البناء القصصي في (المبعث)


*حسن البَحّار

( ثقافات ) 

لجُ القصةُ منذُ زمنٍ ليس بقصير اساليبَ الحياةِ بكلِّ أشكالها ومظاهرها، حتى صارَ مكوّنُ التركيبِ القصصي على مستوى عالٍ من البناء عند الحوار والحركة والمكان والزمان حيث تناولت القصةُ العراقيةُ أنموذجا عرض أساليب الأحداثِ والشخصياتِ داخلَ إطار التميّزِ اللغوي في امّحاء الراوي خاصةً عند نظريةِ الاستبطانِ التي ترسخُ التحليلَ السرديّ في موروثهِ التركيبي ( المتن والمبنى ). 
يبدو جلياً من مجموعة القاص ( علي الحديثي ) ( المعبث ) تأكيداً لما تقدم حيث نشاهد هناك قصديةٌ واضحةُ الوضوحِ على استبيانِ خصائصَ مهمة السرد بلغةٍ كانت تقدم سائلاً وإشاراتٍ معنونةً داخل كلِّ قصةٍ في مجموعته التي شكلت صوراً كانت قادرةً على رسمِ القناعةِ في الاستمرارِ النسقِ للسردِ النصي تحتَ علاقةِ المشترك بين الخارج الواقعي والداخل الافتراضي على أثير الحدث الذي أضاء المنطقَ في ( المعبث ) .
” بغزارة العرق يتصبب منها، مقلبة نظراتها بين الوحوش التي كونت حولها حلقة لا باب لها” من قصة الأسيرة ص 21 .. يُخيّل لي ان القاصَّ هنا ارادَ بهذا المدخلِ التراكمي في الصورةِ والإثارةِ مدَّ يدهِ إلى القارئ طالباً منه الدخول في عالمهِ بحذرٍ بحيث يكون هو المسيطرَ الوحيدَ على ابواب التفكك والتركيب النصي بحريةٍ واضحةٍ.. فلو تعمقنا بقصديةِ السؤال المتكرر عند القاص في القصة نفسها عند قوله ” وبرغم استتاري الكامل عنهم إلا أنني كنت اضم بعضي إلى بعض ولكن ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ ” لوجدنا ان القاص قد اختار مصطلحاً ترشيحياً إلى أن البطلَ يخضعُ للاختبارِ والاختيارِ ونحوهما مما يؤهلهُ للحصولِ على حدثٍ معني التملك عند الذات الفاعلة بكفاءة الانتزاع؛ لتحقيق موضوع الرغبة في التكملة حتى النهاية في قوله : ” تركتها خلف ظهري.. وفي كلّ خطوة كنت ارى الماضي ورائي إلى ان وصلت نهاية المتنزه لأوقد سيكارتي ” ثم يقول: ” ذلك ان بقيت ” .. ص 26 . لم تكن هذه النهاية سوى ضفةٍ من ضفافِ الانفتاحِ في الاختلافِ الذي يعبّر عن نفسه من خلالِ صورةٍ جديدةٍ سلبت القناعةَ أن النهايةَ متوقعةٌ..
وهذا التوظيف كفيلٌ على ان يبيّنَ لنا اهميةَ الجملةِ القصصيةِ في المقطعِ الواحد. وقد تكرر الامر في المجموعة عند قوله: “بابتسامتها الشاحبة استقبلتني، وقد جعلت من قلبها قبراً لصرخاتها المكبوتة .. لست أعمى.. لست أصم.. ” ص 58 .
دوماً ما يرغبُ الانسانُ على تحديدِ موقعهِ من غيرهِ ليحافظَ على المساحاتِ المسموحِ تجاوزها والتي تبقى لذاتهِ وليس هناك حقٌّ على أي فردٍ تجاوزها ولكن بصفةٍ عامةٍ جميعُ اشكالِ الفعلِ والفكرِ تحددُ الانسانَ في موقعهِ من العالم دون دراية منه او بدراية تتلاشى عند مغزى الاكتشاف الذاتي انه الأفضل.. 
وهذا ما نسميه في معجم السرديات ( بناء التدرّج ) وهو يعني أن تتكرّر البنية القصصية ذاتها في المقاطع السردية المتسلسل والمتوازي المتكرر وبتكراره تزداد الصورة القصصية نموّاً ، وقد يجد الباحث في هذا الأمر أن ( تولستوي ) قد بنى في الموتِ بناءً قائماً على التدرّج في هذا المعنى فموتُ السيدةِ في المقطع السردي الأول من قصته ( الميتات الثلاث ) يوازيه موتُ الحوذّي وبموته يأتي في المقطع الثاني موتُ الشجرةِ التي قُطعت لتجعل للسيدة الميتة صليباً.. 
ولعل بناء ( المعبث ) في ( إحدى وعشرين ) قصة يُمكننا من القول انه مَعنّي في بناء التدرج القصصي استناداً إلى المتناقض الذي يتكرر مع المتشابه والمتضاد والمترادف المتكرر في ذاتية السؤال وقصدية الحوار داخل كل نص قصصي يختلفُ احياناً ويتفقُ اخرى لكن يتشابهُ في الاطارِ العام المتصل في بنية السرد الحدثي بوتيرة النسق المتجدد الباعث في كل وجه عنوان كان محلاً جديداً يُظهر لنا رتابةً عاليةً في النص يكشفُ الاختلافَ عن الاخرى بطريقة مقنعة ضمن سياقات تحدد علاقاتها المضبوطة في روعةِ ورشاقةِ الكلمة ورجاحةِ العبارة التي تدرجت في محاور قدمها لنا ( علي عبد الرحمن الحديثي ) كانت واضحةَ الإرادة عند الرغبةِ والتواصلِ والصراعِ قادها بمنطقيةٍ عاليةٍ ترسم على ذهنية القارئ قناعةَ تحديدِ الرابط الماثل في الفواعل والأدوار عند شخصياتها التي شكلها مرة من خلال النص وأخرى في وصفه إياها بما يراهُ يليقُ بمقام الحدث تاركاً لنا الاستدلال عليه بعد التألف مع الانفعالات داخل رؤيته الخاصة إلى الزمن الثلاثي ( الماضي والحاضر والمستقبل ) في قصص المعبث، زد على ذلك انها مجموعةٌ تفيضُ منها العاطفةَ، تنشرُ في اغلب أجوائها الرائحةَ، تتركُ أثراً في التخيّلِ إلى الأفضل ولاسيما الإهداء الذي قدمه لنا القاص:” إلى أمي وأبي”.
وهذا بحد ذاتهِ عودةٌ واضحةٌ إلى الانسانية الصحيحة التي رأيت فيها اغلب معاني هذه المجموعة تنادي الرجوع إليها . 
خلاصة القول إنها مجموعةٌ تستحقُ الاقتناءَ..

شاهد أيضاً

قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

(ثقافات) قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة سامر حيدر المجالي على غير ما يُظَنُّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *