(ثقافات)
كيف نعيد إلى الكتابة ألقها دون أن نسطّح العمق
أبو بكر العيادي
هذه مختارات من مقالات دأبت على كتابتها أسبوعيّا في جريدة العرب اللندنية، طيلة سنوات. وقد راعيت في جمعها تاريخ كتابتها، حتى يتلمس القارئ والناقد والدارس القضايا التي تشغل بال كاتب مهاجر، يعيش بين ضفتين ولغتين وثقافتين في مرحلة من مسيرته الأدبية. وقد نذرت لها من الوقت والجهد ما أنذره لأعمالي الأخرى، سواء في الإبداع أو الفكر أو الترجمة، ذلك أن المقالة، على وجازتها، ليست مركبا سهلا، وصعوبتها متأتية أساسا من وجازتها تلك، إذ كيف يمكن أن نصوغ فكرة ونحللها ونتخذ موقفا حيالها في عدد محدود من الكلمات، وكيف يمكن أن نتجنب الحشو إذا تمّت الفكرة قبل استيفاء المساحة المخصصة، وكيف نلجأ إلى البتر دونما أثر بادٍ للقارئ إذا ما جاوزت تلك المسافة.
وليس من الهيّن أيضًا أن نقف كل أسبوع على فكرة نادرة، أو حدث هامّ، أو قضية جوهرية، يمكن طرحها وإبداء الرأي فيها. وهو ما طرحته في مقالة حول أطوار تشكّل الفكرة، وكتّاب العمود أو الزاوية أو الرأي يَعرفون أن من الصّعب أن نأتي بفكرة جديدة كلّ أسبوع، وأحيانا كلّ يوم، في عالم قيل فيه كلّ شيء تقريبا، حتى أن شغلهم الشاغل يكاد ينحصر في الإجابة عن السؤال: “ماذا سنكتب هذه المرّة؟” وفي استحضارٍ دائم لما سبق أن تناولوه لتجنّب التكرار، وتخيّر ما يعتقدون أنّ فيه إفادةً للقارئ. ويزداد الأمر عسرًا والذهن استنفارًا والأعصاب توتّرًا إذا حان أوان النشر والفكرة الصائبة لم تتشكّل بعد، يل يحدث أن تكتمل المقالة دون التوصل إلى عنوان مناسب، يرسم أجواءها والقضية التي تطرحها دون أن يكشف عن تفاصيلها ولا عن موقفه منها. ذلك أن المقالة، كالقصة القصيرة، في بنيتها التقليدية على الأقل، لها بداية مشوقة، يليها تصعيد تتشابك فيه الآراء والنبش في التفاصيل للوصول إلى ذروة يعقبها انفراج، يتبدى في الموقف الذي يتخذه الكاتب من القضية المثارة، بالتصريح البيّن، أو بالتلميح المستند إلى مقولة لعلَم من أهل الفكر والأدب والعِلم والسياسة ممّن يعتدّ برأيهم، فيكون كالمثل الذي يلخّص فكرة ما في كلمات وجيزة تصيب المعنى يلجأ إليها الكاتب لدعم طرحه. وقد تكون النهاية مفتوحة، تدفع القارئ إلى النقاش وإبداء الرأي، أو الاعتراض على ما ورد في المقالة، داحضًا ومصوّبا ومحيلا على شواهد غفل عنها الكاتب، أو مستفسرا عما أشكل عليه.
ولذلك، تجدني أراوح بين القدامة والحداثة، بين منابع تراث نيّر في الشرق والغرب، ومنجزات هذا العصر من فكر وآداب وفنون، وسبل الاستفادة منها، فلا أتقيّد بقيد، أو ألتزم بحقل معرفي دون سواه، ولا بمجال ثقافي دون غيره، فغايتي هي إثارة موضوع جدير بالنقاش، مستوحى أحيانًا ممّا يُثار في فضائنا الثقافي العربيّ، وأحيانًا ممّا يجدّ في السّاحة الفرنسية والعالميّة، ومستمدّ في أحيان أخرى من تراثنا ورأي الغابرين في قضايا حارقة حسبناها محسومة، فإذا هي تُطالعنا من جديد في أكثر من وجه.
صحيح أن واقعنا العربي يمور بتحولات مذهلة، لا تتخذ في الغالب مسار النمو والتطور والازدهار المنشود، وقد عالجت بعض مظاهرها، دون إلحاح، حتى لا أنحدر إلى حقل السياسة، ولكن الواجب يقتضي مني أن أركز أحيانا على العوامل المعطّلة لذلك المسار، وأملك الشجاعة على فضح السّاعين إلى تكريسها، لا كأشخاص، بل كفكرة نكوص وشدّ إلى الوراء، مثلما يقتضي طرح مسائل جديدة مستوحاة مما يمور به العالم المتحضّر من مستجدّات، ويطرحه مجتمع المعرفة من نظريات، كفرضية غياب الزمن، وذاكرة المستقبل، وعلاقة العلم بالقوة، وعودة اليوتوبيا، والدكتاتورية الناعمة، ولا سيّما الدعوة إلى القراءة دون مقدّمات نظرية؛ والمعروف أن النظرية الأدبية مقاربةٌ مفهومية للنصوص الأدبية من خلال تبيّن المقوّمات الفنية التي تقوم عليها تلك النصوص، بطريقة تتوسل بمناهج محددة، ولكن تطبيق تلك النظريات في المجال التعليمي بوصفها أساليب يُستأنس بها لمقاربة النصوص المقررة نفّر المتعلمين منها، لأنها تضطرهم إلى التعامل مع النصوص المقترحة وفق الأساليب النصية وحدها، وتضطرّهم أيضًا إلى نبذ أنماط التلقي العادية التي تحيل النص على الواقع وتتكئ على التأثر والانفعالات.
كذلك التاريخ الذي أراده بعضهم أداة توظف سياسيا لخدمة فئة أو شخصية ما، على غرار ما كان جاريا وما زال يجري حتى في البلدان الغربية، بالتوازي مع تطبيقات التاريخ العلمية كما وقع تحديدها منذ نهاية القرن التاسع عشر. فالتاريخ في تصور تلك الفئة يقوم على أحداث وشخصيات كبرى ولحظات قوية غالبا ما تُقدَّم في شكل ملحمي، إذ يُستعمل شارلمان أو نابليون مثلا في كتب التاريخ الفرنسية كما تُستعمل الإلياذة أو سيد الخواتم، فيثير الخطاب النزعة الوطنية أكثر مما ينير العقول، ويساعدها على فهم ما جرى. والذين يعيبون عليهم هذا النهج لا يختلفون عنهم إلا من حيث تفضيل حدث على آخر وشخصية على أخرى. أي أنهم يتخذون من التاريخ محكمة لمقاضاة قادة داثرين، للحكم لهم أو عليهم، والحال أن التاريخ، بالمعنى العلمي للكلمة، ليس محاكمة. فهو لا ينتمي إلى السياسة ولا إلى علم الجماليات أو الأخلاق، بل إلى العلوم الاجتماعية. ويتميز بمنهجيات وإجراءات يتم تطبيقها على مصادر متنوعة عبر فرضيات وتأويلات تقع مناقشتها مع أهل الاختصاص فرادى أو ضمن مؤسسات علمية، وتتوق في مجملها إلى أفق محدد هو فهم المجتمعات البشرية في الزمن والفضاء الجغرافي، وشرحها عن طريق البحوث العلمية، وكذلك الكتب والمجلات والمعارض والبرامج الموجهة للجمهور العريض. لأن التاريخ في جوهره ليس مشايعا أو مواليا، ولا يقدّم دروسا مباشرة، بل هو يمثل وجهة نظر، هي وجهة نظر العلم، ويؤدي مهمة هي محاولة شرح العالم في مسيرته عبر العصور. ولئن كان غير معزول عن المجتمع الذي يحيط به، بتداول نزاعاته وتغّير قيمه، فإن مشروعه الفكري يرمي في الحدّ الأدنى إلى وضع كل ذلك على حدة، حتى يستطيع بناء علم مستقلّ بذاته. بيد أن هذا المطمح العلمي ليس غاية الجميع، إذ ثمة فريق يريد إقحام رؤيته الأيديولوجية في مخيال شعبي ينظر إلى الماضي نظرة مانوية، فيما التاريخ، بالنسبة إلى الباحث والطالب، مشكل فكريّ مثير ومحفّز، وليس حلاّ مطمئنا للتمييز بين الخير والشرّ، وتمجيد الأبطال الميتين أو لومهم وقدح سيرتهم.
كلّ ذلك يُقدَّم إلى القارئ بأسلوب يرغّبه في القراءة، بعيدًا عن المقاربات الأكاديمية، فالشرط في المقالة أن توجز دون إخلال، وتبلّغ دون إسفاف، وما تلك إلا محاولة مني للعودة إلى العصر الذهبي للمقالة الأدبية، واعترافا بأساتذتنا الذين نهلنا منهم ما تيسر من المعرفة من طه حسين إلى مارون عبود، ومن سلامة موسى إلى ميخائيل نعيمة… لإيماني بأن المبدع مدعوّ أيضًا إلى إبداء رأيه في أمهات القضايا التي تشغل مجتمعه، ولا يكتفي بقرظ الشعر وحبك الرواية، فقط.
وهو ما لخّصه الأستاذ شوقي العنيزي في ظهر الغلاف بقوله: “يعود بنا الروائيّ والمترجم التونسيّ أبو بكر العيّادي في هذا الكتاب إلى أدب المقالة، ليعتصر في قطراتٍ من الضوء قضايا فكريّةً وأدبيّةً كادت تصبح أسيرةَ الكُتب الأكاديميّة المثقلة بالمصطلحات والمفاهيم، وكاد قارئها لا يغادر مجال التخصّص. كيف نذوّب تلك المفاهيم والمصطلحات ونخرج بها من ضيق الثقافة العالمة إلى عالم القراءة الوسيع؟ كيف نعيد إلى الكتابة بساطتها ومرَحَها دون أن نسطّح العمق؟ تلك هي بعض الرهانات التي يرفعها هذا الكتاب وهو يقارب أسئلة الكتابة والقراءة والترجمة، ويتناول وضعيّة المثقّف وتحوّلاته، وتقاطعات الأدب بالفلسفة، ومنزلة الإنسان في عالم تطوّقه وسائل الاتّصال وتعصف بالمتقبّل فيه رياح الوسائط المتعدّدة. ما الخيال وما التخييل وما الكذب؟ وأين تكمن الحقيقة؟ لماذا عاد خطابُ النهايات بقوّةٍ؟ وكيف يُصبح الكتاب أثرًا أدبيًّا؟ هل ننتظر التاريخ لكي يجيب؟ وهل التاريخ محكمة؟”
ذلك ما تكشف عنه القراءة وحدها، القراءة دون مقدّمات نظريّة.
(أبو بكر العيادي – هل التاريخ محكمة، مسلكياني، أبو ظبي 2022.)
مرتبط
إقرأ أيضاً
مدخل إلى عالم الكتابة*عبدالله بن عمر"عمل الكاتب.. الكاتب وهو يعمل" عنوان كتاب ألفه الباحث أحمد المديني في نحو…
أن تكتب من دون قارئ!*أمجد ناصرتبدأ الكتابة -رغم كونها نتائج العزلة- من افتراض وجود القارئ، وهي بهذا المعنى فعل…
كيف لي أن أنام ...!سميح القاسم *واضحٌ كُلُّ شيءٍ هُنا واضحٌ.. لا غُبار على شُرفةٍ أو ضَبابْ محنةُ الحلمِ…