(ثقافات)
جماليات العالم القصصي** في( المسافات الظامئة)* للقاص نايف النوايسة
-
د. محمد بو عزة – المغرب ــ طنجة
يأخذ البحث النقدي في القصة القصيرة طابعا اشكاليا، وهذا راجع إلى طبيعة القصة القصيرة ذاتها، باعتبارها جنساً يتعذر معه القبض على هويتها. وإشكالية القصة القصيرة تكمن في تجددها المستمر، وعدم استقرارها في أقانيم وقوانين ثابتة، ويزداد هذا الطابع الإشكالي تعقيداً عندما تغامر بقراءة المجاميع القصصية تبعاً لخصيصات كل مجموعة قصصية ومواثيقها الأسلوبية والسردية، على أن أهم اعتبار لذلك الطابع الإشكالي تجسدها مغايرات النصوص القصصية واختلاف برامجها السردية التخييلية داخل المجموعة القصصية الواحدة. هذه بعض التساؤلات الإشكالات التي راودتنا، ونحن نحاول قراءة سنن وشفرات مجموعة( المسافات الظامئة) للقاص« نايف النوايسة.
تتميز مجموعة ” المسافات الظامئة” بالعديد من الملامح والسمات قصة وبناء، ويحتوي فضاؤها النصي على ثلاث عشرة قصة قصيرة موقعة بتاريخ كتابتها، هذا التوقيع الذي هو بمثابة تأشيرة نصية، يشير من البداية إلى أن المجموعة القصصية لم تحترم التسلسل الكرنولجي المنطقي لكتابة القصص.. بل راهنت على التداخل والتقاطع في تقديم النصوص التي اعتني بتوظيف توقيع يبرز زمان كتابتها الذي امتد من سنة ١٩٨٤ إلى ١٩٩٢، باستثناء قصة( الممر) التي انتهت بتوقيع يبرز زمان الكتابة ومكانها. ولقد أكسب هذا الامتداد في الزمان” المسافات الظامئة” أنظمة دلالية خصبة تطلعت من خلالها إلى كشف حالات شخصيات قصصية معقدة في علائقها مع ذواتها أو مع الآخرين، أو مع الأمكنة والأزمنة التي تؤطر حياتها وقضاياها، وهي علائق متوترة وملغومة بالقلق والبحث المضني، الأمر الذي يجعل من شخصيات” المسافات الظامئة” شخصيات فاعلة ومنفعلة، لذلك تأخذ مغامرات الشخصيات وحوافزها شكل البحث عن شيء ما للاستمرار في الحياة: البحث عن قطرة ماء للعجوز في قصة( المسافات الظامئة)، البحث عن عمل في قصة( حبة التفاح)، البحث عن الجماعة في قصة( عناق المكتبية)، إلى غيرها من الأمثلة التي تبرز ان شخوص” المسافات الظامئة” مهووسة ومهجوسة بحافز البحث. وأمام هذا الحافز تجد نفسها مضطرة للخروج إلى معترك الحياة كي تحقق وجودها وكينونتها. فعل الخروج، تصطدم بعوائق العالم الخارجي. ويرتبط هذا البحث المرير بمناخات نفسية ملتبسة وسياقات حدثية معقدة، تلقي بظلالها القاتمة على مصائر شخصيات مغمورة، تستمد شرعيتها من رغبتها في الارتواء من ماء الحياة الزلال، والعيش ضمن حدود تضمن لها كرامتها وإنسانيتها، وما بين الظمأ والارتواء تتحرك شخوص” المسافات الظامئة“.. تحلم.. وتتذكر لصيانة الذات ومقاومة كل أشكال الجفاف والموت والضياع وغيرها من الموتيفات التي تمنح المجموعة القصصية مادة حكائية خصبة ومتنوعة.
تبعاً لطرفي هذه المعادلة المصيرية ” :الظمأ/الارتواء” يحتدم الصراع القصصي في” المسافات الظامئة” على مستويين:
أولهما: الصراع بين البطل وذاته.
وثانيهما: الصراع بينه وبين العالم الخارجي.
وتتداخل خيوط هذين المستويين وأنسجتهما في معظم القصص، بحيث يساهم كل واحد منهما في بلورة الآخر وإضاءة خلفياته وأبعاده.
وبقراءتنا لنصوص المجموعة، يتبين لنا أن القاص” نايف النوايسة” يقع” مجهره القصصي” على النماذج الإنسانية المغمورة، المنتمية إلى القاع الشعبي والدرك الأسفل في سلم المجتمع. وهذا ينطبق مع فكرة الباحث” فرانك أوكتور” الذي يرى أن القصة القصيرة تعلو حين يحين الوقت لظهور ما يسميه” الجماعات السكانية المغمورة”(١). لهذا السبب كان المجال الحيوي للقصة القصيرة هو مجال الطبقات الدنيا، بما يحفل به من صراع وتوتر وتناقض. من هذه الزاوية، فإن أغلب شخوص” المسافات الظامئة” وأبطالها ذوو أصل اجتماعي فقير بعيد ومعزول عن مجال التأثير والنفوذ. ويرتبط هذا الرصد للشخوص والنماذج المغمورة، بالوعي القصصي للبطل الذي يعلن في قصة” عناق الكتبية” التحامه بفقراء العالم وأحراره. على مستوى بناء الشخصية، فإن هذه الإضاءة للخلفية الاجتماعية للشخوص تواكبها تغطية لمعطياتها المورفولجية من حيث أنماط اللباس وأثر الزمان في ملامحها، وغيرها من المعلومات التي تحدد هوية الشخصية القصصية وتميزها عن غيرها من الشخوص.
لنتأمل هذا المثال: يقول الراوي، راسما صورة العازف في قصة” عناق الكتبية”: كان العازف شيخا أعمى تميزه عن جماعته لحية بيضاء مرسومة على ورقة سوداء، وفي وجهه غضون متشابكة بتوزيع هندسي لافت للنظر”. يبدو الراوي، من خلال هذا المثال وغيره، مهتماً بتتبع أدق الملامح والسمات في تقديم الشخصيات. وإذا شئنا استعمال مفاهيم” غريماس” الخاصة بنظرية” العوامل” فإن العامل الذات L’ actant Sujet المهيمن في” المسافات الظامئة” هو الفئات الدنيا من المجتمع بهمومها ومعاناتها اليومية المريرة. لذلك نصادف ضمن شخصياتها: العاطل والمفلس وراعي الإبل….
وإذا كانت هذه الشخوص تتحدد على المستوى الاجتماعي من خلال فقرها وبؤسها، فإنها تتحدد في مستوى رؤية العالم من خلال تطلعها للحياة رغم واقع الإحباط والفقر. وفي المستوى السيكولوجي تبدو الشخوص حائرة ومتذبذبة بين الرغبة في الحياة الكريمة والعجز عن إشباع هذه الرغبة، لذلك تحركها حوافز متباينة، قوامها التطلع إلى حياة أفضل وانسداد الأفق موضوعياً أمام هذا التطلع والرغبة المشروعة. ولتقوية الطابع الدرامي لوتيرة هذه المعادلة( الرغبة في حياة أفضل والواقع المعوق) يجري تصوير الشخصيات في حياتها المألوفة وتلقائيتها المعهودة. وتبرز أهمية هذا التصوير على مستوى بناء الشخصية؛ فبقدر ما تنكشف أبعاد شخصيات المسافات الظامئة في أفعالها وكلماتها وردود أفعالها، تنكشف هذه الأبعاد بشكل أعمق ومجازي في تفاصيل حياتها الاعتيادية. وكما يقول( تشيترين)( باستطاعة التفاصيل التعبير عن شيء أكبر وأكثر فردية من هذه الكلمات العامة ذات المعنى المباشر)(٢). ولذلك أيضا( تشيخوف) يردد قولته الشهيرة:( لا تقل إذا شئت وصف فتاة فقيرة” مرت في الشارع فتاة فقيرة)،[ بل] عليك بالتلميح إلى أن ثيابها بالية مائلة إلى الاحمرار)(3) وكمثال على هذا التشخيص لحالات الشخصيات النفسية، نورد هذا المقطع من قصة( الممر):” عددتُ البلاط مرة ومرة ثلاث وثلاثون بلاطة. ست وثلاثون بلاطة، ما عدا آخر مرة كل بلاطتين مع بعضهما البعض، اثنتان وثلاثون بلاطة”. الحركة الحسية في هذا المقطع تبدو متدفقة إذ تتعاقب الملفوظات في إيقاع سريع، لذلك تبدو بنيتها التركيبية متقطعة على شكل وحدات جمالية تفصل بينها علامة” الفاصلة”. هذه البنية المتقطعة لا تعبر عن طبيعة هذه الحركة الحسية والمادية، وانما عن دلالاتها في حياة البطل الداخلية.
إلى جانب هذه البنية المتقطعة، نلاحظ ظاهرة أسلوبية أخرى وهي تكرار لفظ” بلاط” خمس مرات. هذا التكرار مرتبط بحركة عد البلاط، وهي على ما يبدو من بنية المقطع النحوية والتركيبية حركة مضطربة ومتوترة. وكلمة” البلاط” إذا نظرنا إليها في ذاتها لا تحمل أي معنى جديد أو إضافة بلاغية، ولكن عندما نربطها بالسياق القصصي تتخذ صفة المؤشر على نفسية البطل، وتكشف بنيتها المتكررة والمتقطعة عن حالة البطل وهي حالة التوتر والقلق. وقد كان بإمكان القاص أن يقول في وصف البطل” كان قلقا”، ولكنه في هذه الحالة المباشرة، كان سيستعمل أسلوبا جافاً ومطروقاً، غير أنه بهذا الأسلوب المجازي والتفصيل في رصد حركة عد البلاط، استطاع أن يكشف عن حالة البطل النفسية بشكل عميق وكثيف، بحيث يبدو ايقاع حركة البلاط جزءاً من ايقاع دقات القلب، ومن الايقاع الداخلي والنفسي للبطل.
ننتقل الآن، إلى التشكيل الأدبي واللغوي للمكان. وأول ملاحظة تطالعنا بصدد هذا التشكيل، تتمثل في توزع المكان في المسافات الظامئة إلى مكان خارجي منفتح ويقترن في الصمت والعزلة ( المقبرة) في قصة( الصمت) والموت، ( الصحراء في قصة( المسافات الظامئة) والمطاردة( الطريق الشمالي) في ( المسخ), ومكان داخلي منغلق وهو يقترن بأشكال المعاناة اليومية، وبأنه مكان للنفي الداخلي؛ ( يقول” عواد” بطل قصة” المسخ”: ” الدار قبر كبير فيه إضاءة وخدمات تركض وأفواه تفتح وعيون تلاحق بعضها البعض.. ليس فيها ما يغريك بالحياة”).
أمام هذا الضغط النفسي والظلال القاتمة للمكان الداخلي، يجد البطل نفسه مضطراً للخروج، بحثاً عن مكان للراحة يسمح له باستعادة انسجامه وهدوئه، فيكون” الخارج” هو الملاذ والملجأ؛ يقول الراوي معبراً عن رغبة” سالم” ىطل قصة” الشيخ” في الخروج من مكان الدار المغلق: ” المهم أن يخرج من الحوش.” مبدئيا، يمكن أن نغامر بالقول: بأن البطل في مجموعة المسافات الظامئة يقيم فيما نصطلح على تسميته ب” المكان التخومي”, وهو مفهوم قريب مما سماه” باختين” ” العتبة”(٤). ونقصد” بمكان التخوم”، ذلك المكان الذي ينهض في مفترق طرق بين المكان الخارجي والمكان الداخلي؛ ومن تجلياته في المسافات الظامئة: الممر، الشارع، السوق القروي، الجبل، الجسر، الصخور، جامع الفنا.
ومن خلال السياق القصصي ندرك أن تعلق البطل بالمكان التخومي بعيد وضارب بجذوره في اللاشعور، وفي طفولته البعيدة:” إنني حر الآن؛ فمنذ الصبا وأنا احاول الانفراد بنفسي لأتجول في زنقات المدينة دون ارتباط بجماعة.”
ورغم احساس البطل بالتناغم والانسجام في مكان العتبة، فإن هذا الإحساس يبقى مبطنا بالقلق والتوتر،اذا، سرعان ما يتيه هذا البطل في هذا المكان التخومي، فتنتابه مشاعر الخوف والضياع.
لذلك نجده في مكان” الممر” باعتباره أحد تجليات أمكنة العتبة، يقول:” والممر المستقيم يحشرني في نفسي كربهاً مهملاً في زاوية، ضئيلاً كرأس دبوس ، ضعيفاً كخبط عنكبوت متدلٍّ من سقف.”
وقد سبق ل” باختين” أن أكد على طابع ” الأزمة” الذي يميز مكان العتبة عن غيره من الأمكنة. ففي مثل هذا المكان التخومي يتعذر على الشخصية أن تعيش حياة مستقرة وهادئة، بل بإمكانها فقط أن تعيش التوتر والأزمة. وانسجاماً مع هذا الطابع المتوتر، يأخذ المكان التخومي في المسافات الظامئة معنى” الذروة” التي تفجر الأزمة لا معنى الانعطاف المفاجئ في مسار الشخصية والحدث. في هذا الإطار يبدو القاص غير شغوف بتوظيف المكان الداخلي في مشاهد الصراع والأزمة إلاّ نادراً ، نظراً لارتباط هذا المكان المغلق برتابة الحياة وانسيابها في شكل روتيني وزمن اعتيادي كرونولوجي خالٍ من الانعطافات والمفارقات والأزمات. وعلى خلاف ذلك في مكان العتبة لا يصبح ممكنا إلا الزمن المتأزم والمحترق بالمفارقات( الموت في قصة” المسافات الظامئة” و” البرقع والتحدي”، الخروج عن المألوف في قصة” الشيخ”، المزج بين الهزلي والمأساوي في قصة” الصمت”، المطاردة في قصة” المسخ”.
إلى جانب طابع الأزمة، يتميز هذا المكان التخومي بكونه مكاناً رحباً ومجرداً من كافة القيود التي تفرضها التقاليد والمؤسسات، وباعتباره أيضا مزيجاً رائعاً وغريباً من عناصر ذات تكوينات متباينة.
يقول بطل قصة ( عناق الكتبية) عن (سوق السمارين) كمكان تخومي يحفل بهذه الكثافة الدلالية: وفيه يلتقي كل الأغراب وكل الألوان والسِّحن واللغات والأجناس يشدكإاليه غرابة ما فيه وسعة نَواحيه والماضي الكامن في اعطافه”.
ولعل هذا التعدد والتنوع، مما يمنح مكان العتبة أبعاداً رمزية باذخة، ويضفي عليه سمة” الغرابة” التي تسقط معها كل أنواع التراتيبات الاجتماعية من تفاوت طبقي وتفاوت في مراكز السلطة.. مع ما يستتبع ذلك من اهتزاز واختلال في القيم، بحيث تعود الخيوط الفاصلة بين الهزل والجد، والملهاة والمأساة جِدّ واهية. ففي قصة” الصمت” نجد البطل في (المقبرة) كمكان مقدس، يمزج بين الهزل والمأساوي وعبر فعل المزج هذا، يحطم ذلك الغلاف السميك من القتامة والجدية والرهبة الذي يجعل من المقبرة مكاناً صارماً؛ يقول البطل:” وتتفجر في داخلي قهقة”. إلى جانب الضحك كرؤية للعالم، نعثر على السخرية في تصوير الشخصيات داخل المقبرة” ثلاثة رجال يقفون بعيداً عن الوسط الصامت، أحدهم يكشف العرق” لمعان صلعته” و” يبتسم بلا انقطاع”. ونتأمل أيضا هذا المقطع التالي، وما يلقي به من ظل ساخر يكسر صرامة طقس المقبرة:” الرجل قصير ومؤخرته عريضة” وحين يهم بالتقبيل” يتفجر مشهد ساخر”، تساورني رغبة في” الضحك”، كلما وقف الرجل على أصالع قدميه واهتزت” مؤخرته العريضة”، هكذا يبدو خطاب الرجل الهزلي والساخر والضاحك داخل المقبرة، وهي مكان مقدس ورهيب، غير مقبول من وجهة نظر” القيم الاجتماعية” وغير لائق” بآداب اللياقة والسلوك العام)، لأنه يكسر ما يتميز به هذا المكان من قيود صارمة، ويعمل أيضا على خلخلة وتحطيم ما سماه” باختين” بطابع الكلفة الصارمة.
ويرتبط هذا التشخيص الازدواجي” الجمع بين الهزلي والمأساوي” في بناء معالم المكان بخاصية أخرى تدعمه وتوسع أفقه الدلالي. وهي ما يسميه باختين بالكرنفال” وهو ذلك الاتصال الحر البعيد عن الكلفة الذي يقوم بين الناس”(٥). هذا الاتصال الحر الشبيه بالطقوس البدائية والشعائر القديمة، يسمح للناس بأن يعيشوا حياة( كرنفالية) متحررة من زمن الحياة الاعتيادية. ” فالقوانين والمحظورات، والقيود التي تعمل على تهديد وتوجيه نظام الحياة الاعتيادية، أي الحياة خارج الكرنفال كل ذلك يُلغى في أمن الكرنفال”(6).
لكن ينبغي أن نؤكد بأننا نستخدم مصطلح” الكرنفال” هنا بكثير من التحفظ، على اعتبار أن المسافات الظامئة لا تقدم تشخيصاً جوهرياً لمفهوم الكرنفال، بقدر ما تقدم أشكالاً من الطقوس ذات الطابع الاحتفالي القريبة من مفهوم الكرنفال؛ لذلك نستخدم مفهوم” الحس الكرنفالي” في مقاربتها. لنتأمل هذا المقطع وما يحفل به من أجواء احتفالية” الشارع يفور بأصناف الناس، نساء يزغردن، أطفال يتراكضون ويزعقون، وشيخ مسن يركب حماراً ويبتسم بلا انقطاع، الطلاب الخارجون من القاعة يختلطون بالجوقة المارة ويبتلعهم الزقاق الشعبي”.
فهذا المشهد يتميز” بطابعه الكرنفالي” الرائع، حيث نلاحظ اختلاط الغناء بالضحك والصراخ، واختلاط الأطفال بالشيوخ والنساء. وهذا يعني أن فارق السن لم يعد مهماً. كما يعني التحرر، ولو نسبياً من تقاليد القبيلة التي تفرض عدم اختلاط النساء بالرجال، كما تفرض على الشيوخ طابعاً صارماً يضمن هيبتهم وجديتهم. غير أن كل هذه المحظورات والقيود انهارت في هذه” اللحظة الكرنفالية”، ليكون هذا الجمع والخليط جوقة رائعة من الفرح والغبطة والانفلات نسبياً من قيود الصرامة والانغماس في شعرية اللحظة المرحة.
يبقى الان، بعد أن حللنا بنية الشخوص وبنية المكان ونسق العلاقات الحكائية، ان نقف عند بعض الظواهر النصية التي تشحذ جمالية العالم القصصي في المسافات الظامئة:
1ـــ المنظور القصصي: الملاحظ أن القاص جمع في نصوصه بين صيغة الراوي الغائب والراوي المتكلم، فالقصص التالية:” حبة التفاح”، ” الشيخ”، ” الأستاذ صابر والطبل”، ” المسافات الظامئة”، ” المسخ”، ” البرقع والتحدي” تقدم على لسان الراوي الغائب؛ بينما تقدم القصص التالية:” القرنان”،” قلب أمي”، ” الابتسامة والثقب”، ” الصمت”، ” دمعة أبو طليب”، ” عناق الكتبية”، ” الممر” من منظور الراوي المتكلمة. هذا التقديم المزدوج ساهم في تعدد المنظورات القصصية، إذ تتأرجح قصص المجموعة بين المنظور الموضوعي( الراوي الغائب) والمنظور الذاتي( الراوي المتكلم)، وإذا كان الراوي الغائب يبدو محايداً في تقديم الأحداث والشخوص ويتقلص دوره إلى مجرد” النقل”، فإن الراوي المتكلم يبدو مشاركاً في الأحداث ومتورطاً في في لعبة الحكي.
هكذا يبدو الوعي القصصي في المجموعة مرهفاً، يعرف كيف يلتقط الأشياء، وينتقي زاوية النظر إليها؛ ويحسن بالتالي توليفها وتأليفها
٢ـــ السخرية: يعتمد القاص على البناء التصويري الساخر في تقديم الشخوص.. ومكون السخرية يوجد في المجموعة من حيث هو المعادل اللفظي والرمزي للمسافة التي تفصل الشخصية عن الواقع، وتفصل بين اليقظة والحلم. هذا المكون يفضي بالشخصية إلى أن تكون عرضة للسخرية والاستهزاء. وإذا كانت السخرية تأخذ لدى البطل طابعاً هزلياً، فإنها تأخذ لدى الكاتب طابعاً نقدياً، لأنه يسعى من خلال إبراز المفارقة قصصياً وتخيلياً إلى تعرية الواقع وإدانته، وإلى تشخيص المعاناة المادية والمعنوية التي تترجم غياب العدل والحقوق وسيادة الظلم والقهر.
ويعتمد مكون السخرية في المجموعة بشكل كبير على عنصر المفارقة الحادة بين وعي الشخصية لنفسها ومواقعها وبين الصورة الحقيقية التي تبدو عليها هذه الشخصية في سلوكها مع الواقع ومع الآخرين.
3ـــ الحوار: يعتمد البناء الساخر للبطل والشخصيات أسلوبياً على الحوار بشكل بارز، بحيث لا يكاد يخلو مقطع قصة ما من الحوار بنوعيه المنولوجي والمباشر. ولغلبة الحوار في مستوى الأسلوب عدة وظائف، نذكر منها:
أـــ تقوية الطابع الدرامي في صيرورة الحكي.
ب ــــ إفساح المجال أمام الشخوص للتعبير عن معاناتها ورؤاها للعالم أصالة عن نفسها لا نيابة عن غيرها.
وفي حالة الحوار يتقلص دور الراوي إلى مجرد تنظيم الحوار، أو الإشارة إلى الأطراف المتجاورة.
4ـــ تقنية التقطيع: وتتجلى في اعتماد القاص صيغة التقطيع الفقراتي في صوغ الحدث القصصي بالاعتماد على أرقام متسلسلة. وهذا المظهر التركيبي المتقطع تعثر عليه في نصوص” المسافات الظامئة”، و” البرقع والتحدي”، و” الشيخ”.
تسمح هذه التقنية بتقديم الحدث القصصي في شكل مشاهد، ينهض كل مشهد منها بالكشف عن بعد من أبعاد الشخصية أو حافز من حوافز الحدث القصصي. غير أن هذا التقطيع لا يظل سائباً وإنما يخضع لمنطق جدل يتأسس بين هذه المشاهد على مستوى بنية الشكل والدلالة. وبالنسبة القاص” نايف النوايسة” ترتبط تقنية التقطيع بالإيقاع التقني لحظة إبداع القصة. فهو يقول: القصة في حركة مستمرة لا تستقر على حال، لأنها تتعامل مع واقع متغير وشروط تاريخية مختلفة وفضاءات جديدة للكلمة، وقد لا تستوعب الوحدة الفنية في مفهومها التقليدي والضغوط النفسية التي يواجهها المبدع فيتحول من خلال التقطيع إلى فهم الواقع بطريقة هو أعلم بها من نفسه”.(7)
5ــــ الإحالة التاريخية: وترتبط بتوظيف رمزية أسماء الأعلام التاريخية في بعض النصوص القصصية:( طارق بن زياد، عمر المختار، المعتمد بن عباد، ابن تاشفين، عقبة بن نافع.” وتؤكد” الشعرية الحديثة”(٨) على ارتباط هذه الأسماء الأعلام بأفكار ودلالات وتصورات تتجاوز اعتبار هذه الأسماء مجرد دوالٍ لا تحيل على شيء من الاشياء، إلى كونها طبقات دلالية لا تتجزأ من تضاريس الخطاب الذي تندرج ضمنه سواء كان شعرياً أم سرديا..ً من هذه الزاوية، تعمل هذه الأعلام المستحضرة في المسافات الظامئة على توجيه الدلالة المحورية للنصوص، وتكثيف درجة الرمزية والإيحاء. وترتبط هذه الإعلام في نص المسافات الظامئة بخطاب تمجيدي لهذا” الماضي التليد”. ويقصد هذا الخطاب فيما يظهر إلى اتخاذ سيرة هؤلاء الأبطال نموذجاً يُحتذى في الشجاعة والبطولة ونشدان الصمود والمواجهة وغيرها من القيم التي زالت في نظر البطل من الحاضر. وبالتالي فإن الخطاب الأطروحي في النص ينهض على نوع من المقابلة بين” الماضي التليد” والحاضر المنهار. لذلك يبدو الخطاب الأطروحي سجين هذه المعادلة أو المقابلة، وما ينتج عنها من رؤية متأرجحة وموزعة بين” سحر الماضي” و” خراب الحاضر.” غير أن ما يلاحظ أن توظيف هذه الأعلام في مجموعة المسافات الظامئة على مستوى صنعة الشكل، ولا يتعدى الحقل المرجعي من حيث وظيفة هذه الأعلام.
إن المؤلف يوظفها في بنية النص القصصي كلحظة” استذكار” فقط(” تذكرت قبر المعتمد بن عباد وزوجته”)، لا تنصهر انصهاراً بنيوياً في بنية الخطاب القصصي شكلاً ودلالة وبناء، مع ما يستتبع ذلك من تهجين الشكل القصصي واللغة، و” عصرنة” و” ترهين”(٩) للشخصية التاريخية في
الزمن الحاضر.
هوامش
*نايف النوايسة: المسافات الظامئة، دار الينابيع، الأردن، ١٩٩٣.
** مجلة الآداب، العدد5/6، السنة 43، 1995، ص100ـــ 104
-
سيد بحراوي: مقال له ضمن كتاب جماعي، دراسات في القصة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الاولى، ١٩٨٦,ص١٩٦
-
أ. ف. تشبتشرين: الأفكار والأسلوب، ترجمة د. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، غير مؤرخ، ص٢٩٣
-
المصدر السابق، ص٢٩٢
-
ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار توبقال، الطبعة الأولى١٩٨٦, ص٢٥٠
-
المصدر السابق، ص١٧٩
-
المصدر السابق
-
نايف النوايسة: من حوار اجريته مع الكاتب، مجلة الكرك، العدد الخامس، الأردن،١٩٩٤
-
بخصوص رمزية ووظيفة” أسماء الأعلام” من منظور الشعرية الحديثة، يمكن الرجوع إلى تحليل الخطاب الشعري( د. محمد مفتاح)، وشعرية النص الروائي لبشير القمري،ص١١٠
-
بخصوص” عصرنة” و” ترهين” الشخصية التاريخية في النص القصصي، كمكون بنيوي في الخطاب القصصي، انظر تحليلنا شخصية” طارق بن زياد” ضمن دراستنا” تمزق البناء القصصي والرؤيا”، كتابات معاصرة، بيروت، العدد15، 1992.