حتى تلاشى، فغادرني حماسي أنا الأخرى وأودعت إبري وخيوطي داخل هذا الصندوق، إنهم على هذا الحال منذ زمن، يبدو أنه قد آن الآوان لأتخلص منها، ولكن…. لماذا أتخلص منها؟ أليس من المحتمل أن أرجع لشغل التريكو مرة أخرى، على الأقل أصنع شيئًا لي أو لزوجي، خاصة وأن أسعار الملابس الشتوية أصبحت نار، كما أن الشغل يسلي، فليبقوا فليبقوا، كما أن هذه الخيوط غالية، إنها ثروة فكيف أفرط بها!
وانتقلت للرف العلوي، فإذا به كراسات رسم كثيرة مرصوصة فوق بعضها بعناية و نظام، أنا من وضعها بهذا الشكل، نعم أتذكر ذلك جيدًا، حتى أني كنت أرقمها بل وأدون عليها التواريخ، إنها كراسات أولادي منذ أن بدأت أناملهم الرقيقة تقوى على وصف ما يدور بخيالهم وتنسج خيوط أحلامهم على الورق ثم تزينها بأشكال زاهية براقة كصوت ضحكاتهم وقتها، وتلونها بألوان دافئة صادقة كدفء أحضانهم حينها، بالطبع لن أتخلص منها، فمجرد النظر فيها من مسببات البهجة لنفسي، حقًا إني أتعجب من حالي كيف مر على كل هذا الوقت دون أن أتصفحها واسترجع جميل ذكرياتها؟ فبينما أنا أنظر بهم الأن أسمع صوت ندى تناديني لأرى كم أن الوردة التي رسمتها أجمل بكثير من وردة زيزو، وأسمع صراخ زياد مطالبًا إياي بأن أشتري له لونا أحمرا جديدا لأن ندي أجهزت عليه تمامًا لتلون وردتها الكبيرة فقد رسمتها بحجم الصفحة كلها، ياالله ما أبهجها من ذكرى.
يااه ما هذا؟ إنها فازة خالتي رحمها الله، الفازة المشروخة! خفت عليها أن تنكسر بعد أن أصابها هذا الشرخ الطويل فهي عزيزة علي، ولابد أن تبقي بالدولاب لحمايتها إنها ذكرى خالتي الغالية.
أما عن هذا البرطمان فإنني أضع به كل زراير الملابس البالية فربما أحتاج شيئا منها في يوم من الأيام، حقًا إنه مهم، غير أن منظره أصلًا جميل بكل ألوان وأشكال الزراير التي يحويها، إنه قطعة فنية، فليبق.
اهه الفستان الأسود! طالما أحببت هذا الفستان كثيرًا، فعندما كنت أرتديه كنت أنافس نجمات السينما جمالا وإثارة وهن يتبخطرن بثقة ودلال على السجادة الحمراء، ولكن الدنيا دوارة لا تبقى على حال، الآن أخجل أن أرتديه بعد أن زاد وزني كثيرًا وأصبح مظهري به غيرلائق تمامًا، لقد احتفظت به لسنين طويلة على أمل أن أخفض من وزني وأرجع لسابق عهدي ولكن يبدو أنه لا فائدة من ذلك فلم الإبقاء عليه إذن؟ وحتي ندى ككل بنات جيلها لا ترتدي الفساتين أبدًا، جيل مختلف! سوف أتخلص منه الأن وكلي أسف، مع السلامة يا فستاني الجميل، عذرًا فيبدو أن زمنك ولى إلي الأبد.
وماذا يا ترى بداخل هذا الكيس الملفوف بعناية على شكل إسطواني؟
نعم، نعم، كيف نسيت! إن به قماشة الجوبلان الأصلية، يالها من ذكرى أليمة! لقد اشتريتها بثمن باهظ لأعلقها على حائط صالون شقتنا الجديدة، بعد أن دفع زوجي لمالك البرج بشقي العمر مقدمًا للشقة ثم اتضح أن الرجل نصاب وأن البرج ليس ملكه، وبعدها اختفى كفص ملح وذاب، كدنا نموت وقتها من القهر، ومن يومها والقماشة على حالها، استحي أن أضعها على جدران بيتنا المتواضع، وأنتظر حلمًا أصبح صعب المنال، عمومًا سأبقي عليها طبعًا فهي غالية، سأبقيها لزواج ندى.
وهذا الكيس الأسود أعرف ما به،إنها أول ألبسة بحر اشتريتها للأولاد، ما أجملهم! كان عندي حق عندما قررت الإحتفاظ بها لأحفادي.
ياااه الميدالية، كيف نسيت أمرك يا غالية! إنها جائزتي لقد فزت بها في مسابقة للعدو حين كنت طالبة جامعية، وقت أن كنت رشيقة وصاحبة لياقة بدنية عالية، أتذكرالآن جيدًا لما اخفيتها عن العيون بعد أن كنت أضعها في مكان بارز لأتفاخر بها، يومها لمحتها ضيفتي المتنمرة وبعد أن سألتني عنها نظرت لي نظرة استخفاف لن أنساها عمري قائلًة بتهكم: أنتِ فزت بجائزة في مسابقة للعدو! عجيبة!
لقد كانت كلماتها ونظراتها كسكين مسنون غرس بقلبي فأدماه، فتعمدت أن أُخفيها ومن يومها وهي هنا، لا طبعًا لن أتخلص منها، إنها جائزتي التي لم أفز يومًا بغيرها.
وصلنا للرف الأخير، أعرف ما به جيدًا، إنها كتب التنمية البشرية، لقد كنت شغوفة جدًا بها، وطالما حاولت تطبيق مبادئها على حياتي، وكثيرًا ما أقتصدت من مصروف البيت لأشتريها، وسهرت الليالي الطوال لأفهم كل كلمة مكتوبة بها، وفجأة كففت عن قراءتها!
ولكن لم لا يكون ما حل بحياتي من خمول بسبب انقطاعي عن قراءتها؟ أظنها كانت مفيدة، كم ألهمتني من حلول! كم ألهبت حماستي! سوف أعاود قراءتها، أعتقد أني سأجد بها ما يجدد حياتي وينشط ذهني ويجلو عن عقلي ما اعتلاه من صدأ، كما أعتقد أني سوف أجد بها يد العون التي أحتاجها لأستعيد رشاقتي، من يعرف؟
وحينها سوف أستطيع ارتداء فستاني الأسود الأثير مرة أخري بكل ثقة، إذن تعال يا فستاني الحبيب! تعالى لندخل الدولاب مرة أخرى فلن أتخلص منك أبدًا، فعلى ما يبدو أن لنا لقاء قريبا!
وعندها استيقظ زوجي صائحًا: لماذا لا تكفي عن الدربكة؟ وما كل هذه الكراكيب، ألم أقل لك لا أريد أن أسمع صوتًا! يا عالم أريد أن أنام في هدوء!
وما أن سمعت صراخه حتى دسست الفستان داخل الدولاب بعنف، فاضطربت الرفوف وانزلقت الكراسات وسقط صندوق الأبر فتشابكت الخيوط مع محتويات الدولاب وأصبح الوضع فوضاويًا بحق، فدفعت باب الدولاب لأغلقه بهمجية على سني عمري وأحلامي صارخًة فيه أنا الأخرى: انتهينا، كف عن الصراخ وهيا لننام.
نيللي عبدالعزيز

دقت الساعة العتيقة معلنًة الثانية بعد منتصف الليل، منعم زوجي بأحلامه منذ قرابة الساعتين بعد أن أكد على ضرورة التزام الجميع بالهدوء لينام جيدًا فلديه الكثير من العمل باكرا.
بينما ندى ملازمة لغرفتها بصحبة حاسوبها الشخصي كالعادة، تنغمس مع صديقاتها في أحاديث لا تنتهي، أو تتصفح صورًا لا حصر لها لأناس تعرفهم وآخرين لا يمتون لها بأية صلة، وقد حددت إقامة صخب أغانيها داخل عالم خاص بها عن طريق سماعات للآذان أمقتها وأمقت من صنعها.
أما عن زياد فهو بصحبة الأصدقاء كما هو الحال دومًا هذه الأيام منذ أن أعلن بحده عن رفضه أن يناديه أحد بالبيت باسم “زيزو” مرة أخرى، الجديد أنه هذه المرة مع الأصدقاء بعيدًا عن البيت وعن عيني ليومين في رحلة للتخييم، آه لو يعلم كم يوترني بعده عني!
يعم البيت هدوء ممل يثير في النفس الاكتئاب، برامج تليفزيونية معادة وتافهة، ونوم عصي على من يطلبه، ماذا أفعل إذن؟
فكرة، لقد طلب منكِ زياد كثيرًا أن تتخلصي من الأشياء القديمة بدولاب الكراكيب كما يسميه لأنه يريد استغلاله، هيا استدعي همتك لتنجزي المهمة، علي الأقل أستفيدي بوقتك.
فتحت الدولاب، فوقع نظري على صندوق مليء بإبر التريكو والكثير من بكرات الخيوط الملونة، فعادت لي ذكرى بعيدة عندما كانت يداي لا تكلان عن العمل ليل نهار، أنسج قطعًا جميلة من الملابس لأولادي وتكتمل فرحتي عندما أرى ابتسامة الرضا والسعادة تتراقص بعيونهم الصغيرة حين أهديها لهم فتمسح عني أي آثار للتعب، إلى أن شبوا وأصبحوا لا يلقوا بالًا لما أصنعه لهم وخفت احتفالهم به شيئًا فشيئًا حتى تلاشى، فغادرني حماسي أنا الأخرى وأودعت إبري وخيوطي داخل هذا الصندوق، إنهم على هذا الحال منذ زمن، يبدو أنه قد آن الآوان لأتخلص منها، ولكن…. لماذا أتخلص منها؟ أليس من المحتمل أن أرجع لشغل التريكو مرة أخرى، على الأقل أصنع شيئًا لي أو لزوجي، خاصة وأن أسعار الملابس الشتوية أصبحت نار، كما أن الشغل يسلي، فليبقوا فليبقوا، كما أن هذه الخيوط غالية، إنها ثروة فكيف أفرط بها!
وانتقلت للرف العلوي، فإذا به كراسات رسم كثيرة مرصوصة فوق بعضها بعناية و نظام، أنا من وضعها بهذا الشكل، نعم أتذكر ذلك جيدًا، حتى أني كنت أرقمها بل وأدون عليها التواريخ، إنها كراسات أولادي منذ أن بدأت أناملهم الرقيقة تقوى على وصف ما يدور بخيالهم وتنسج خيوط أحلامهم على الورق ثم تزينها بأشكال زاهية براقة كصوت ضحكاتهم وقتها، وتلونها بألوان دافئة صادقة كدفء أحضانهم حينها، بالطبع لن أتخلص منها، فمجرد النظر فيها من مسببات البهجة لنفسي، حقًا إني أتعجب من حالي كيف مر على كل هذا الوقت دون أن أتصفحها واسترجع جميل ذكرياتها؟ فبينما أنا أنظر بهم الأن أسمع صوت ندى تناديني لأرى كم أن الوردة التي رسمتها أجمل بكثير من وردة زيزو، وأسمع صراخ زياد مطالبًا إياي بأن أشتري له لونا أحمرا جديدا لأن ندي أجهزت عليه تمامًا لتلون وردتها الكبيرة فقد رسمتها بحجم الصفحة كلها، ياالله ما أبهجها من ذكرى.
يااه ما هذا؟ إنها فازة خالتي رحمها الله، الفازة المشروخة! خفت عليها أن تنكسر بعد أن أصابها هذا الشرخ الطويل فهي عزيزة علي، ولابد أن تبقي بالدولاب لحمايتها إنها ذكرى خالتي الغالية.
أما عن هذا البرطمان فإنني أضع به كل زراير الملابس البالية فربما أحتاج شيئا منها في يوم من الأيام، حقًا إنه مهم، غير أن منظره أصلًا جميل بكل ألوان وأشكال الزراير التي يحويها، إنه قطعة فنية، فليبق.
اهه الفستان الأسود! طالما أحببت هذا الفستان كثيرًا، فعندما كنت أرتديه كنت أنافس نجمات السينما جمالا وإثارة وهن يتبخطرن بثقة ودلال على السجادة الحمراء، ولكن الدنيا دوارة لا تبقى على حال، الآن أخجل أن أرتديه بعد أن زاد وزني كثيرًا وأصبح مظهري به غيرلائق تمامًا، لقد احتفظت به لسنين طويلة على أمل أن أخفض من وزني وأرجع لسابق عهدي ولكن يبدو أنه لا فائدة من ذلك فلم الإبقاء عليه إذن؟ وحتي ندى ككل بنات جيلها لا ترتدي الفساتين أبدًا، جيل مختلف! سوف أتخلص منه الأن وكلي أسف، مع السلامة يا فستاني الجميل، عذرًا فيبدو أن زمنك ولى إلي الأبد.
وماذا يا ترى بداخل هذا الكيس الملفوف بعناية على شكل إسطواني؟
نعم، نعم، كيف نسيت! إن به قماشة الجوبلان الأصلية، يالها من ذكرى أليمة! لقد اشتريتها بثمن باهظ لأعلقها على حائط صالون شقتنا الجديدة، بعد أن دفع زوجي لمالك البرج بشقي العمر مقدمًا للشقة ثم اتضح أن الرجل نصاب وأن البرج ليس ملكه، وبعدها اختفى كفص ملح وذاب، كدنا نموت وقتها من القهر، ومن يومها والقماشة على حالها، استحي أن أضعها على جدران بيتنا المتواضع، وأنتظر حلمًا أصبح صعب المنال، عمومًا سأبقي عليها طبعًا فهي غالية، سأبقيها لزواج ندى.
وهذا الكيس الأسود أعرف ما به،إنها أول ألبسة بحر اشتريتها للأولاد، ما أجملهم! كان عندي حق عندما قررت الإحتفاظ بها لأحفادي.
ياااه الميدالية، كيف نسيت أمرك يا غالية! إنها جائزتي لقد فزت بها في مسابقة للعدو حين كنت طالبة جامعية، وقت أن كنت رشيقة وصاحبة لياقة بدنية عالية، أتذكرالآن جيدًا لما اخفيتها عن العيون بعد أن كنت أضعها في مكان بارز لأتفاخر بها، يومها لمحتها ضيفتي المتنمرة وبعد أن سألتني عنها نظرت لي نظرة استخفاف لن أنساها عمري قائلًة بتهكم: أنتِ فزت بجائزة في مسابقة للعدو! عجيبة!
لقد كانت كلماتها ونظراتها كسكين مسنون غرس بقلبي فأدماه، فتعمدت أن أُخفيها ومن يومها وهي هنا، لا طبعًا لن أتخلص منها، إنها جائزتي التي لم أفز يومًا بغيرها.
وصلنا للرف الأخير، أعرف ما به جيدًا، إنها كتب التنمية البشرية، لقد كنت شغوفة جدًا بها، وطالما حاولت تطبيق مبادئها على حياتي، وكثيرًا ما أقتصدت من مصروف البيت لأشتريها، وسهرت الليالي الطوال لأفهم كل كلمة مكتوبة بها، وفجأة كففت عن قراءتها!
ولكن لم لا يكون ما حل بحياتي من خمول بسبب انقطاعي عن قراءتها؟ أظنها كانت مفيدة، كم ألهمتني من حلول! كم ألهبت حماستي! سوف أعاود قراءتها، أعتقد أني سأجد بها ما يجدد حياتي وينشط ذهني ويجلو عن عقلي ما اعتلاه من صدأ، كما أعتقد أني سوف أجد بها يد العون التي أحتاجها لأستعيد رشاقتي، من يعرف؟
وحينها سوف أستطيع ارتداء فستاني الأسود الأثير مرة أخري بكل ثقة، إذن تعال يا فستاني الحبيب! تعالى لندخل الدولاب مرة أخرى فلن أتخلص منك أبدًا، فعلى ما يبدو أن لنا لقاء قريبا!
وعندها استيقظ زوجي صائحًا: لماذا لا تكفي عن الدربكة؟ وما كل هذه الكراكيب، ألم أقل لك لا أريد أن أسمع صوتًا! يا عالم أريد أن أنام في هدوء!
وما أن سمعت صراخه حتى دسست الفستان داخل الدولاب بعنف، فاضطربت الرفوف وانزلقت الكراسات وسقط صندوق الأبر فتشابكت الخيوط مع محتويات الدولاب وأصبح الوضع فوضاويًا بحق، فدفعت باب الدولاب لأغلقه بهمجية على سني عمري وأحلامي صارخًة فيه أنا الأخرى: انتهينا، كف عن الصراخ وهيا لننام.

كراكيب
دقت الساعة العتيقة معلنًة الثانية بعد منتصف الليل، منعم زوجي بأحلامه منذ قرابة الساعتين بعد أن أكد على ضرورة التزام الجميع بالهدوء لينام جيدًا فلديه باكر الكثير من العمل.
بينما ندى ملازمة لغرفتها بصحبة حاسوبها الشخصي كالعادة، تنغمس مع صديقاتها في أحاديث لا تنتهي، أو تتصفح صورًا لا حصر لها لأناس تعرفهم وآخرين لا يمتون لها بأية صلة، وقد حددت إقامة صخب أغانيها داخل عالم خاص بها عن طريق سماعات للآذان أمقتها وأمقت من صنعها.
أما عن زياد فهو بصحبة الأصدقاء كما هو الحال دومًا هذه الأيام منذ أن أعلن بحده عن رفضه أن يناديه أحد بالبيت باسم “زيزو” مرة أخرى، الجديد أنه هذه المرة مع الأصدقاء بعيدًا عن البيت وعن عيني ليومين في رحلة للتخييم، آه لو يعلم كم يوترني بعده عني!
يعم البيت هدوء ممل يثير في النفس الاكتئاب، برامج تليفزيونية معادة وتافهة، ونوم عصي على من يطلبه، ماذا أفعل إذن؟
فكرة، لقد طلب منكِ زياد كثيرًا أن تتخلصي من الأشياء القديمة بدولاب الكراكيب كما يسميه لأنه يريد استغلاله، هيا استدعي همتك لتنجزي المهمة، علي الأقل أستفيدي بوقتك.
فتحت الدولاب، فوقع نظري على صندوق مليء بإبر التريكو والكثير من بكرات الخيوط الملونة، فعادت لي ذكرى بعيدة عندما كانت يداي لا تكلان عن العمل ليل نهار، أنسج قطعًا جميلة من الملابس لأولادي وتكتمل فرحتي عندما أرى ابتسامة الرضا والسعادة تتراقص بعيونهم الصغيرة حين أهديها لهم فتمسح عني أي آثار للتعب، إلى أن شبوا وأصبحوا لا يلقوا بالًا لما أصنعه لهم وخفت احتفالهم به شيئًا فشيئًا حتى تلاشى، فغادرني حماسي أنا الأخرى وأودعت إبري وخيوطي داخل هذا الصندوق، إنهم على هذا الحال منذ زمن، يبدو أنه قد آن الآوان لأتخلص منها، ولكن…. لماذا أتخلص منها؟ أليس من المحتمل أن أرجع لشغل التريكو مرة أخرى، على الأقل أصنع شيئًا لي أو لزوجي، خاصة وأن أسعار الملابس الشتوية أصبحت نار، كما أن الشغل يسلي، فليبقوا فليبقوا، كما أن هذه الخيوط غالية، إنها ثروة فكيف أفرط بها!
وانتقلت للرف العلوي، فإذا به كراسات رسم كثيرة مرصوصة فوق بعضها بعناية و نظام، أنا من وضعها بهذا الشكل، نعم أتذكر ذلك جيدًا، حتى أني كنت أرقمها بل وأدون عليها التواريخ، إنها كراسات أولادي منذ أن بدأت أناملهم الرقيقة تقوى على وصف ما يدور بخيالهم وتنسج خيوط أحلامهم على الورق ثم تزينها بأشكال زاهية براقة كصوت ضحكاتهم وقتها، وتلونها بألوان دافئة صادقة كدفء أحضانهم حينها، بالطبع لن أتخلص منها، فمجرد النظر فيها من مسببات البهجة لنفسي، حقًا إني أتعجب من حالي كيف مر على كل هذا الوقت دون أن أتصفحها واسترجع جميل ذكرياتها؟ فبينما أنا أنظر بهم الأن أسمع صوت ندى تناديني لأرى كم أن الوردة التي رسمتها أجمل بكثير من وردة زيزو، وأسمع صراخ زياد مطالبًا إياي بأن أشتري له لونا أحمرا جديدا لأن ندي أجهزت عليه تمامًا لتلون وردتها الكبيرة فقد رسمتها بحجم الصفحة كلها، ياالله ما أبهجها من ذكرى.
يااه ما هذا؟ إنها فازة خالتي رحمها الله، الفازة المشروخة! خفت عليها أن تنكسر بعد أن أصابها هذا الشرخ الطويل فهي عزيزة علي، ولابد أن تبقي بالدولاب لحمايتها إنها ذكرى خالتي الغالية.
أما عن هذا البرطمان فإنني أضع به كل زراير الملابس البالية فربما أحتاج شيئا منها في يوم من الأيام، حقًا إنه مهم، غير أن منظره أصلًا جميل بكل ألوان وأشكال الزراير التي يحويها، إنه قطعة فنية، فليبق.
اهه الفستان الأسود! طالما أحببت هذا الفستان كثيرًا، فعندما كنت أرتديه كنت أنافس نجمات السينما جمالا وإثارة وهن يتبخطرن بثقة ودلال على السجادة الحمراء، ولكن الدنيا دوارة لا تبقى على حال، الآن أخجل أن أرتديه بعد أن زاد وزني كثيرًا وأصبح مظهري به غيرلائق تمامًا، لقد احتفظت به لسنين طويلة على أمل أن أخفض من وزني وأرجع لسابق عهدي ولكن يبدو أنه لا فائدة من ذلك فلم الإبقاء عليه إذن؟ وحتي ندى ككل بنات جيلها لا ترتدي الفساتين أبدًا، جيل مختلف! سوف أتخلص منه الأن وكلي أسف، مع السلامة يا فستاني الجميل، عذرًا فيبدو أن زمنك ولى إلي الأبد.
وماذا يا ترى بداخل هذا الكيس الملفوف بعناية على شكل إسطواني؟
نعم، نعم، كيف نسيت! إن به قماشة الجوبلان الأصلية، يالها من ذكرى أليمة! لقد اشتريتها بثمن باهظ لأعلقها على حائط صالون شقتنا الجديدة، بعد أن دفع زوجي لمالك البرج بشقي العمر مقدمًا للشقة ثم اتضح أن الرجل نصاب وأن البرج ليس ملكه، وبعدها اختفى كفص ملح وذاب، كدنا نموت وقتها من القهر، ومن يومها والقماشة على حالها، استحي أن أضعها على جدران بيتنا المتواضع، وأنتظر حلمًا أصبح صعب المنال، عمومًا سأبقي عليها طبعًا فهي غالية، سأبقيها لزواج ندى.
وهذا الكيس الأسود أعرف ما به،إنها أول ألبسة بحر اشتريتها للأولاد، ما أجملهم! كان عندي حق عندما قررت الإحتفاظ بها لأحفادي.
ياااه الميدالية، كيف نسيت أمرك يا غالية! إنها جائزتي لقد فزت بها في مسابقة للعدو حين كنت طالبة جامعية، وقت أن كنت رشيقة وصاحبة لياقة بدنية عالية، أتذكرالآن جيدًا لما اخفيتها عن العيون بعد أن كنت أضعها في مكان بارز لأتفاخر بها، يومها لمحتها ضيفتي المتنمرة وبعد أن سألتني عنها نظرت لي نظرة استخفاف لن أنساها عمري قائلًة بتهكم: أنتِ فزت بجائزة في مسابقة للعدو! عجيبة!
لقد كانت كلماتها ونظراتها كسكين مسنون غرس بقلبي فأدماه، فتعمدت أن أُخفيها ومن يومها وهي هنا، لا طبعًا لن أتخلص منها، إنها جائزتي التي لم أفز يومًا بغيرها.
وصلنا للرف الأخير، أعرف ما به جيدًا، إنها كتب التنمية البشرية، لقد كنت شغوفة جدًا بها، وطالما حاولت تطبيق مبادئها على حياتي، وكثيرًا ما أقتصدت من مصروف البيت لأشتريها، وسهرت الليالي الطوال لأفهم كل كلمة مكتوبة بها، وفجأة كففت عن قراءتها!
ولكن لم لا يكون ما حل بحياتي من خمول بسبب انقطاعي عن قراءتها؟ أظنها كانت مفيدة، كم ألهمتني من حلول! كم ألهبت حماستي! سوف أعاود قراءتها، أعتقد أني سأجد بها ما يجدد حياتي وينشط ذهني ويجلو عن عقلي ما اعتلاه من صدأ، كما أعتقد أني سوف أجد بها يد العون التي أحتاجها لأستعيد رشاقتي، من يعرف؟
وحينها سوف أستطيع ارتداء فستاني الأسود الأثير مرة أخري بكل ثقة، إذن تعال يا فستاني الحبيب! تعالى لندخل الدولاب مرة أخرى فلن أتخلص منك أبدًا، فعلى ما يبدو أن لنا لقاء قريبا!
وعندها استيقظ زوجي صائحًا: لماذا لا تكفي عن الدربكة؟ وما كل هذه الكراكيب، ألم أقل لك لا أريد أن أسمع صوتًا! يا عالم أريد أن أنام في هدوء!
وما أن سمعت صراخه حتى دسست الفستان داخل الدولاب بعنف، فاضطربت الرفوف وانزلقت الكراسات وسقط صندوق الأبر فتشابكت الخيوط مع محتويات الدولاب وأصبح الوضع فوضاويًا بحق، فدفعت باب الدولاب لأغلقه بهمجية على سني عمري وأحلامي صارخًة فيه أنا الأخرى: انتهينا، كف عن الصراخ وهيا لننام.
نيللي عبدالعزيز

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *