مراجعة لكتاب “أفلاطون في عصر غوغل”




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


القسم الأول

ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين Rebecca Newberger Goldstein : روائيّة وفيلسوفة وأستاذة جامعيّة أمريكيّة عرفت بأعمالِها الروائيّة الّتي تثير موضوعات فلسفيّة قديمة أو معاصرة ، و ربّما ليس هناك وصف أفضل لأعمال غولدشتاين من ذلك الّذي قدّمته مؤسّسة ماك أرثر MacArthur Foundation عند منح جائزتها لغولدشتاين عام 1996 ، فقد ورد في أسباب منحها هذه الجائزة : “تعدّ روايات غولدشتاين بمثابة مطارحاتٍ فلسفيّة مصاغة في قالب دراميّ من غير تضحيةٍ بمتطلّبات الخيال الروائيّ ، وتروي أعمالها عادةً حكايات جذّابة تصف العلاقة بين العقل والمشاعر بتشويق و تعاطف وأصالة .تواجه شخوص غولدشتاين الروائيّة معضلات الوجود والإيمان – سواء الدينيّ منه أو ذلك المتعلّق بقدرة المرء على استيعاب الظواهر الغريبة المحيطة بالعالم الطبيعيّ – باعتبارها حالةً مكمّلة للوجود الأخلاقيّ والعاطفيّ للفرد ، وقد برهنت روايات غولدشتاين أنّها محاولات ناجحة لتأكيد قدرة الرواية على أن تكون الوسيط الذي يمكّن القرّاء الشغوفين من مقاربة أسئلة الأخلاقيّات و الوجود بكثير من الرّصانة والمتعة ” .

ولِدت ريبيكا غولدشتاين في مدينة نيويورك الأمريكيّة في 23 شباط 1950 و درست الفلسفة في كلية برنارد و حصلت على شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون ثم قامت بتدريس الفلسفة في عدد من الجامعات منها : كولومبيا ، رتجرز ، برانديس ،،، و حصلت على جائزة ( ماك أرثر ) المرموقة عام 1996 وكتبت عدداً من الكتب نذكر منها : ( إشكالية ثنائية العقل – الجسد The Mind – Body Problem ) عام 1983 ، ( خواص الضوء : رواية عن الحب والخيانة والفيزياء الكمية Properties of Light : A Novel on Love , Betrayal and Quantum Physics ) عام 2000 ،( عدم الإكتمال : برهان ومتناقضة كورتغودل Incompleteness : The Proof and Paradox of Kurt Godel ) عام 2005 ، ( خيانة سبينوزا Betraying Spinoza ) عام 2006 ، ( 36 دليلاً على وجود الله : 36 Arguments on the Existence of God ) عام 2010.

أحدث كتب غولدشتاين هو المعنون ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة Plato at the Googleplex : Why Philosophy Won”t Go Away ) الذي طرِح في الأسواق في آذار 2014 ويلقي الضوء على التقدّم الهائل الذي أحرزته الفلسفة وإن كان غير مرئي غالبا، وبالتالي يبشّر بالقدرة المدهشة للفلسفة على مغالبة موتها المزعوم الذي روّج له ستيفن هوكنغ ؛ ففي الوقت الذي نشهد جميعاً في أوقاتنا الحاضرة أثر التطورات الهائلة التي يجترحها العلم والتقنية ونشهد في الوقت ذاته كيف غيّرت هذه التطورات وبطريقة هائلة في فهمنا لكينونتنا الفيزيائية والعقلية صار من السّهل على البعض أن يعدّ الاشتغال الفلسفي محض فعّالية غير منتجة ولاتفضي إلى نتيجة مؤثّرة ، و تبرز أمامنا شاخصةًّ المقولة التي أطلقها نبيّ الفيزيائيين المعاصرين ( ستيفن هوكنغ ) الذي جادل بقوة ودافع عن فكرته النبوئية القائلة بالموت الوشيك للفلسفة في عالمنا المعاصر ، ومع انّ غولدشتاين صرّحت غير مرّة أنّها أحبّت الفيزياء واجتهدت ان تكون فيزيائيّة مرموقة لكنها ترى أنّ العلم يعمل في فضاء يختلف عن الفضاء الفلسفيّ ، وانّ الفلسفة تخدم أغراضاً ليس بإمكان العلوم الطبيعيّة أو الإنجازات التقنيّة الإيفاء بها بنجاح وتمكّن كما تفعل الفلسفة ، وبهذا الفهم تكون الفلسفة نوعاً من ترياقٍ للحفاظ على نمطٍ من التوازن العقليّ والسايكولوجي للإنسان وإبعاده عن الانزلاق في وهدة الخواء العقليّ وتبعاته القاتلة .تزوّجت غولدشتاين عام 2007 من عالم السايكولوجيا المعرفيّة ( ستيفن بينكرSteven Pinker ) الّذي يعمل أستاذاً في جامعة هارفرد وقد نشر العديد من الكتب المهمّة في ميدانه المعرفيّ ومن أهمّها كتاب ( مادّة الفكر : الّلغة باعتبارها نافذةً على الطبيعة البشريّة ) المنشور عام 2007 . عقدت غولدشتاين حوارات عديدة مليئة بالطرافة والحيويّة مع زوجها ومن بينِها حوار استغرق أربع ساعات ظهر في أحد أعداد مجلّة ( Seed) عام 2004 .أقدّم في الفقرات التالية عرضاً شيقا لكتاب غولدشتاين نشرَهُ البروفسور كولين ماكغن Colin McGinn بصحيفة ( وول ستريت جورنال ) في عددها الصادر بتأريخ 7 آذار 2014 ، ونلمح في هذا العرض مقاربة معاصرة للمفاهيم الأفلاطونية تتناغم مع معضلات حياتنا الحديثة ، ولابد من التنويه هنا أن البروفسور ماكغن هو ذاته فيلسوف بريطاني درّس الفلسفة في جامعات مرموقة عدّة مثل : أكسفورد ، روتغرز ، ميامي ، وقد ألّف مايزيد على الخمسة والعشرين كتاباً في مختلف الموضوعات الفلسفية ، وأشيرُ بخاصة إلى كتابه الأقرب للسيرة الذاتية والمعنون ( صناعة فيلسوف : رحلتي مع فلسفة القرن العشرين ) المنشور عام 2002 . 

 المترجمة
__________

كتبت ريبيكا غولدشتاين كتاباً مناسباً في توقيت نشره وتناوله لأحوال عصرنا هذا من خلال اصطحابنا في جولة نطوف فيها بأرجاء عصر قديم : عصر الإغريق القدماء . تبتغي غولدشتاين من وراء رحلتها هذه أن تستكشف ما الذي يمكن أن تعلّمنا إياه أعمال أفلاطون بشأن الحياة التي تستحق أن تُعاش ، والسياسة ، وتنشئة الأطفال ، والحب والحنين ، والمعرفة والواقع ، والدماغ والعقل ، والخيريّة Goodness والجمال ،،، وتوفقّت السيدة غولدشتاين أيما توفيق في كتابها هذا الذي أراه ملهماً في استبصاراته ومهمّاً ومتوهّجاً بالذكاء والألمعية . يُعاد بعث أفلاطون في هذا العمل إلى الحياة بطريقة طافحة بالسحر والدهشة ، وكتلويحة تحية واجبة له تمضي السيدة غولدشتاين في الدفاع عن الفلسفة والوقوف بوجه ماندعوهم “الساخرين” منها – هؤلاء الذين يدّعون في حومة تهوّرهم العجول وغير المتبصر أن الفلسفة لاتنطوي على أية مادة فكرية معتبرة وليس لها من مستقبلٍ مرتجى في خضم سيادة النزعة العلمية المتطرفة . 
يضمّ كتاب ( أفلاطون في عصر غوغل ) فصولاً عدة تحوي مناقشات منظمة تنظيماً مرموقاً ومشفوعة بمواقف تخييلية لأفلاطون وهو يجول في مواقع مختلفة : نرى أفلاطون مثلاً في أبنية الإدارة الرئيسية لشركة غوغل وهو يروّج لأحد كتبه ، ونراه أيضاً في جلسة نقاشية معقودة في الجادّة المسمّاة ( 92nd Street Y ) بمدينة مانهاتن النيويوركية ، ونراه مرة أخرى يعمل مستشاراً لأحد كتّاب الأعمدة الصحفية الخبراء ، ثم نراه لاحقاً في جلسة حوارية منقولة عبر أخبار الكيبل ، وفي موضع آخر نراه يُجري فحصاً دماغياً في أحد مختبرات العلوم العصبية ، ولاتتردّد السيدة غولدشتاين في توظيف مهاراتها الروائية بما يمنح موضوع الكتاب تأثيراً متعاظماً من خلال تضمين المفاهيم المجرّدة في السرديات الحديثة الصارمة التي يضمّها الكتاب . 
في إحدى محطات الكيبل الإخبارية نرى أفلاطون وهو يُشوى شيّاً على يد أحد المُحاورين الذي لايعرف الخوف طريقاً إلى قلبه وهو يلتقي ضيفه الإغريقي المميّز فيروح يخاطبه : ” حسناً ، أخبرَني الزملاء أنك شيء مهم في الفلسفة ، سيد أفلاطون . سأخبرك وعلى نحو هجومي مباشر – على اعتباري واحداً من أولئك الشباب الهجوميين الذين لايفتعلون الكياسة والتحضر – أنني لا أحمل أي تقدير تجاه الفلاسفة .” ، فيجيبه أفلاطون ببرودة طاغية: ” الكثيرون يشاركونك الأمر ذاته . إن عبارتك هذه تحتمل طيفاً واسعاً من ردّات الفعل – بدءا بالتقدير والدهشة وانتهاء بالانتقاد الصارخ . يرى بعض الناس في الفلاسفة أفراداً غير ذي أهمية في حين يراهم آخرون مستحقين لنيل كل مايوجد في العالم !! ومن جانبهم ،فإن الفلاسفة يبدون أحياناً رجال دولة ويبدون متصوّفة زاهدين في أحيان أخرى ، وقد يشعر المرء إزاءهم أحياناً وكأنه يجالس جوقة من المعتوهين ! “بالطبع يفوز أفلاطون في كل حجة من حججه على الرغم من أنّ مُحاوريه يفشلون في رؤية نجاحه ذاك : على سبيل المثال في أحد فصول الكتاب المصمّمة جيداً لتناول طروحات العلوم العصبية المعاصرة يحصل أن يتطوع أفلاطون ليكون شخصاً تُجرى عليه تجربة في التصوير الشعاعي المقطعي لدماغه ، ويمضي حينها الدكتور ( شوكيت ) في التعامل مع أفلاطون والفلسفة بسخرية يخالطها المزاح وهو يرمي من كل هذا إلى عرض نكرانه المطلق لكل مايتفوّه به أفلاطون ، لكن أفلاطون من جانبه لم يلقَ عنتاً في تفنيد أفكار (شوكيت) الاختزالية المفرطة والتي جوهرها هو أنْ ليس ثمة من أشخاص أو نوايا أو معتقدات أو أية صلات سايكولوجية ماخلا وصلات عصبية محفّزة آلياً ( في الدماغ البشري ) . إن المختص بالعلوم العصبية خلط بطريقة مربكة بين الآليات الفيزيائية التي تجعل الظواهر العقلية ممكنة وبين الظواهر العقلية ذاتها !! ، وبقدر مايتعلق الأمر بي فأنا أوصي بهذا الفصل على وجه التحديد ليقرأه كل هؤلاء المتعصّبين ضيقي الأفق الذين يرون أننا نقف على عتبة إزاحة الفلسفة وإحلال العلوم الدماغية محلها. 
قد يبدو اعتداد السيدة غولدشتاين بنفسها مبالغاً فيه قليلاً ، ولكن مداخلات أفلاطون كانت غاية في الفائدة إلى جانب أنها أدخلت سقراط طرفاً في تلك المداخلات وجعلته يقف موقف الخصومة مع الأثينيين ( سكّان أثينا في نحو القرن الخامس ) . فعلت السيدة غولدشتاين شيئاً سليماً عندما جعلت الكتاب يتناول موضوعات لها من الشمول ومسؤولية التناول بقدر ماتحتويه المحاورات الأفلاطونية الأصلية بشأن : الحكومة العادلة ، تعليم الأطفال ، القسر والإقناع ، القيم الكونية الكلية ، معنى الحياة،،، .يجادل أفلاطون بشأن أهمية الخبراء الأخلاقيين ويقف بالضد من فكرة ( مراكمة المصادر الجمعية ) – الفكرة التي تتأسس على الإستجابات المتراكمة للحشود الكبيرة ، ويصرّح أفلاطون أن تلك الفكرة لايمكن أن تكون وسيلة جيدة لبلوغ خيارات أخلاقية ملزمة يعتّدُّ بها ، ويدافع في مقابل ذلك عن تدريب المحاكمة الأخلاقية الصارمة لدى أقلية نخبوية فحسب . تعقد السيدة غولدشتاين مقارنة بين الأخصائي في علم تقويم الاسنان والمختص في الأخلاقيات : لا أحد سيلجأ إلى اختيار اختصاصي تقويم أسنان لم ينل تدريباً كافياً في ميدان اختصاصه ، ويجادل أفلاطون ( وتوافقه السيدة غولدشتاين ) أننا ينبغي أن نفسح المجال لفكرة التدريب المهني في ميدان الأخلاقيات بغية إعداد هؤلاء الذين نتوسّم فيهم القدرة والكفاءة لتقويم أسناننا الأخلاقياتية “المُعوجّة” متى وجدت .بالنسبة إلى أفلاطون فإن تعليم الأطفال ينبغي أن يتأسس على الإحساس بالجمال المتأصل في كل كائن إنساني ، وتبعاً لهذا فإن جمال الرياضيات أمر أساسي للغاية في أي تعليم رياضياتي لائق . يبتغي التعليم في مراقيه العليا – كما يرى أفلاطون – تحرير الكائن الإنساني من ربقة الوهم والتمركز الذاتي الطاغي ، وينبغي أن يساعدنا التعليم على رؤية الواقع مجرّداً من كل منظوراتنا الشخصية التي نحاول خلعها قسراً على الواقع ، ومن البديهي أن رؤية أفلاطون هذه لاتتناغم كثيراً مع المنظورات البراغماتية ( العملية ) للتعليم والتي تؤكد على مجرد المهارات والخبرات التقنية.
________
*المدى

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *