مراجعة روجر جوزيف* لكتاب إدوار سعيد، الاستشراق

(ثقافات)

مراجعة روجر جوزيف* لكتاب إدوار سعيد، الاستشراق

ترجمة: محمد نور النعيمي**

يسود الاعتقاد في التقاليد ذات النزعة الوضعية التي َتمَرَّنتُ فيها أنا ومعظم نظرائي بأن التحقيق المنظم في موضوع ما هو الذي يُنتِجُ معرفة “حقيقية”. ومن الوارد أن مثل هذا الافتراض لم يكن صحيحاً أبداً، غير أنه كان على الأقل مريحاً. وقد أصبحت طبيعة المعرفة وفاعليتها إشكاليتين باطراد، فكتاب سعيد ، الاستشراق، يلحُّ على أن أنظمة المعرفة مجازية وتُوَلِّدُ عقلانيتَها الخاصة أحياناً لتكبحَ أو تُعيدَ توجيه التأويل باتجاه أهدافٍ اجتماعية وسياسية.

وخلال الفترة الماضية كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو Micheal Foucault يحاول برهنةَ أن التأويلات التاريخية والاجتماعية ليست مستقلة عن الأيديولوجيا، ولكنها بالتأكيد أدوات لتسويغات محكمة من أجل ممارسة القوة. وباتباع هذه الاستراتيجية يدقق سعيد في تقاليد مجموعة من العلماء الذين”صنعوا” فرع الدراسات الإسلامية – أي المستشرقين. إن كتاب الاستشراق ليس كتاباً حول الشرق الأوسط، بل حول الرجال الذين أنتجوا نظاماً فكرياً ونظام إشارة سيميائي لخدمة أهدافهم الخاصة في الهيمنة.

وكتاب الاستشراق ليس مرآةً عن الشرق ، ولكنه مرآةٌ عن الغرب، إذ إنه يتضَّمن فكرة أن المعرفة دائماً مرتبطة ارتباطاً جدلياً بعالم سياسي وثقافي، وأن التمثيلات “متضمنة بدايةً في اللغة وانتهاءً في الثقافة وفي المؤسسات والمحيط السياسي للمُمَثِّل  representer (ص 272).

د. محمد نور النعيمي

إن صورة الشرق المسلم التي انبثقت في الغرب، على حدِ قول سعيد، كانت صورةً نمطية “تجرد إنسانيةَ ثقافة أخرى” (ص 108)، فالعربي، بوصفه عاجزًا عن التفكير العقلاني، كان يُفْهم على أنه محكوم بنشاط جنسي غير مكبوح وبغرائزَ طاغيةٍ.  إذ ليس من الغريب ألبتَّة اكتشافُ أن روادَ العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر كان لديهم أفكارٌ قديمةٌ نوعاً ما حول العالم الثالث من”وحشية” و”همجية”. ولكن في حين أن الأنثروبولوجيا الحديثة تبادر إلى تحطيم هذه الأفكار، فإن الاستشراق، كما يرى سعيد، مبنيٌ عليها. فالعلماء الذين دشنوا القرن التاسع عشر كانوا قد خلقوا الذهنية التي أعاد المستشرقون الحديثون بناء العالم الإسلامي عليها وصوروه لمجتمعهم الغربي الخاص. إن سعيداً يقتفي آثار الجيل الأول من الرجال الذين ربطوا أنفسهم فكرياً أو فنياً بالعرب عندما يدرس نصوص ساسي Sacy ورينان Renan ولين Lane وشاتوبريان  Chateaubriand وفلوبير Flaubert ونيرفال Nerval وبورتون Burton. وهو يتعمد إقصاء الألمان الذين يراهم انعكاساً للعلماء الفرنسيين والإنكليز – وهذا افتراض لست متأكداً تماماً من تبريره. والفصل النهائي يقدم نقداً للاستشراق من نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، إذ نرى عنصرية وليام روبنسون سميث  William Robinson Smith  الفاضحة وعنصرية ت. أي. لورنس T. E. Lawrence الحاذقة. إن جيب Gibb وماسينون Massignon يمثلان صوتين أكثرَ تعاطفاً من سواهما مع أنهما كانا قد غُذيا بالاستشراق الاستعماري غير الإنساني. إن المرحلة الأخيرة هذه استُبدلت فيها سماحة جيب وماسينون بعدائية تجاه العالم الإسلامي كما لوحظت في الأنماط الملفقة والقاسية أحياناً عند مورو بيرغر Morroe Berger وغوستاف فون غرونباوم  Gustave von Grunebaum ومانفرد هولبرن Manfred Halpern ورفائيل باتاي Raphnal Patai وسانيا حمادي Sania Hamady وبرنارد لويس Bernard Lewis. إن المسألة الهامة عند سعيد هي أن هؤلاء العلماء لم يسيئوا قصداً تمثيل الشرق الأوسط، ولكن الثقافة الفكرية والسياسية الغربية التي أحاطت بالاستشراق جعلت مثل هذا التمثيل متلازماً منطقياً مع الإمبريالية.

لقد قدّم سعيد مقولةً مقنعة لعدَّةِ أسباب، ويبدو لي، على كل حال، أنه كان يلحُّ على قضية أساسية واحدة ألا وهى: إذا ما قُدِّر للخطاب، نتيجة لطبيعته المتغيرة، أن يُسيء التمثيل وأن يكون محكوماً بكل النوازع الشخصية، فكيف لنا أن نتجنَّبَ الاتهام نفسه الذي يضع سعيد المستشرقين في قفصه؟ إن هدف كتاب، الاستشراق، لم يكن الإجابة عن ذلك السؤال، ولكن الكتاب يجبرنا بالتأكيد على أن نسأل سؤال مؤلفه.

* – روجر جوزف : أستاذ في قسم علم الأنثروبولوجيا في California State University – ، Fullerton – USA  والمراجعة منشورة في دورية 948. 4)) (December 1980), (82) American Anthropologist.

** – مترجم وأكاديمي سوري.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. شكرا للمترجم الذي يفتح بعمله نافذة على الافق البعيد،،
    اتساءل ما مستقبل الشرخ بين الشرق و الغرب؟؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *