فواتح الروايات

(ثقافات)

 

فواتح الروايات

شكري المبخوت

كنت قد تحدّثت بالميسنجر مع صديق تهيّب كتابة الرواية رغم قدراته السرديّة الممتازة التي كشف عها في سرد قصّة قصيرة فقدّمت له بعض “النصائح” والحيل من باب التحفيز على مغامرة الرواية. لن أروي لكم “نصائحي الثمينة” لكنّني ذكرت له روايات من بينها هذا الرواية العجيبة للكاتب الكوبي ليوناردو بادورا (Leonardo Padura) المنشورة صورة غلافها هنا وكنت قد بدات فيها بعد أن نصحني بها الصديق الناشر شوقي العنيزي واقتناها لي من حرّ ماله (في الحقيقة اهداها له المشرف على جناح دار المدى في إطار التبادل بين الناشرين) ولم يكتب لي أن أشرع فيها إلا هذه الأيّام.
ولكن لماذا نصحت صديقي القصّاص بقراءتها؟ قلت له كلاما كثيرا عنها والآن اكتب هذه الرمضانيّات على سبيل استدراك ما فاتني قوله له ومواصلة للمحاورة معه (أكبر ظّنّي انّه سيقرأ التدوينة).
تركت رواية بادورا على رف في مكتبتي ولكن خطر لي يوما أن اتصفّحها فشرعت في قراءة الصفحة الأولى. ومن يومها صرت أخشى أن أفرغ من مطالعتها بسرعة فقرّرت أن أترشّفها مع القهوة كلّ يوم.
عادة، حين تفتح الصفحة الأولى من الرواية وتقرأ الجملة الأولى منها يتقرّر مصيرها بين يديك نفورا او إقبالا وانشدادا إليها أو رغبة عنها. أما بقيّة الرواية فتدعيم للانطباع الأوّل أو تكذيب له. لذلك تحتاج الجملة الأولى والصفحات الأولى من الرواية إلى عناية خاصّة حتّى تغري القارئ وتنصب له الشراك اللازمة التي لا فكاك له منها إلا بالوصول إلى آخر جملة منها. (طبعا توجد حيل أخرى لملاعبة القارئ بين الفاتحة والخاتمة وفي أدراج تحوّلات السرد كنت قد ذكرتها لصديقي).
وقد يرى يعضكم أنّه من التعسّف الحكم على رواية من جملها وفقراتها وصفحاتها الأولى لكنّ تجربتي في القراءة تؤكّد أنّ الفكرة ليست غالطة. إنّ الفاتحة تمنح الرواية منذ البداية إيقاعها الخاصّ وتدرج قارئها في عوالمها المتخيّلة وتكشف له اللغة التي سيصغي إليها طيلة النّصّ.
لنتذكّر فقط الفقرات الأولى من “الأيّام” لطه حسين وهي تعادل الرواية كلّها بفصولها جميعا مثلا (“لا يذكر لهذا اليوم اسما ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من اليوم والشهر والسة… إلخ) أو فاتحة العبقريّ الطيّب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” (“عدت يا سادتي بعد غيبة طويلة من بلاد تموت م البرد حيتانها….). إنّها كالأبيات المصرّعة في جياد القصائد.
وحين عدت للتثبّت من فاتحة رواية بادورا وجدتها فاتحة مبهرة على بساطتها الظاهرة ولكنّها مكتنزة بدلالات ينشرها الرواية في ما بعد. وأتوقّع أنّها مطلعها هذا ينبئ عن مقطعها وإن لم أصل إلى خواتيم الرواية.
وحتى لا ننسى أدبنا التونسيّ أذكر أنّني حين قرأت رواية أميرة غنيم “نازلة دار الأكابر” لتقديمها بطلب من ناشرها شدّتني تلك الفاتحة العجيبة التي تنتقد فيها البلديّة بعنف رأينا صوره في فصول الرواية كلّها. (كت قد اكذطلعت قبل التقديم على بعض الفصول ولكن ما أضافته غيم على سبيل الفاتحة ينمّ عن ذكاء كبير في السرد)

إذن نصيحتي الأخيرة لصديقي هي ان يظلّ يفكّر طيلة كتابة روايته في فاتحتها حتّى يعثر على الصيغة الأنسب لها. فالمفارقة أنّ الفاتحة هي آخر ما يكتب او آخر ما يقرّر الروائيّ تثبيته في الرواية.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *