*أمجد ناصر
تبدأ الكتابة -رغم كونها نتائج العزلة- من افتراض وجود القارئ، وهي بهذا المعنى فعل تواصل وحوار.. وتحقق. كل كتابة تطمح في دوافعها الأولى إلى اقتراح نفسها على القارئ، وقد تتجرأ وتفكر أن تلعب دورا في حياته غير مدركة -ربما- أن القارئ (هذا الشريك الصامت للكتابة) يلعب اللعبة نفسها: يقترح نفسه على الكتابة ويلعب دورا في شكلها ومضمونها.
لكن الكاتب في “المنفى” (سأستخدم هذه الكلمة بوصفها رديفا لـ “المهجر”) محروم من هذا الجدل بين الكتابة والقراءة، أو كان هكذا إلى أن وضعت تكنولوجيا الاتصالات بين يديه أدوات تواصل افتراضية، وهي ليست موضوعي اليوم، كما أنها لم تمتحن على هذا الصعيد بما يكفي للقول إنها أقامت التواصل السحري بين طرفي معادلة الكتابة، لذلك لن أتوقف عندها في هذا المقال، وأعود إلى الكاتب في “المنفى”.
إنه يكتب في أفق خال من القراء، أو في أفضل الأحوال يكتب لقارئ بعيد لا يراه ولا يعرف ردود فعله. فعندما يكون الكاتب في بلده فهو يكتب إلى قارئ يعرفه ويحتك به. قارئ يقترح، يصحّح، يحيي، أو يمارس عليه ضغوطا تطال الموضوعات التي يطرقها والأسلوب الذي يكتب به.. قارئ يتدخل في حياة الكتابة وربما في حياة الكاتب، والأمر الأخير ليس مستبعدا في العالم العربي.
للكتابة في “المنفى” وجهان: الأول أن الكاتب يفقد التماس الذي كان قائما بينه وبين “متلقيه” في وطنه الأول ويشعر بمرور الوقت أنه يكتب لنفسه.. أنه هو جمهور نفسه، فيغيب أو يضعف، حافز التواصل. تصبح الكتابة ابنة العزلة، لا في ما يخص لحظة الإنتاج الأولى التي هي دائما كذلك، ولكن بما يخص “لحظة التداول”.
الوجه الثاني أن الكتابة في شرط كهذا تتحرّر من الضغوط التي يمارسها “الخارج” (الرقيب والقارئ معا، والأول لا يزال موجودا بقوة في العالم العربي) فلا تعود تخضع لـ”الخطوط الحمر” التي تسهر الرقابة عليها وتحمي حرماتها سواء تعلق الأمر بالسلطة السياسية، الدين/ أم بالقيم الاجتماعية المرعية.
ففي قسم كبير من العالم العربي لا يزال على الكتابة أن تمشي كما لو كانت في حقل ألغام، بين المحرمات الثلاثة الخالدة: الدين والجنس والسياسة.
ونادرا ما يتمكن الكاتب المعني بهموم لحظته من التعبير عنها (.. وعن نفسه) بلا مساومة من دون أن يفجر فيه أحد هذه الألغام. وهناك أمثلة عديدة -لا ضرورة لذكرها- على كتاب حوكموا، أو سحبت منهم جوازات سفرهم أو طُلّقوا من زوجاتهم بسبب خوضهم في ما تعتبره الدولة، أو المجتمع، خطوطا حمرا.
فإذا تمكنت الكتابة في “المنفى” أن تنجو من الشعور بالإحباط وغياب الحافز اللذين يولدهما عدم وجود “المتلقي” فيمكن لها، والحال، أن تغامر، أن تتقدم أكثر في فضاء التجريب سواء على صعيد الموضوع أم الشكل.
في هذه الحالة قد يضمر البعد السوسيولوجي للكتابة وتصبح أقرب ما تكون إلى نفسها. أي ترجح الكفة الفنية على حساب الوظيفة المباشرة المتوقعة من الفعل الكتابي. فما دام التواصل غائبا، أو شبه غائب، فليس على الكتابة أن تخشى “الخطوط الحمر” والتجريب، وهما أمران يخضعهما “التلقي” في الوطن إلى شروطه التي يسنّها ويحرسها القانون أو مستوى التلقي أو حتى الذوق العام.
لكن هذا لا يعني أن تأثير الكتابة في “المنفى” معدوم تماما. ليس الأمر على هذا النحو القاطع. فتأثير “كتابة المنفى” يمكن أن يلمس على الكتابة في “الوطن”.
يصبح الكاتب في “المنفى” مثالا في اجتياز “الخطوط الحمر” التي من الصعب على الكاتب في “الوطن” اجتازها من دون أن يخشى على نفسه، كذلك يصبح رائدا -أو لنقل- طليعيا في ارتياد آفاق التجريب التي قد لا تنسجم مع الذائقة العامة للتلقي في الوطن.
إن تاريخ الأدب العربي يقدم لنا مثالين على ذلك، المثال الأول: الدور الذي لعبه من نسميهم بـ”المهجريين” وهم مجموعة شعرية عربية (لبنانية، سورية على الأغلب) قذفت بهم ظروف حياتية مختلفة في مطلع القرن التاسع عشر إلى أميركا الشمالية والجنوبية، وشكلت كتاباتهم الشعرية المستجيبة نسبيا، للتبدلات التي طرأت على العالم العربي وإلى حاجة الشعر العربي نفسه للتغير، بداية “التحديث” في الشعرية العربية.
أما المثال الثاني الذي لم يتم فحصه بعد ولم يتحول إلى منجز منظور فهو ما أسميه، ويتفق معي في ذلك عدد من الكتاب والشعراء العرب، بـ”المهجرية الجديدة” التي لا توجد في الأميركتين هذه المرة بل في أوروبا التي تضم اليوم عددا كبيرا من الكتاب والشعراء والفنانين التشكيليين والمفكرين والإعلاميين من مختلف الأقطار العربية.
ففي العشرين سنة الماضية قذفت الحروب والصراعات الأهلية وانعدام حريات التعبير في أكثر من بلد عربي بموجات من المثقفين العرب إلى أوروبا، ولم يتغير الوضع كثيرا حتى بعد سقوط بعض أنظمة الاستبداد العربية، بل ربما سنشهد موجات جديدة منهم بسبب الصراع المحتدم على مجريات المرحلة الانتقالية في أكثر من بلد عربي، واحتمال تحوله إلى عنف مفتوح.
بدأت هجرة المثقفين (والإعلاميين) العرب الجديدة مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولم تنته فصول من الصراع الدموي المجنون بين النظام الجزائري والجماعات الاسلامية، فضلا عما عرفه العراق من حروب متواصلة.
هكذا تكوّن لدينا “مهجر” أو “منفى” (لا أعرف أي التسميتين مناسبة أكثر) لم تعرفه الحياة العربية من قبل. لم يعد “المنفى” خاصا بالفلسطينيين كشعب مقتلع من أرضه، بل تمت “فلسطنة” المثقفين العرب، ليس على يد اسرائيل وإنما على أيدي أنظمتهم التي تهاوى بعضها مؤخرا، ولا يزال بعضها الآخر “صامدا”.. إلى حين!
أصبح لدينا “منفى” للثقافة العربية في الغرب لا يشبه “المهجر” القديم وما حكمته من ظروف ذاتية وموضوعية. وجه الاختلاف الأبرز يكمن- برأيي- في وجود حساسية أعلى في هذه الكتابة حيال مسألة “الذات” و”الآخر”.
فهذا “الآخر” ليس غائبا تماما عن الكتابة العربية عموما، ولكنه في كتابة “المنفى” موجود على نحو أوضح، كما تخضع “الذات” في هذه الكتابة إلى عملية نقد وتشريح تتيحها المسافة بين المثقف العربي في “المنفى” ومكانه الأول، وعلينا ألا ننسى أن هذه الكتابة منتجة -أصلا- بين ظهراني “الآخر”.
ليس “الوعي” بوجود “الآخر” هو ما يميز كتابة “المنفى” العربية عن الكتابة في “الوطن” فقط، بل والتأثير المباشر الذي تمارسه ثقافة هذا “الآخر” عليها. والرأي عندي أن تطور الكتابة العربية (الإبداع عموما) لا يمكن فهمه من دون أخذ المؤثرات الثقافية الغربية في الحسبان.
إن تاريخ “الحداثة” الأدبية والفنية العربية هو في الوقت نفسه تاريخ التأثر أو “الحوار” مع “الآخر” الغربي.
ليست الكتابة في “المنفى” إذن ميؤوسا منها. صحيح أن غياب “التلقي” أو “الحوار” مع القارئ قد يدفع الكاتب إلى الإحباط، لكن قد يدفعه أيضا إلى المغامرة والتجريب وارتياد آفاق محظورة، أو قد لا تتاح لزميله في الوطن.
إنني أفترض -هنا- كما أسلفت من قبل غياب علاقة التواصل بين الكاتب والقارىء، ولم آخذ في الاعتبار الجسر الافتراضي الذي أقامته وسائل التواصل الحديثة بين ضفتي معادلة الكتابة لأني، في الواقع، لست متأكدا من دوره حتى الآن.
كل كتابة تظل ناقصة مهما سعت إلى الكمال، لكن الكتابة في “المنفى” نقصها أوضح، فهي لا تملك مرآة، لذلك تتخيل وجها لا تعرفه، وهنا، بالضبط، يكمن جمالها المؤلم.
_________
* شاعر من الأردن يقيم في لندن (الجزيرة)