جوزيف وستيفان والهرة الصغيرة

خاص- ثقافات
*سفيان سعيداني

وماهي إلا الساعة العاشرة ليلا حتى اندفعت الشماريخ بقوة في الفضاء المظلم تنافح برج إيفل بألوانها الزاهية المتناثرة، وشقت المواكب الاحتفالية بعروضها البديعة صفوف الحشد الذي يهزه الطرب والرقص، وتوالت الفرق الموسيقية بآلاتها اللامعة وبطبولها المدففة، وبأبواقها الذهبية تندفع منها شارات كأنها إحدى شارات الإمبراطوريات الخاوية مع ألحان وترية منسقة، ورغم هذا الكم الهائل من العابثين في هذه الأجواء الجنونية إلا أن هنالك مواطنين لا زالوا يتهافتون من بيوتهم هرعين تغطي وجوههم المبتسمة أقنعة من شتى ما زخرت به الأساطير والخرافات ويضعون أردية عجيبة بين زركشة وبين أسمال وبين عباءات ودروع حديدية . كل أهالي مدينة الأنوار يرقصون الليلة ويرددون أناشيد الحماسة من عمق أفئدتهم التي ترتجس سرورا وتتصدع إقبالا يخالجه التهور وقد تألبوا في مركز المدينة، إلا شخصا واحدا كسر القواعد الكرنفالية وزهد في هذا الفلكلور الشعبي المتواتر ونبذ الإنضمام إلى المحتشدين الغارقين في اللهوتسيرهم بعض الأوهام الخيالية مما سولت لهم أنفسهم . لم يكن ستيفان يروق هذا المهرجان الذي تصدعت به شوارع فرنسا ولا هويستسيغ أجوائه المضطربة، فانطوى على نفسه منذ المساء في غرفته الصغيرة يناشد عزلة ويلتمس الهدوء الذي ييسر له ملكة التفكير، ولكن ذلك المناخ المظطرب حال بينه وبين ما يشتهي من سكينة وسلام ذاتي، فالأصوات لا تكف عن صخبها المدوي والشماريخ لا تكف عن زلزلاتها كأنها قنابل جوية تطلقها طائرات الإيف جي الحربية على إحدى الجزر النائية، والآلات التي بذل اللاعبون في صيانتها لا تكف عن معزوفاتها المتتالية والمتنكرون لا يكفون عن ضوضائهم وهذرهم وكل هذه الألوان العبثية المختلطة تداخلت موضوعاتها وصارت في نظره حومة من الإزعاج لا يرجى منها فهم أويطاق لها سماع أومشاهدة، ومضى نحوالنافذة عله يرى القمر البازغ فهالته تلك الفسيفساء المختلطة الألوان وغشيه دوار فذاقت نفسه مر الضجر والقلق وتعكر مزاجه الحرج واحمر وجهه وتقلصت أنفاسه واظطربت أعصابه وذاق صدره أيما ضيق، ولما عاد إلى الكنبة راوده خناق كأنه داء الجاثوم المأساوي فانفض حائرا وارتدى سترته الزرقاء فوق قميصه الأبيض ونزل الدرج بعجلة، وفتح الباب فصدمته الضجة بعنف شديد فأغلق من ورائه الباب بعصبية مفرطة وبانت ملامح وجهه الغاضب على تلك الأنوار الراقصة التي تتوجهج حينا وتخفت حينا، وقد أضفى عليه ذقنه التي تناسى حلقها نوعا من الوقار، واندفع بين الحشد بخطواته المستعجلة وقد تشنجت تقاسيم جبهته ولاحت من عينيه المرهفتان أوتار من الأسى، وكانت أعصابه تتقد بين الفينة والأخرى كأنها جمرة في مهب ريح يندفع ليذكيها هنيهة ويغير مساره هنيهة أخرى ليمنحها ثواني من الآمال الواهنة، سار عليل النفس فكان تارة يتعثر بإحدى العربات الجوالة وتارة أخرى تنفجر أمامه إحدى مفرقعات الأطفال ولولا يأسه من إمساكهم في هذه الجلبة الكثيفة لطاردهم وأذاقهم من تجلد نفسه وكبتها ويل التأديب، هوفي الحقيقة يزهى كثيرا للأطفال اللاعبين يلتمسون الحرية في هذه المناسبات النادرة ولكن نفسه كانت تحجر عليه وترد كل مسرة إلى نوع من السواد القاتم . كان يناشد مكانا هادئا في إحدى الضواحي البعيدة، يظل فيه ريثما تنتهي تلك السخافات التي أنكرها في نفسه وتطير منها اشمئزازا، وعلى هذا الشعور الذي ولد معه منذ نشأته فقد قطع المكان في سرعة غير متوقعة بخطوات متسعة متتالية، واتجه صوب أحد الأحياء المقفرة والتي تركها أهلها خاوية ملتحقين بالمهرجان، وبناء على تلك المسافة التي اجتازها فقد تقلص الضجيج وصوت المفرقعات والشماريخ وكانت كلما تباعدت خطواته تباعد الصخب شيئا فشيئا، فود لوأنه يبتعد بقدر ما تنعدم به الأصوات ولكن ذاك من المستحيل فحتى الأطراف البعيدة قد تسلل لها بعض الضجيج وتردد بين أصدائها . لم تكن الضواحي كما كان يتخيلها، فهي على الرغم من انزوائها عن قلب المدينة إلا أن بها هندسة معمارية من القرمد والأبواب العتيقة، هندسة جميلة راقية وأزقة أرضيتها حجارة بدل الرخام، وشاء لويتنعم بهذه الصور اللافتة على ضوء الصباح فجال فيها حتى تعب وبعد مشوار لامس فيه النوافذ القديمة جلس يستريح في أحد الأزقة الضيقة مسندا ظهره إلى أحد الأبواب العريقة، وتنفس بعمق ثم رفع رأسه يرمق النجوم بنظرات حائرة يشوبها نوع من الضيق، لقد رافقته الهموم حتى هذا المكان الذي البعيد، ولم يجد من تفسير لحالته إلا أنه تشائم من صدره الذي كان كمقبرة دفنت فيها جميع مصائبه وجميع ما تمخضت به سيرته من آلام وسيرورته من إرهاق عاطفي، وما كان له من خليل يهون عليه طريقه الوعرة فكل اللذين يعرفهم ماهم إلا شخوص منصهرة في دوامة الرتابة تستبد بهم سلطة الجماعة فهم عن أمرهم مغلوبون وإلى المادة منحازون وإلى قضاء المصالح يزعمون ويتوددون، وبينما هوعلى تلك الحال من الشرود والذهول يهيم فكره في جومن الإطراق الثقيل إذ دق مسمعه همسات رقيقة تنم عن الخوف والفاجعة، أنكر الأمر في بدايته ثم ما هي إلا ثوان معدودات حتى دوت ضجة، كأنها أشياء تساقطت وتصادمت ببعضها، استيقظ يستعلم الأمر رمى ببصره إلى الأمام ولكن الزقاق الضيق ينم عن الظلمة، فلم يجد سوى التقدم كوسيلة للإستفسار، فمضى متردد الخطى وبعد خطوات طويلة تعثر بجسم حتى تهاوى على الأرض، فاستيقظ مذعورا ولما دقق في الأمر وأخرج من جيبه قداحته التي تناسى أمرها وأشعلها، انبعثت من شعلتها لهب خافت أنار المكان قليلا وإذا بها كومة هائلة من الكرادين المتناثرة، كانت قد رصفت في فجوة بين بيتين، تساءل في نفسه عن سر سقوطها وما كاد يملي في باطنه فرضيات محتملة حتى انبعث ذلك الصوت مرة أخرى بنبرة أعذب وأرق، فعلم أن شيئا ما قابع وراء هذه الكومة المضطربة، فأزاح جميع الكرادين بسرعة وأشعل القداحة ليتبين الأمر فتوضح ذلك الصوت بينا عذبا، وأزمع في قرارة نفسه على أنه مواء لا ما حالة، وحقا أصاب جزمه وإذ بهرة صغيرة تخرج من بين الركام بخطوات متعثرة وكان خيالها المنعكس أكبر منها حجما، كانت ترتعش بجسدها النحيل وبفروها الناعم،، وكان ذيلها يهتز في اضطراب مضحك دونما أن يستقر على حال، ابتسم ستيفان ثم تهاوى عليها بكفيه فحملها إلى صدره وأزاح الكرادين عن الطريق برجله وخرج من الزقاق المعتم نحوشارع آخر به فوانيس ليلية، وجعل يتأمل الهرة مليا بعينيه فكانت بديعة على الرغم من أنها أصغر من كفيه معا، تتمرغ فيهما بلطف ورقة ومن عينيها المتسعتين اللازورديتين تنبعث حيرة وريبة كأنها تترجى ستيفان أن لا يتركها شريدة وحيدة في أحد الأحياء والأزقة كما فعل عديموا الضمير، داعب رأسها بأنامله وجعل يمرر كفه بسلاسة على فروها فاسترخت قليلا.

ثم اطمئنت وانجلت عنها تلك المخاوف فاستكانت وأسدلت جفنيها في وداعة، وعلى وقع صورتها البريئة تطايرت هموم الشاب من صدره كطيور سوداء انفضت من على غصن مورق أخضر، أوكضباب منقشع ذات ضحى يوم شتائي قاس واستأنس بها، وانكسر إشفاقا على حالها المرهق التعب رغما عن ابتسامة متفائلة، وحمد الله الذي بلغه هذه المسكينة المتشردة في ظلمات الليل القاتمة، وضعها برفق على الأرض ونزع سترته الزرقاء ثم وضعها عليها بتأن ثم ربطها بإحكام على عنقه فصارت كهيئة الخيمة المعلقة، وجعل لها متنفسا، واستكمل جولته كقارب لا يرسومنشرح الصدر مبتهجا . عبر شوطا طويلا دون كلل أوملل، وانخفض الصخب كثيرا وتوانى عن الأسماع وإذا به ينفض نحواحتشاد معماري في شكل دائري في عمقه حديقة بها أشتات كولونيا مزهرة ومقعد خشبي طويل إلى جانبه فانوس ينير الحديقة بأنوار خافتة، فاستبشر وقرع خطواته نحوالحديقة عله يظفر بجلسة هادئة رائقة على نسمات كولونيا عذبة ويخوض محاورة مع رفيقته النائمة، مضى على العشب الطري ولما بلغ تجمعات الكولونيا الوارفة تعثر بجسم عريض فسقط على وجهه هووالهرة، وإذا بصوت ينبعث متأوها : آه يا ظهري، آه . ولما استدرك ستيفان واستقام واقفا متفحصا القطة، إذ بشاب نحيل يستيقظ من بين الكولونيا، لاويا يده وراء ظهره، فعلم ستيفان أنه دهسه فاعتذر برفق، فقال الشاب الآخر بنبرة عذبة : لا عليك !، أنا المخطئ، ماكان يجب أن أنام هنا، فعلى الأقل فوق المقعد فهومكشوف . ابتسم ستيفان ثم مد يده قائلا : ستيفان . فصافحه الشاب قائلا : تشرفنا !، وأنا جوزيف، هل تقبل دعوتي في أن نجلس، فظهري يلتمس ذلك . فضحك ستيفان رغما عنه وقال : بالطبع، كما تشاء . وحمل جوزيف من مضجعه غطاء كان يزعم أن يتدثر به في مرقده هذا ومذياعا مربع احجم عتيق المنظر ومضوا نحوالمقعد فافترشه من تحته وجلسوا في وقار، لقد خالجت الشاب ستيفان تساؤلات عديدة، فقد كان جوزيف مثله تماما ما ارتدى لباسا تنكريا ولا قناعا، غريب حقا أمره، ماذا عساه يفعل هنا ؟، أتراه يناشد الهدوء مثلي ؟! أتراه لا يأبه لأمر المهرجان !؟، وما كاد ستيفان يلقي تساؤلاته حتى قاطعه جوزيف بدوره متسائلا في نوع من الكوميديا وبملامح مستفسرة : ما تلك المخلة التي تحملها على عنقك، أتراك مسافر ؟ . فرد ستيفان مبتسما : كلا . ثم نزع عنه سترته الزرقاء وفتحها فبانت الهرة الصغيرة نائمة، فأتم قائلا : إن قصتها تشبه تماما لقائي بك، ولكنني لم أتعثر بها بل بكرادين كانت نائمة بينها . فداعبها جوزيف قليلا فاستيقظت وأصدرت صوتا ينم عن الغضب، خشخشة عميقة، فقال جوزيف : يبدوأنها لا ترحب بي هه . فرد ستيفان : بل هي تغار، فقد تيقنت لوهلة أنني رفيقها الوحيد . ضحك جوزيف قليلا ثم صمت مطرقا، وكان ستيفان يتأمله بحيرة، إن وراء هذه العيون المرهفة لأمر عجيب وسر دفين، ووراء هذا الزي التقليدي الذي ترصعه نقوش لذوق مختلف ونظرة أخرى لمفهوم الحياة، قال جوزيف محدقا بالأزهار اليانعة من حوله : ليلة جميلة، أليس كذلك ؟ . فرد ستيفان بعد تنهد : إن تركها أهل الصخب في شأنها . تأمل جوزيف قليلا ثم كبس زر المذياع فانبعثت من شريط كان به موسيقى سمفونية بيتهوفن التاسعة، فزاد اهتمام ستيفان، واستيقظ فجأة هرعا من على المقعد فأفزع الهرة الصغيرة وبدوره أفزع ستيفان الحائر في أمره، لوى الغطاء الأبيض حول نفسه فصار كرداء أثيني ثم رمق القمربنظرات عابرة وقد صار يلمح الحديقة خشبة مسرح هائلة في ديكور إمبراطورية إغريقية عظيمة، وهوبطل أحد عروضها في دور نبيل حكيم تداعت الشائعات حول سيرورته فتجمع من فوق الخشبة حشد من المدينة كان يتخيلهم بأرديتهم الرثة وبقبعاتهم وتلابيبهم وعلى يمينهم كهنة بألبستهم السوداء التي غطت أجسامهم السمينة، يقفون أمام قصر الحاكم الموق والتفت إلى ستيفان بملامح تنم عن الريبة والغرابة وقال بصوت جهوري قوي أجش بعد أن انتهت شارة المطالع السمفونية : أين هم الآن ؟ . فاستغرب ستيفان في نفسه محدثا : من هم يا ترى هؤلاء اللذين يقصدهم ؟ عن ماذا يتحدث أصلا ؟ وماهذه الإنتفاضة المفاجئة ؟ . ثم قرع خطوات قصيرة متزنة على وقع الألحان التي صارت خافتة على الخشبة التي كان يتوهمها بامتدادها المنبسط وستيفان يترقبه بعينيه المستفسرتين وإذ به يلتفت في حركة واهنة باسطا يديه المرتعشتين قائلا في حدة : يا أشراف المدينة !، أيتها الجموع المحتشدة، أيها التجار والرعاة، لن أنصرف من هذا البلاط قبل رفع التهمة الباطلة وقبل أن أخرس أفواه الوشاة من بطانة حاكمكم الظالم . ثم غظ طرفه وأشار بسبابته نحوصدره قائلا في نبرات حيرة وتحول اللحن منبئا باضطراب قريب : أنا !، أنا النبيل ماكسيميليان، أنعت بين أصداء المملكة بتلك النعوت الماجنة ؟! . ثم سار روحة وإيابا بينهم وقد اهتز احتشادهم ضوضاء وهذرا وردائه قد اهتز مع النسمات التي تسللت وارتخى ستيفان يشاهده تحت أضواء الفانوس الباهتة وقد أجل الإستغراب وحدق بجوزيف الذي توقف هنيهة على وقع الألحان التي صارت متسارعة تتعالى بآلات الكمان قائلا وقد وضع كفيه على وجهه : لا !، لا !، إنه العار والوهن، لا بد أن أضع حدا لهذه المهزلة الساخرة . ولما فقدت السمفونية زمام الترانيم الخافتة ثم استدار بعنف نحوباب القصر الضخم ووضع كفيه على فيه وصرخ عاليا : أيها الإمبراطور، أتسمع ما شاع في أسواق المدينة !، أسمعت ما تمخضت به أفواه المتشدقين، لقد صرت بين أحاديثهم ملهاة عظيمة، أخرج !، خبرهم أنني ما انهمكت معك في ملذات القصور، حاشى لمكسيميليان أن يكون من أهل المجون . ثم قال بصوت صارخ انتفظ له ستيفان : نحن ننتظر البيان من فمك الذي أريقت عليه أصناف الخمور، وننتظر إشارة من يدك التي ينعت من ملامسة الأجساد العفيفة، أخرج وخبرهم بحقيقة أمري ولا أبالي بعدها بمصيري الذي سوف ألقاه . ثم التفت هرعا مرة أخرى نحوالكهنة الذين وجهوا له عتابات قاسية وقد برزت عيناه واتسعت عن غضب مشط : ماذا تقولون أيها الكهنة المولولون، أيتها الفئران الذعورة، يا من تتسترون بأسوار الكنائس وتتنعمون، أيها السفسطائيون، يا أهل المكر والخداع، تريدونني أن أصمت، تريدونني أن أخرس، سحقا لكم وخسئتم، ألا إني لا أؤمن بكم . ثم جعل يمرر يديه أماما في روحة وجيئة : أغربوا عني حالا، انصرفوا، اضمحلوا . ثم تقدم نحوستيفان المذعور وصعد فوق المقعد الطويل الذي خاله مذبحة البلاط وقال مرفوع الرأس : ألا فليشهد جميع الحاضرون في هذه المناسبة التي ستمر أسى على مصيري، بأنني لم أخن المدينة لا في سري ولا في علني، وإنما أردت أن تثبت برائتي أمام العلن من بؤر الرذيلة البخساء، لا بد للحقيقة أن تستنير وتتصدع . ثم

نظر إلى الحشد الذي بان فيه طفل يذرف الدمع قائلا في رفق على آخر ترانيم الشريط : أيها الطفل الباكي أسى على فراقي، لا بد يوما أن يعم السلام على هذه الأرض الطيبة، نعم يا برناردو!، الموت لا ما حالة يلاقيني، ولكن سيستقبل الثرى جثة طاهرة عفيفة، عش بعدي ما شئت ولكن لم يعش يوما من رافقته الخيانة، ستنطق يوما تلك الأفواه العاجزة، وداعا أيها الأشراف وداعا أيها التجار والرعاة وداعا أيها الرفيق برناردووعم النحيب بينهم وانتفضوا يتآسون . ثم توقفت الموسيقى من جوف المذياع الصغيرفهدء جوزيف وتوقفت رفرفة الرداء الأثيني وانجلت الخشبة وعادت حديقة من الكولونيا وانقشعت المذبحة وصارت مقعدا طويلا والمصقلة أمست فانوسا ونظر إلى ستيفان وابتسم ثم قال : ما رأيك في هذا الفصل المسرحي . فاستيقظ ستيفان مصفقا بدهش ثم ضحك وقال متنفسا بعمق : آه، ظننت لوهلة أن ضربا من الجنون أصابك، ظننت أنك من المخبولين، يا لغرابتك، لم يخطر ببالي أنك مولع بالمسرح هذا الولع . فابتسم جوزيف وقال : محظ هوس لا أكثر، ولا بد أن توقن أن المختولين هم أجمل الناس رفقة وصحبة، بهم يقصر الزمان وتعم الفرحة تسيرها الأحلام . ثم أخذ يفكر يحك رأسه : ولكن ! دور المسرح بعيدة عنا ولا يسعني الإلتحاق بها، أيحتم علي أن أتحمل مرارة هذا الفراق القاسي . ثم تهالك على ستيفان وشده من قميصه الأزرق قائلا في غضب : أيحتم علي يا صديقي صاحب الهرة ؟!، أيحتم . فقال ستيفان في ابتسام : بل يوجد الليلة خشبة واسعة لا متناهية مفتوحة على العلن، إن شئت أخذتك إليها . ففك جوزيف وثاقه قائلا في حماس : حالا، الآن أرجوك . فضحك ستيفان وصعد جنب جوزيف فوق المقعد وقال : لكن عدني أن تمنحني فرصة لمشاركتك مقاطعك الممسرحة . فقال في حماس هستيري : سنقتبس من روائع شكسبير . وبدائع غوته . وملاحم هوميروس، فنصوصي لا تلفت الأنظار . فابتهج ستيفان وقال : وسنقحم فلسفات نيتشه . ودولوز . وأفلاطون . وسقراط . وبلزاك . وضحكا في قهقهة تنم عن الغبطة ثم تعانقا ومن كثرة حماسهما تعثر جوزيف بردائه الأثيني وتهاوى على الأرض وعندما أراد ستيفان إدراكه تهاوى معه فسقطا على الأرض سقطة مدوية حتى كادت ضلوعهما تنفصل عن سائر أجسادهما، استيقظا متألمين واستندا بظهريهما إلى المقعد وغرقا في ضحك هستيري لهذه الهفوة الساخرة، ثم إذا بالهرة تقفز فوق رؤوسهما عابثة في مواء مرتفع، فقال جوزيف في نبرة تمثيلية : أيتها الهرة !، ذاك رأسي وليس كنبة ترتعين فوقها . فزادهما ذلك ضحكا على ضحك والهرة تشاطرهما هذه اللحظات العجيبة كبراءة لا تستكين ثورة عبثها عبرا الأزقة المضلمة عائدين أدراجهما، وكم كان مظهرهما مضحكا، هما رفيقين نحيلين بيد أن ستيفان أطول بقليل من جوزيف والفرق بين رأسيهما كالفرق بين درجتين في سلم عريق، ستيفان بهيئته التي يعلوها الوقار والتي لا تنم عن غير فيلسوف حائر يحمل هرته الصغيرة وجوزيف بهيئته الجميلة التي لاتنم عن غير ممثل مسرحي متأهب لخوض عروض بديعة يرفع غطائه الأبيض ومذياعه القديم، جابا أحياء الضواحي المعتمة وعادا إلى المهرجان الصاخب المضطرب، خاضا الزحام المتشنج وتحملا شغب الأطفال وتعثرا بالعربات الجوالة وسخرا من المواكب والفرق الموسيقية حتى أدركا الجمع المحتشد، وقدما عرضا مسرحيا مفلسفا متناسق الأفكار بديع الطلعة محبوك الحركات وكان المذياع بسمفونياته مؤثرات جميلة والهرة تتعثر بينهم . انتبه الجمع المتنكر لهم بتمعن وتأثرا بالفصول الطويلة ولكنهم غضبوا على قولة قالها ستيفان : أيها الجمع المحتشدون المتنكرون، تمعنوا جيدا في ذات ذواتكم، ستوقنون حينها قناع الجسد الذي تسبح ورائه حقيقتكم الروحانية، وها أنتم ترتدون فوق القناع قناعا أيها المخدرون بأفيون التقليد الأعمى، عودوا إلى رشدكم علكم تستفيقون . وبعد أن أتمها تعالى الجمع ولولة وسخطا ونزعوا أقنعتهم وتراشقوهم بها في صولة غضب شديدة، فقال جوزيف : ما بالهم يا صديقي ؟ . فرد ستيفان : إنهم لا يحبون الحقيقة وينفرون منها، هيا لنهرب ! . فحملا الهرة والغطاء ومذياع وهرعا هربا، وظلت الأقنعة تتراشقهم كالحجارة ولما ابتعدا وانسابا من بين الجلبة بصعوبة تنفسا الصعداء واستراحا ثم ضحكا، واستيقظ جوزيف بحركة حادة : أظننتي خائفا منهم يا صديقي ستيفان الحكيم، لوشئت لتحديتهم جميعا و… وما كاد يتم كلماته حتى تعثر بردائه من جديد فوقع على ظهره، فضحك ستيفان حتى سرت آلام ببطنه وقال: أجل، أنا أدرك مقدار شجاعتك يا مكسيميليان المقدام . فضحك جوزيف وقال : إني لأحمد الله أن جمعني بك وبهذه الهرة المسكينة، كنت متشردا مالي أهل ولا رفاق ولكنني الآن رزقت ما كنت أناشده منذ أحقاب بعيدة . فرد ستيفان متوددا : وأنا مثلك، لا زالت الأيام أمامنا يا جوزيف، سنمرح كثيرا وسنمزق مآسينا بمخالب الحلم . وعندها أطلقت الهرة مواء ينم عن الغضب فقال جوزيف وهويداعب فروها الخفيف ناظرا إليها : بالطبع ! وأنت أيظا معنا أيتها الرفيقة الوديعة . وهزهم ضحك وسرور، وهكذا تمردت الصدفة على الأقدار القاسية وجمعت ثلاثة رفاق لا يفرقهم الزمان ولا يزعزعهم عن أحلامهم الجنونية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *