نائل بلعاوي: المثقف العميق والكاتب المدهش.. عاشق الحرية وكاره الطغاة

(ثقافات)

في ذكرى رحيل الشاعر والكاتب والمترجم الفلسطيني نائل بلعاوي:

المثقف العميق والكاتب المدهش.. عاشق الحرية وكاره الطغاة

عدنان جابر*

قبل ثلاث سنوات، حين خطف الموت نائل بلعاوي(5 أغسطس آب 1966، قرية بلعا، طول كرم/ 21 أبريل نيسان 2020، فيينا، 54 سنة) أصيب أصدقاؤه والوسط الأدبي بالصدمة والحزن الشديد، وأصيب كاتب هذه السطور بالغم والأسى لأنه فقد صديقاً استثنائياً لم يربطه به الحب والاحترام فحسب، بل كانت بينهما مراسلات سيأتي على ذكرها، لما لها من أهمية في إضاءة الجوانب الأدبية والانسانية لهذا الكاتب المدهش.

1- كـــاتـــب مـــتـمـــيـــز

لم أر إنساناً كتب عن الاحتلال، والاستبداد، والحرية، وحقوق الإنسان مثلما كتب نائل بلعاوي. لم تتمثل كتابته فقط في كم من الموضوعات: الثورة السورية، عطش الشعوب العربية إلى الحرية، هذه الإسرائيل، تمتع الشعوب الأوروبية بالحرية وممارسة حرية الرأي والنقد وعدم مجاملة ومنافقة الحكام…، بل إن ما يميز نائل هي تلك الرؤية الواسعة والعميقة للإنسان والحياة والعالم، تلك الكيفية التي يتناول بها الأشياء والأحداث والظواهر، وقدرته على طرح قضايا والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة ذكية ومبتكرة.

أعتقد بأن نائل بلعاوي كان الأكثر تفرداً وتميزاً في الكتابة على الفيس بوك كماً ونوعاً، اختياراً للمواضيع ومعالجة لها بجمالية لغوية وشجاعة أدبية وإنسانية، وانحيازاً لقيم الحق والخير والجمال، انحيازاً للحرية والإنسان. لذلك كان أصدقاؤه ومتابعوه يتلقفون مقالاته ومقارباته ويقرأونها بشغف واهتمام. كان ثمة إجماع من الكتاب والأدباء ومن كافة من عرفوا نائل وقرأوا له بأنه إنسان جميل.. كاتب مدهش.. مثقف عميق ومتعدد.

 2- عـــاشـــق لــلــحــريــة.. كــاره لــلــطــغــاة

كثير من السوريين حزنوا لرحيل نائل بلعاوي، وهو الفلسطيني، وكتبوا عنه، لأنه كان مع الثورة السورية حتى العمق. لكن نائل كان مع كل ثورات الحرية وضد كل الطغاة. بالنسبة له هذه قضية مبدأ، الإنسان لا يتجزأ.. الحرية لا تتجزأ.. والأخلاق لا تتجزأ. نائل بلعاوي، الإنسان الجميل والمثقف المدهش العميق والمتعدد لم أرَ مثله عاشقاً للحرية كارها للطغاة.

3- الــمــنــغــمــس فــي الــحــيــاة.. الــمــحــلــق فــي الــجــمــال

كان نائل منغمساً في الحياة وصديقاً لها لدرجة الجنون. كنت ترى من أصدقائه النمساوي والألماني والبولندي والروماني واليوناني والشاب المثقف والعجوز بائعة الجرائد…، كان يصادفهم في الحانات والمطاعم والشوارع، يجالسهم ويسهر معهم ويحاورهم، ومنهم من كانت تربطه بهم أواصر الصداقة.

من تفاعله الحي مع الواقع، ومن إتقانه للغة الألمانية وعمله كمترجم متصل بحيوات الناس، ومن اهتمامه بالقضايا العامة ومتابعة الصحافة الأوروبية، ومن عشقه لجمال فيينا وفنها وموسيقاها ومعمارها وخبرته بشوارعها وأزقتها، كان نائل ينهل من كل ذلك موضوعاته المدهشة.

4- تــلــك الــمــرأة الــلــئيمة.. هــذا الــمــوت الــلــعــيــن!!

ربما يتساءل كثيرون: نائل بلعاوي، هذا الكاتب الشاعر المثقف المترجم المدهش، لماذا رحل وترك لنا كتاباً واحداً فقط، ديوان شعر لا غير، وضع له اسماً متواضعاً (“ما يشبه الشعر”، الأهلية، عمان، 2018) مع أنه ينطوي ليس على ما يشبه الشعر، بل على شعر مدهش بديع، لغةً وصوراً؟

.. أعرف كاتباً كان يتباهى أمامي بكثرة إصداراته وكتبه ودواوينه.

هذا النمط من الكُتَّاب إذا لم يجد من يمدحه يمدح نفسه، حاله كحال من ذهب إلى عزاء، وبدل أن يقوم بذكر محاسن الميت، ذكر محاسنه هو وذكر فضله على الميت!

اعترف لي نائل – وهذا من سوء حظه، ومن سوء حظ قرائه- أنه أودع مخطوطات كتبٍ له لدى سيدة، أقدمت على حرقها ” انتقاماً من حب فاشل، أو بسببه”.

أخبرني أنه كان يعد للنشر “قصائد كلارا” مع مقدمة لحكايتها، وقد غمرني الفرح والامتنان لثقته بي، عندما طلب مني أن أعطي رأيي بمقال له قال أنه مر بسجال قبل نشره، وهو بعنوان: “تجلّيات الحبّ: دوروتي بيرلنغهام وآنا فرويد مثالاً” نشره في “النهار” اللبنانية (23-1-2019)، مقال جريء وغاية في الأهمية، قدمت له رأيي مفصلاً، واقترحت عليه أن يكون هذا المقال منطلقاً لكتاب ينشره بالألمانية، ويقوم هو، أو غيره، لاحقاً بترجمته إلى العربية.

كتب لي:

” تحياتي عدنان العزيز مرة أخرى وأخرى، عليً بداية أن أعلن عن احساسي بالفخر امام موقفك النبيل مما أكتب عموماً، وعليً أن اخبرك بأن لديً عديد المشاريع المؤجلة.. نحن أهل كل شيء مؤجل “.

 وكتب لي أيضاً:

 ” أحب السرد وأدب الرحلة وقراءة أحوال الأمكنة، قد أقوم مرة بجمع بعض المواد ونشرها في كتاب مستقل حول بعض الشخصيات.. سنرى، ولكن الحياة تأخذ مني الكثير، انا ابنها البار وصعلوكها الشريد “.

ما أود قوله، أن نائل لم يكن خالي الوفاض، لم يكن مجرد كاتب فيس بوك، بل كانت لديه مخطوطات ومشاريع ذات قيمة ثقافية وجمالية عالية، قابلة هي وغيرها لأن ترى النور، لولا تلك المرأة اللئيمة.. وهذا الموت اللعين.

5- نــائــل وأمــه

لعلها صدفة غريبة وموجعة، أن يكون عمر نائل (1966-2020، 54 عاماً ) هو نفس عمر أمه التي أنجبته وهي في العشرين ورحلت قبل رحيله بعشرين عاماً( 1946-2000، 54 عاماً)!

موت أمه وهي شابة ترك حسرة في قلبه، وحزناً وسخرية في عينيه، وها نحن يتأكلنا القهر والأسى لرحيله شاباً.

استهل نائل ديوان شعره بهذا الإهداء إلى أمه:

إلى رويده.. (1946 / 2000)

لم أجد ما أفعله في غيابك

غير ما أفعله الآن:

رعاية الظلام

وتلوين الهواء

6- رحــيــلــه لــيــس أي رحــيــل

رحل نائل، لكنه بقي في قلوب وذاكرة محبيه. كثيرون يفتقدونه ويشعرون بالظمأ لكتاباته، بل يذهبون لمعاودة قراءة ما ترك من مقالات. كان يمتلك سبيكة جمالية أدبية ذات لغة خاصة ونكهة مميزة، الكلمات بين يديه تغدو طيعة، تنثر المعاني والدلالات، تذهب إلى الأعماق، ثم تحلق إلى آفاق رحبة.

كنا اتفقنا أنا ونائل أن أزوره في فيينا- النمسا، وأن يزورني في تولوز- فرنسا، لكن الموت السافل خذلنا واختطفه بغتة.

هناك قبورٌ كثيرة، في أربع رياح الأرض، لمبدعين وثوار وأحرار، رجالاً ونساءً، ومن جنسيات مختلفة، أريد أن أزورها، وأن أنثر عليها وردة.. دمعة.. وأغنية.

من بين هذه القبور: قبر صديقي نائل بلعاوي، في عاصمة الموسيقى والدهشة، فيينا.

يقول الكاتب البلغاري أليكو كوستانتينوف: ” البشر كثيرون، الإنسانيون قلة”. كذلك، المعارف كثر.. الأصدقاء قلة.

 الصديق النوعي العميق الجميل هدية من السماء. حين تفقد صديقاً تفقد قطعة من قلبك، لهذا عليك أن تمتلك قلباً كبيراً، ليكفي كثيرين.

خبرتُ فَقْدَ أصدقاء لي.. فَقْدُ نائل بلعاوي هو الأوجع.

موته لا يذهب بعد ثلاثة أيام، أو بعد الأربعين، ها أنا أتجرعه على مهل، وسأتجرعه طويلاً، ما دمتُ مسجلاً في كتاب الحياة.

..  خذلني هذا الموت.

كتب لي:

” جميلة تولوز. زرتها مرة وفي المرة القادمة سلنتقي بلا شك. مع التأكيد على الدعوة لفيينا مفتوحة في كل وقت “.

لم أزر فيينا من قبل، كنت متشوقاً لزيارتها، أن أرى مع نائل عاصمة الموسيقى والدهشة، أتجول في شورعها وأزقتها، وأن أتأمل معمارها وأسمع موسيقاها.

هكذا كنت أفكر: سننتظر رحيل كورونا، وأن يتركنا هذا الوباء سالمين حتى نحقق مشروع الزيارة.

غير أن الموت خذلني وفجعني، وفجع محبي نائل.

* عدنان جابر: أسير سابق، جريح ومبعد، مواليد فلسطين ــــ الخليل 1952، يقيم في مدينة تولوز، فرنسا. كاتب وشاعر وصحفي، دكتوراة في الفلسفة (صوفيا، بلغاريا 1991). نشر العديد من المواضيع الإبداعية والمقالات والدراسات والمواد المترجمة في الصحافة الفلسطينية والعربية والبلغارية.

 صدر له: 

  1- ملحمة القيد والحرية، عالم أسرى المقاومة الفلسطينية في سجون العدو الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت 1979.

 2- الثوب والعنب، في سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية، مطبعة نضر، دمشق 1994.

  3- العرب وعصر ما بعد النفط، دار علاء الدين، دمشق 2004.

  4- مجموعة شعرية: “غرفة لذاك الشيء”، دار أزمنة، عمان، 2017.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *